التفسير العقدي لجزء عم

آخـــر الـــمـــشـــاركــــات


مـواقـع شـقــيـقـة
شبكة الفرقان الإسلامية شبكة سبيل الإسلام شبكة كلمة سواء الدعوية منتديات حراس العقيدة
البشارة الإسلامية منتديات طريق الإيمان منتدى التوحيد مكتبة المهتدون
موقع الشيخ احمد ديدات تليفزيون الحقيقة شبكة برسوميات شبكة المسيح كلمة الله
غرفة الحوار الإسلامي المسيحي مكافح الشبهات شبكة الحقيقة الإسلامية موقع بشارة المسيح
شبكة البهائية فى الميزان شبكة الأحمدية فى الميزان مركز براهين شبكة ضد الإلحاد

يرجى عدم تناول موضوعات سياسية حتى لا تتعرض العضوية للحظر

 

       

         

 

 

 

    

 

التفسير العقدي لجزء عم

صفحة 2 من 6 الأولىالأولى 1 2 3 ... الأخيرةالأخيرة
النتائج 11 إلى 20 من 58

الموضوع: التفسير العقدي لجزء عم

  1. #11
    تاريخ التسجيل
    Jun 2008
    المشاركات
    11,737
    الدين
    الإسلام
    الجنس
    أنثى
    آخر نشاط
    17-05-2024
    على الساعة
    12:48 AM

    افتراضي

    سورة الهمزة

    د. أحمد بن عبد الرحمن القاضي

    بسم الله الرحمن الرحيم

    وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (1) الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ (2) يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ (3) كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ (4) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ (5) نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ (6) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (7) إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ (8) فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ (9)


    مقصد السورة:

    هذه السورة لها مقصد عظيم: وهو بيان الصلة الوثيقة بين العقيدة، والسلوك؛ إذ أن الله - سبحانه وتعالى - يكشف حال الكافر، وطبيعته النفسية، وتأثيرها على سلوكه الشخصي المشين، الناتج عن عقيدته الكفرية بالبعث.


    (وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ):

    (وَيْلٌ) كلمة وعيد، وتهديد. وقيل: إنها اسم وادٍ في جهنم.

    (لِكُلِّ) هذا من ألفاظ العموم.

    (هُمَزَةٍ) أي: كثير الهمز. و(لُمَزَةٍ) أي: كثير اللمز.

    وكلاً من (هُمَزَةٍ) و(لُمَزَةٍ)، صفة لموصوف.

    فمعنى (هُمَزَةٍ):

    - قيل: هو المغتاب.

    - وقيل: هو الطعان، أي: الذي يطعن في الناس، بعيبهم، وذمهم.

    - وقيل: إن الهمز ما كان على سبيل المواجهة، يعني: وجها لوجه.

    - وقيل: إن الهمز ما يكون باليد، إما بإشارة، أو بضرب، ودفع، وما أشبه.


    ومعنى (لُمَزَةٍ):

    - قيل - أيضا -: هو الطعان. وقيل: هو المغتاب. يعني: من قال إن (الهمزة) هو المغتاب، قال (اللمزة) الطعان. وبالعكس، من قال (اللمزة) الطعان قال (الهمزة) هو المغتاب، وكل هذا مروي عن السلف.

    - كما قيل - أيضا -: إن (اللمزة) ما كان من خلف، بأن ينال منه بعد انصرافه، من خلفه.

    - كما قيل - أيضا -: إن (اللمزة) ما يكون باللسان.


    وهذه السورة نزلت في شخص معين؛ قيل: الأخنس بن شريق، وقيل: الوليد بن المغيرة، وقيل: بعض سادات قريش، لأنهم كانوا يهمزون، ويلمزون النبي - صلى الله عليه وسلم -، في مجالسهم، وإذا قابلوه. ولكنها عامة في كل كافر، اتصف بهذا الوصف.

    ولا يزال المرء يجد من الكفار، بل ومن بعض الفساق، من تشوبه هذه الشائبة، فتجده ينال من أهل الطاعة، والإيمان، بالهمز، واللمز، والسخرية، والتنقص، في حضورهم، وفي غيبتهم، وربما تناوله بيده، وربما تناوله بلسانه. وقد وصف الله هذا المسلك الذميم، في سورة المطففين، بقوله: (إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ. وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ. وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ. وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ) [المطففين : 29 - 33]

    ومجموع ذلك يحكي صفة شخص، ذي أذية، بالغة، حسيةٍ، ومعنويةٍ، فهو يجابه الناس بالسوء من القول، ويهاجمهم بأقذع السباب. وإذا انصرفوا، أو انصرف عنهم، نال منهم، في غيبتهم. وربما استعمل يده، كما يستعمل لسانه، إما بإشارة ذات دلالة سيئة، أو بكلام بذيء، فلا يسلم من أذيته أحد، وهذه هي شخصية الكافر، الذي تمكن الشر من قلبه. ليس هذا فحسب، بل ذكر الله من أوصافه ما يلي:


    (الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ):

    (جَمَعَ) هكذا قُرئت بتخفيف الميم، وقُرئت بالتشديد (جمَّع)، فهو قد كدس الأموال.

    (مَالًا) أي: جميع أنواع المال، فيشمل: المال المضروب (النقدين)، والإبل، والبقر، والغنم، والأثاث، والعقار، وما شئت من أنواع المال.

    (وَعَدَّدَهُ):

    - إما أن يكون معناها مأخوذاً من العدِّ، أي الإحصاء.

    - وإما أن يكون من الإعداد، أي أعده لحوادث الدهر.

    فلا تجد الكافر إلا لاهثًا خلف الحياة الدنيا؛ لأنها غاية مراده، ومنتهى أمانيه، فلذلك يجرون خلفها، ولا يبحثون إلا عن شهواتهم، ومتعهم، كما قال تعالى: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كما تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ) [محمد:12].


    (يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ):

    (يَحْسَبُ) أي: يظن.

    (أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ) جعله خالدا، لا يموت! هكذا خيل إليه.


    (كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ (4)وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ (5)):

    (كَلَّا) كلمة ردع، ومعناها: ليس الأمر كما ظن.

    (لَيُنْبَذَنَّ) اللام: لام القسم، يعني: والله لَيُنْبَذَنَّ، أي: يطرحن، ويقذفن، وما أشبه. والنون: هي نون التوكيد المثقلة. واللام والنون يدلان على مزيد التأكيد.

    (فِي الْحُطَمَةِ) الْحُطَمَةِ: اسم من أسماء النار، والمقصود: التي تحطم كل ما يلقى فيها. فكل ما ألقي فيها يعود حطيمًا.

    وما أنسب هذا الوصف في هذا السياق!!؛ ففي حين أن هذا الهمزة، اللمزة، جمع مالاً، وعدده، وراكمه، وكثره، في الدنيا، حتى بدا وكأنه جبل، فإذا به في الآخرة يطرح هو، وما جمع، في الحطمة، فتحطم كل ما جمع، ويذهب هباء منثورًا.


    (وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ) يعني: ما أعلمك ما الحطمة؟. وهذا السؤال للتهويل.

    (نَارُ اللَّهِ) هذا جواب السؤال. وإضافة النار إلى الله، ليست إضافة تشريف، كبيت الله، وعبد الله، بل إضافة تعظيم، وتهويل.

    (الْمُوقَدَةُ) أي: المسعرة. وأما حديث أبي هريرة، الذي رواه الترمذي، وابن ماجة: (أوقد على النار ألف سنة حتى احمرت، ثم أوقد عليها ألف سنة حتى ابيضت، ثم أوقد عليها ألف سنة حتى اسودت. فهي سوداء مظلمة) فهو ضعيف.

    والنار، كما الجنة، مخلوقتان الآن، وباقيتان، لا تفنيان.

    (الَّتِي تَطَّلِعُ) أي: تشرف.

    (عَلَى الْأَفْئِدَةِ) أي: القلوب، فتحرقها، وتشويها، داخل الأضلاع، وتؤلمها أشد الإيلام.


    (إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ): فسرها السلف بقولهم: مطبقة، فهم لا يستطيعون الخروج منها.

    كما قال الله تعالى: (كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ) [الحج:22]. وشعور السجين، أو الأسير، بالإغلاق، يضاعف حزنه، فلربما بقي الإنسان في الموضع الواحد، أيامًا طوالاً، وهو يشعر أنه لو شاء أن يخرج لخرج، فيهون عليه الأمر. وربما استمتع بالمكث! لكن لو أغلق عليه، ولو في بستان، لشعر بالضيق، والكرب، بسبب الحبس، فيجتمع عليه العذاب النفسي، والعذاب الحسي - والعياذ بالله.

    (فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ) هكذا (عَمَدٍ) بفتح العين والميم، وقُرئت بضمهما (في عُمُد ممددة).

    أي أن النار ممتدة، داخل هذه الأعمدة، كما تمد الخيام على الأعمدة. وهذا أمر غيبي، لا ندرك كيفيته بعقولنا، ولكن تصوره يشعر بالرهبة، والشدة، وطول العذاب، الذي ينال الهمزة اللمزة.



    الفوائد المستنبطة

    الفائدة الأولى: تفنن الكافر في أذية المؤمن، أذية حسية، ومعنوية.

    الفائدة الثانية: تعلق الكافر بمتاع الدنيا.

    الفائدة الثالثة: اغترار الكافر بالمتاع الزائل، وخطأ ظنونه.

    الفائدة الرابعة: الوعيد الماحق للكافر.

    الفائدة الخامسة: شدة عذاب النار.

    الفائدة السادسة: الارتباط الوثيق بين العقيدة، والسلوك.


    واعلم أن للعقيدة أكبر الأثر في سلوك الإنسان، فإنك تجد الإنسان، غافلاً، لاهيًا، غليظًا، فظًا، فاجرًا، فإذا ما سكن الإيمان قلبه، أكسبه تهذيبًا في الطباع، وسماحة في الأخلاق، وكرمًا في المعاملة، ورحمة بالخلق، وتورعًا عن أذيتهم، ورقة، ولينًا، حتى إنه ليبكي على ما بدر منه في جاهليته الأولى.

    وقد جاء في حديث أَبِي قَتَادَةَ بْنِ رِبْعِيٍّ الْأَنْصَارِيِّ أَنَّهُ كَانَ يُحَدِّثُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مُرَّ عَلَيْهِ بِجِنَازَةٍ:

    فَقَالَ: مُسْتَرِيحٌ وَمُسْتَرَاحٌ مِنْهُ.

    قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا الْمُسْتَرِيحُ وَالْمُسْتَرَاحُ مِنْهُ؟

    قَالَ: الْعَبْدُ الْمُؤْمِنُ يَسْتَرِيحُ مِنْ نَصَبِ الدُّنْيَا وَأَذَاهَا إِلَى رَحْمَةِ اللَّهِ، وَالْعَبْدُ الْفَاجِرُ يَسْتَرِيحُ مِنْهُ الْعِبَادُ وَالْبِلَادُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ) [متفق عليه، واللفظ للبخاري:6512]

    فانظر ما أثقل وطأة الكافر،حتى على الأرض! فكيف بساكنيها! الكل يتأذى من الكافر، الكل يلعن الكافر، حتى اللقمة يرفعها إلى فيه تلعنه، والشربة يرفعها إلى فيه تلعنه. فالإيمان رحمة، والكفر نقمة.

    وإذا كان الارتباط بين العقيدة والسلوك، بهذه المكانة، فينبغي أن نفقه العقيدة لا بوصفها متون تحفظ، وتستشرح، فحسب، بل يقين في القلب، مستعلن باللسان، باعث للعمل في الجوارح والسلوك.
    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

    تحمَّلتُ وحديَ مـا لا أُطيـقْ من الإغترابِ وهَـمِّ الطريـقْ
    اللهم اني اسالك في هذه الساعة ان كانت جوليان في سرور فزدها في سرورها ومن نعيمك عليها . وان كانت جوليان في عذاب فنجها من عذابك وانت الغني الحميد برحمتك يا ارحم الراحمين

  2. #12
    تاريخ التسجيل
    Jun 2008
    المشاركات
    11,737
    الدين
    الإسلام
    الجنس
    أنثى
    آخر نشاط
    17-05-2024
    على الساعة
    12:48 AM

    افتراضي

    سورة العصر

    فضيلة الشيخ / أحمد بن عبد الرحمن القاضي

    أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

    وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)


    تأتي سورة العصر في طليعة مجموعة من السور القصار في مبناها، العظيمة في معناها، ختم الله بها كتابه الكريم.

    وإن الإنسان ليعجب من حكمة الله - عز وجل – بختم المصحف، حسب العرضة الأخيرة، بهذه السور، السهلة الألفاظ، الجزلة المعانى، البديعة التراكيب، من قصار المفصل، التي يقرأها عامة المسلمين، ويحفظونها، ويرددونها، في صلواتهم؛ فرائضهم، ونوافلهم، لما تتضمنه من المعاني الكبيرة، التي تحيي القلوب، فلله الحكمة البالغة فيما حكم، وقضى، وقدر.

    ومع قصر سورة (العصر) إلا أن الإمام الشافعي - رحمه الله – قال عنها: "لو ما أنزل الله حجةً على خلقه، إلا هذه السورة، لكفتهم" أي: لكانت حجة عليهم، في بيان مقاصد الدين، وأركانه، وآدابه. وليس المراد تضمنها لتفاصيل الشريعة.


    مقصد السورة الرئيس:

    بيان المنهج الوحيد للنجاة؛ إذ أن الله - سبحانه وتعالى - حكم على الإنسان من حيث هو إنسان- بالخسار، واستثنى مَنْ جمع أربع خصال، يأتي بيانها.


    يقول الله تعالى: (وَالْعَصْرِ) هذا قسم من الله تعالى بـ (العصر). و(العصر):

    1) قيل: هو مطلق الدهر، يعني: الزمان.
    2) وقيل: هو ما بعد الزوال، الذي هو وقت العشي.
    3) وقيل: إن المراد الصلاة نفسها، صلاة العصر.

    والأولى حمل هذه المعاني على أولها، وهو الدهر؛ إذ أن ذلك يشمل ما بعد الزوال، وهو وقت العشي، ووقت صلاة العصر، والليل، والنهار، بمعنى أن الله - سبحانه وتعالى - أقسم بالعصر، الذي هو ظرف الأعمال، صالحها، وسيئها، والذي يترتب عليه إما النجاة، وإما الخسار، فمن المناسب جدًا، أن يقسم الله تعالى بالزمن، الذي هو مضمار الأعمال، وظرفها، لعظيم خطره.

    وبمقدار عقل الإنسان، وإيمانه، يكون اهتمامه بالوقت، قال نبينا - صلى الله عليه وسلم -: (نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ الصِّحَّةُ وَالْفَرَاغُ) [البخاري 6412)، من حديث ابن عباس] فكثير من الناس يغبن في صحته، وفي فراغه، فيمضي عليه العمر سبهللا، فلا يبالي، وهو في حال الصحة والفراغ، فإذا ما مرض، أو شغل، تمنى أن لو كان صحيحاً، فارغًا، وهذا هو الغبن الحقيقي.


    وقد كان السلف الصالح - رحمهم الله- يعتنون بأوقاتهم غاية العناية، يحسبون الدقائق، والثواني، حتى حفظ عن بعضهم العجب:

    فقد ذكر عن المجد ابن تيمية - رحمه الله -: أنه كان يضن بوقته، حتى إنه كان إذا دخل بيت الخلاء، أمر قارئا أن يقرأ، من وراء الحائط، حتى لا يذهب عليه شيء من وقته، دون فائدة.

    ويذكر أن الحافظ ابن رجب - رحمه الله -: كان يضن بوقته، فكان إذا حضره بعض أصحابه، الذين يتشاغلون بالأحاديث الدنيوية، ومجريات الحياة اليومية، يخصص للبقاء معهم، على أوراقاً يقطعها، ويرتبها، ويعدها لكتابته، ولا يدع مجلس أصحابه.

    فبمقدار ما يشعر المؤمن، باليوم الآخر، وتقوم في قلبه حقائق الإيمان، يشعر بأهمية الوقت، وإذا ضعف ذلك صار الوقت عنده أرخص ما يكون، حتى أنك تجد بعضهم يقول: "نقتل الوقت"، سبحان الله وهل الوقت يقتل؟!، الوقت أغلى الأثمان، وفي هؤلاء يقول الشاعر:

    والوقت أعظم ما عنيت بحفظه *** وأراه أسهل ما عليك يضيع


    (إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ) هذا جواب القسم. والمقصود: جنس الإنسان. ووقعت اللام في جواب القسم، للتأكيد. والمعنى: أن الإنسان في نقص وهلاك؛ لأن في طبعه قصور، وتقصير، يستغلهما، الشيطان، والنفس، والهوى، وغير ذلك من المؤثرات، فتفضي به إلى الهلاك. فالأصل في الإنسان أن يؤول إلى خسار، إلا ما استثني. والمستثنى أقل من المستثنى منه، فلهذا قال تعالى، في مواضع:

    (وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ) [سبأ:13]، (وَقَلِيلٌ مَا هُمْ) [ص:24]، وقال عن إبليس (قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ . إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) [ص:82-83].


    فتجد أن المستثنى هم أهل الإيمان، مما يدل على أن الكثرة الكاثرة، تؤول إلى الخسار، والبوار، ويشهد لذلك قول النبي - صلى الله عليه وسلم – عند وصفه يوم القيامة، لأصحابه ، فقال: "ذَاكَ يَوْمٌ يُنَادِي اللَّهُ فِيهِ آدَمَ، فَيُنَادِيهِ رَبُّهُ فَيَقُولُ: يَا آدَمُ ابْعَثْ بَعْثَ النَّارِ، فَيَقُولُ: يَا رَبِّ وَمَا بَعْثُ النَّارِ، فَيَقُولُ: مِنْ كُلِّ أَلْفٍ تِسْعُ مِائَةٍ وَتِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ فِي النَّارِ وَوَاحِدٌ فِي الْجَنَّةِ " [رواه الترمذي(3169)، وصححه الألباني في صحيح الترمذي]


    (إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا): أي صدقوا بقلوبهم، وأيقنوا بخبر الله، وخبر رسوله، - صلى الله عليه وسلم -؛ كما قال ربنا - عز وجل -: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا). فأصل الإيمان: التصديق المستلزم للقبول، والإقرار، والإذعان، والرضا. ولهذا ينبغي للعاقل قبل أن يشتغل بإصلاح الظاهر، والعناية بالسنن، والنوافل، أن يصلح قلبه، وأن يتعاهده، فإذا صلح قلبه، انقادت جوارحه، واستسهلت كل عمل صعب، بل وتلذذت به، كما قال نبينا - صلى الله عليه وسلم -: (أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً، إِذَا صَلَحَتْ: صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ: فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، أَلَا وَهِيَ: الْقَلْبُ) [متفق عليه، واللفظ للبخاري]


    ثم عطف عليه ما هو من لوازمه، التي لا تنفك عنه، ولا تتم إلا به، فقال:

    (وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) يعني: أنهم لم يقتصروا على الإيمان القلبي، بل اتبعوا ذلك بالعمل الصالح. و(الصَّالِحَاتِ): ما شرعه الله تعالى على لسان نبيه - صلى الله عليه وسلم -، من الأقوال، والأعمال، فكل ذلك صالح.


    ومسألة الإيمان مسألة كبيرة:

    فالإيمان عند أهل السنة والجماعة: حقيقة مركبة من القول، والعمل. فالإيمان: قول القلب، واللسان، وعمل القلب، واللسان، والجوارح. ويرون أنه لا انفكاك بين العمل، والتصديق، وأن من زعم وجود تصديق في القلب لا يستلزم عملاً، فهو مخطئ.

    وأما من سواهم، فإنهم أرجئوا العمل عن مسمى الإيمان، ولذلك سموا مرجئة؛ يعني أخروا العمل، وأخرجوه عن حقيقة الإيمان، وحده، وتعريفه.


    وهؤلاء المرجئة على ثلاثة طبقات:

    1) فمنهم -وهم أشدهم –: [الجهمية]، المنسوبون إلى جهم بن صفوان السمرقندي، الذين يقولون: إن الإيمان هو "معرفة القلب"، وربما عبر بعضهم فقال: "تصديق القلب". فيلزم من ذلك إثبات الإيمان للمشركين، واليهود، والنصارى، بل وفرعون، بل وإبليس!
    2) الطائفة الثانية من المرجئة: [الكرامية] المنسوبون إلى محمد بن كرام السجستاني، الذين يقولون: "إن الإيمان هو قول اللسان". فيلزم على قولهم وصف المنافقين بالإيمان! ؛ وقد قال تعالى: (إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ) [المنافقون:1]، فكيف يجرؤون على تسمية من قال بلسانه فقط مؤمنا، والله قد أكذبه،
    3) الطائفة الثالثة من المرجئة: [مرجئة الفقهاء]، أصحاب أبي حنيفة، وشيخه حماد بن سليمان، وفقهاء الكوفة، وعبادها، الذين يقولون: "الإيمان: قول باللسان، واعتقاد بالجنان، أو إقرار بالجنان، يعني بالقلب". فجعلوا الإيمان ركنين: اعتقاد القلب، وقول اللسان، ولكنهم أخرجوا الأعمال عن مسمى الإيمان، إلا أنهم قالوا إنه من ثمراته، وأن المطيع: محمود في الدنيا، مثاب في الآخرة، وأن العاصي: مذموم في الدنيا، مستحق للعقاب في الآخرة، ولم يخرجوا مرتكب الكبيرة عن حد الإيمان. ولهذا قال من قال: "إن الخلاف بين مرجئة الفقهاء، وأهل السنة، خلاف لفظي" صوري، والصحيح: أن منه ما هو حقيقي، ومنه ما هو صوري.

    فالحق أن الإيمان لابد معه من العمل، فإن قال قائل: إذاً لماذا عطف الله العمل على الإيمان في هذه الآية، وغيرها، والعطف يقتضي المغايرة؟ ، فدل ذلك على أن العمل ليس داخلاً في مسمى الإيمان. وهذا من أشهر حجج المرجئة.

    فعن ذلك جوابان :

    الجواب الأول: أن يقال أن هذا من باب عطف الخاص على العام، كما لو قلت: "جاء الطلبة ومحمد"، مع أن محمداً من الطلبة. فيكون من باب عطف الخاص على العام.

    الجواب الثاني: أن يقال إن هذا من باب اختلاف المعني: عند الاقتران، وعند الافتراق. فيكون للفظ الواحد معنيان: معنى إذا اقترن بغيره، ومعنى إذا انفرد. فالإيمان عند الانفراد يشمل الاعتقاد، والعمل. وعند الاقتران مع العمل: يختص بالاعتقاد. كما في حديث جبريل لما سأل عن الإيمان، والإسلام، والإحسان، فسر الإسلام بالأعمال الظاهرة، والإيمان بالعقائد الباطنة. ونظائر ذلك في اللغة والاصطلاح، كثير، كما في لفظ "الفقير" و"المسكين"، و"التوبة" و"الاستغفار"،"والبر" و"التقوى"، و"الإثم" و"العدوان".


    (وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ): صيغة مفاعلة، أي: أنها تقع من الطرفين، فيوصي بعضهم بعضًا بالحق الذي جاء عن الله، ورسوله، ويحض بعضهم بعضًا على التمسك به. ولهذا جاء في بعض التفاسير أن (الحق) هو: كتاب الله،


    (وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ): الصبر: في أصل اللغة: هو الحبس. وأنواعه ثلاثة:

    1) الصبر على طاعة الله،
    2) والصبر عن معصية الله،
    3) والصبر على أقدار الله المؤلمة.
    وهو من أعلى مراتب الدين، وورد ذكره في القرآن في نحو تسعين موضعاً. وجاء في الأثر " أن منزلة الصبر من الدين، كمنزلة الرأس من الجسد". وهو من أمهات الأخلاق، وأصولها.


    والتواصي بين أهل الإسلام، في هذه الأزمان، وللأسف، أندر من الكبريت الأحمر - كما يقال -، قل أن يتواصى الناس فيما بينهم، بل إنه يبلغ الحال عند بعض الناس، أن يغض بعضهم الطرف عن خطأ الآخر، حتى لا يقابله بالمثل!، وهذا علامة خذلان. والواجب على أهل الإيمان أن يتناصحوا، وأن يتواصوا كما أمر الله - سبحانه وتعالى، فالمؤمن للمؤمن كالبنيان، والمؤمن للمؤمن كاليدين تغسل إحداهما الأخرى. ولو أن كل أحد صمت عن خطأ أخيه، لضاعت السنن، ووقع التساهل. لكن إذا قرعت سمع الإنسان نصيحة أخيه، فربما يندهش لأول وهلة، ويزعجه ذلك، لكنه يحمد العاقبة.


    فلو تأملنا في هذه الخصال الأربع، التي ذكر الله تعالى، لوجدناها أسباب النجاة، والفلاح، والفوز:

    1) إيمان يباشر القلب، ويرسخ فيه،
    2) عمل صالح باللسان، والجوارح، يصدقه.
    3) تواص بين المؤمنين بالحق، يثبته.
    4) تواص بينهم بالصبر، يقويه.

    ولو اختل شيء من هذه الأربعة، لوقع الاضطراب، والخلل، فلو فسد أصله، لفسد باقيه، وفرعه، ولو وجد معرفة لا يقترن بها عمل، لما كان ذلك تصديقا بحق، ولو وجد تصديق، وعمل، لكن بلا تواصٍ بالحق، ولا تواصٍ بالصبر، لنشأ عن ذلك ملل، وفتور، وضعف، وقصور. فلهذا كانت هذه السورة حجة من الله، على عباده، ولو لم ينزل الله - سبحانه وتعالى - حجة سواها، لكفتهم، كما قال الشافعي، وإنما أراد الشافعي - رحمه الله - الأصول الكبار، وإلا فإنه لا غنى للعباد عن معرفة التفاصيل.


    الفوائد المستنبطة

    الفائدة الأولى: أهمية الوقت، وأنه مضمار الأعمال، التي يترتب عليها الثواب، والعقاب.

    الفائدة الثانية: أن الأصل في الإنسان حصول الخسار، بسبب القصور، والتقصير المفضي إلى الهلاك، أما القصور: فإنه طبعي، وأما التقصير: فإنه كسبي، ولا يكاد أحد ينفك من هذين الوصفين إلا من رحم الله.

    الفائدة الثالثة: بيان أركان الفوز، والنجاة، وهي الخصال الأربعة المذكورة.

    الفائدة الرابعة: أن الإيمان أصل الدين، يعني ما يقوم في القلب، من العقائد الصحيحة، والمعارف النافعة، المصحوبة بالقبول، والرضا، والإذعان.

    الفائدة الخامسة: أن العمل داخل في حقيقة الإيمان، ومسماه، فلا يتحقق بدونه.

    الفائدة السادسة: أهمية التواصي بالحق، والصبر، بين أهل الإيمان.

    الفائدة السابعة: عظم منزلة الصبر من الدين.
    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

    تحمَّلتُ وحديَ مـا لا أُطيـقْ من الإغترابِ وهَـمِّ الطريـقْ
    اللهم اني اسالك في هذه الساعة ان كانت جوليان في سرور فزدها في سرورها ومن نعيمك عليها . وان كانت جوليان في عذاب فنجها من عذابك وانت الغني الحميد برحمتك يا ارحم الراحمين

  3. #13
    تاريخ التسجيل
    Jun 2008
    المشاركات
    11,737
    الدين
    الإسلام
    الجنس
    أنثى
    آخر نشاط
    17-05-2024
    على الساعة
    12:48 AM

    افتراضي


    [TR]

    [/TR]
    [TR]
    [/TR]
    التفسير العقدي لسورة القارعة

    بقلم/ د. أحمد بن عبد الرحمن القاضي


    أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

    بسم الله الرحمن الرحيم

    (الْقَارِعَةُ (1) مَا الْقَارِعَةُ (2) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ (3) يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ (4) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ (5) فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ (6) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (7) وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ (8) فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ (9) وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ (10) نَارٌ حَامِيَةٌ (11))

    بسم الله الرحمن الرحيم

    سورة (القارعة) مقصدها الأساسي: تقرير الإيمان باليوم الآخر، وما يتضمنه.

    يقول الله - عز وجل - (الْقَارِعَةُ): أي الساعة، وسميت بهذا الاسم؛ لأنها تقرع القلوب، ومن المعلوم، أن من أشد موجعات القلب، أن يحس بالقرع.

    (مَا الْقَارِعَةُ)؟ هذا الاستفهام للتهويل.

    (وَمَا أَدْرَاكَ) يعني: ما أعلمك

    (مَا الْقَارِعَةُ) كررها هنا لمزيد التهويل. ولا ريب، فما عظمه الله تعالى فهو عظيم، وما هوله الله تعالى فهو هائل.

    (يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ) : هذه الجملة بدل من القارعة. أي القارعة: يوم يكون كذا وكذا. و(النَّاسُ) هنا، كل الناس.

    (كَالْفَرَاشِ) ليس المراد بالفراش هنا الفراشة المعهودة، وإنما المقصود بالفراش الحشرات المتطايرة، وقيل: الجراد المنتشر، التي تملأ الجو، أو تملأ المكان، متفرقة أوزاعا، أو جرادا مبثوثا، في كل مكان، كما وصف الله - عز وجل - (كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ) [القمر:7]. فالناس، كل الناس على أديم الأرض، مبثوثين، منشورين، مفرقين، كمشهد الجراد، أو الحشرات المنثورة على صفحة الأرض. والمبثوث أي: المتفرق المنتشر. وقد وصفهم الله في موضع أخر (يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا)، وكذلك وصفه نبيه - صلى الله عليه وسلم -كما في حديث عَائِشَةَ – رضي الله عنها - أَنَّ رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – قَالَ: "يُبْعَثُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلًا" [أحمد 6/89. و"النَّسائي" 4/114.وصححه الألباني، ومعناه في الصحيحين] وفي لفظ "بُهْمًا" [حسن: رواه أحمد:16042، صحيح الأدب المفرد].


    (وَتَكُونُ الْجِبَالُ) الجبال الصلدة، الضخمة، الهائلة، الثقيلة، التي قد أرسى الله بها الأرض، تكون (كَالْعِهْنِ الْمَنفوش) : أي الصوف المندوف، يعني لخفته وتطايره، تتحول هذه الجبال إلى ما يشبه السراب؛ (وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا) [النبأ:20] من سرعة التسيير، تتحول إلى ما يشبه السراب.

    قال الله تعالى (وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ) [النمل:88] وقال: (وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا(5) فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا) [الواقعة:5-6]،

    ( فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ) الفاء جاءت للتفريع، والتقسيم.

    (ثَقُلَتْ) يعني: رجحت حسناته، بسيئاته.

    (مَوَازِينُهُ) المراد بـ (الموازين): موازين الأعمال. وهذا يدل أن الموازين متعددة، كما قال في الآية الأخرى: (ونضع الموازين القسط ليوم القيامة)

    وهي موازين حقيقية، كل ميزان له: لسان، وكفتان. خلافا لما ادعت المعتزلة، من أن المراد بالميزان هو العدل، أو إقامة العدل. وأهل السنة يقولون: بل إقامة العدل تحصل بالوزن الحقيقي، بميزان حقيقي، له لسان، وكفتان ، لكن لا نعلم كيفيته.

    وقد دلت عليه النصوص كحديث (صاحب البطاقة) الذي فيه "قَالَ : فَتُوضَع السِّجِلَّات فِي كِفَّة وَالْبِطَاقَة فِي كِفَّة فَطَاشَتْ السِّجِلَّات وَثَقُلَتْ الْبِطَاقَة" [صحيح: رواه أحمد: من طريق عبدالله بن عمرو، 2/213 (6994)، الصحيحة: برقم135]

    والصحيح أن الذي يوزن هو كلا من:

    - الأعمال،

    - العامل،

    - الصحف.

    فحديث (البطاقة) يدل على وزن الصحف.

    وقول الله تعالى: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7)) [الزلزلة] يدل على وزن الأعمال.

    وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - (إِنَّهُ لَيَأْتِي الرَّجُلُ الْعَظِيمُ السَّمِينُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لاَ يَزِنُ عِنْدَ اللهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ) [متفق عليه من حديث أبي هريرة: البخاري 6/117، ومسلم 8/125] يدل على أن العامل يوزن، ويدل عليه أيضا قول النبي - صلى الله عليه وسلم - في قصة عبد الله بن مسعود لما (كَانَ يَجْتَنِي سِوَاكًا مِنَ الأَرَاكِ ، وَكَانَ دَقِيقَ السَّاقَيْنِ ، فَجَعَلَتِ الرِّيحُ تَكْفَؤُهُ ، فَضَحِكَ الْقَوْمُ مِنْهُ ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : مِمَّ تَضْحَكُونَ ؟ قَالُوا : يَا نَبِيَّ اللهِ ، مِنْ دِقَّةِ سَاقَيْهِ ، فَقَالَ : وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ ، لَهُمَا أَثْقَلُ فِي الْمِيزَانِ مِنْ أُحُدٍ.) [صحيح: أخرجه أحمد 1/420(3991)، الصحيحة 2750]


    (فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ) يعني: فقد نجا، وفاز.

    (عِيشَةٍ) المراد بتلك العيشة: الجنة.

    (رَاضِيَةٍ) يعني مُرضية، فهي وإن أتت على صيغة اسم الفاعل (راضية)، فالمراد بها اسم المفعول، أي: مرضية، هانئة، أو هنيئة.

    (وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ) يعني طاش ميزان حسناته، وثقل ميزان سيئاته.

    (فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ): معنى (فَأُمُّهُ) أي: فمأواه، ومسكنه، ومرجعه، ومنه سميت الوالدة "أما"؛ لأن الولد يأوي إليها، وهذا الذي خفت موازينه، أمه التي يأوي إليها، ومسكنه، ومرجعه، (هاوية)، وهي: (نَارٌ حَامِيَةٌ). وسماها (هَاوِيَةٌ)؛ لأنه يهوي على رأسه فيها.


    الفوائد المستنبطة

    الفائدة الأولى: شدة وقع الساعة، وهول قيامها.

    الفائدة الثانية: إثبات البعث، وصفته، والرد على منكريه.

    الفائدة الثالثة: إثبات الموازين، وكمال عدل الله.

    الفائدة الرابعة: إثبات الجنة ونعيمها.

    الفائدة الخامسة: إثبات النار وعذابها.



    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

    تحمَّلتُ وحديَ مـا لا أُطيـقْ من الإغترابِ وهَـمِّ الطريـقْ
    اللهم اني اسالك في هذه الساعة ان كانت جوليان في سرور فزدها في سرورها ومن نعيمك عليها . وان كانت جوليان في عذاب فنجها من عذابك وانت الغني الحميد برحمتك يا ارحم الراحمين

  4. #14
    تاريخ التسجيل
    Jun 2008
    المشاركات
    11,737
    الدين
    الإسلام
    الجنس
    أنثى
    آخر نشاط
    17-05-2024
    على الساعة
    12:48 AM

    افتراضي

    العاديات

    أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

    بسم الله الرحمن الرحيم

    (وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا (1) فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا (2) فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا (3) فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا (4) فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا (5) إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (6) وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ (7) وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (8) أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ (9) وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ (10) إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ (11))


    مقاصد السورة:

    1- إثبات البعث، والحساب.

    2- بيان حال النفس المنكرة للبعث، وتوصيفها.

    (وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا (1) فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا (2) فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا (3) فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا (4) فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا) هذه ثلاثة أقسام أقسم الله بها، والمقسم به هي الخيول، على القول الراجح، في المواضع الثلاثة، وإليك بيانها واحدة واحدة:-

    (وَالْعَادِيَاتِ): هي الخيل التي تجري جريا شديدًا.

    (ضَبْحًا): أي أنها تحمحم، والحمحمة: الصوت الذي يصدر من جوف الفرس، في حال شدة العدو، فإنه يسمع من صدره هدير، هو الضبح الذي ذكره الله تعالى.

    (فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا): الفاء هنا للتعقيب، يعني: أنها إذا عدت أورت.

    - (الْمُورِيَاتِ) على القول الراجح، الخيل حين توري النار، عند وقع حوافرها على الصفا، فإنها تحدث هذا الشرر، الذي هو القدح. وهذا ينم عن شدة حركتها، وسرعتها.
    - وقيل في معنى (الْمُورِيَاتِ): جماعات المقاتلين، الذين يقدحون الزناد، ليشعلوا النار في الحروب.
    - وقيل المراد بـ(الْمُورِيَاتِ): الألسنة! فإن اللسان يثير الفتنة بما يلقيه، وما يهيجه في النفوس. ولا ريب أن الكلمة أحيانًا تفعل فعل النار في الهشيم، فمن الألسنة ما تذكي في النفوس شرر الحمية، والغضب.
    - وقيل إن (الْمُورِيَاتِ): مكر الرجال، بمعنى: أن ما يحيكه الرجال من خطط، كإيراء النار، ولو لم تتكلم الألسنة. ولهذا استعاذ النبي- صلى الله عليه وسلم - من غلبة الرجال، كما جاء في حديث أَنَس بْنَ مَالِكٍ – رضي الله عنه - قَالَ كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْهَمِّ، وَالْحَزَنِ، وَالْعَجْزِ، وَالْكَسَلِ، وَالْجُبْنِ، وَالْبُخْلِ، وَضَلَعِ الدَّيْنِ، وَغَلَبَةِ الرِّجَالِ) [رواه البخاري: 6369]
    - وقيل: إنها الإبل خاصة.



    - وقيل: بالعموم، وإلى هذا ذهب الحافظ، إمام المفسرين، ابن جرير الطبري، إلى أن كل ما يتناوله الإيراء، فهو داخل في عموم الآية، فتشمل الخيل التي تقدح بحوافرها على الصفا، فينطلق الشرر، والإبل، والرجال المقاتلة التي تقدح بالزناد، والألسن الحادة التي تستثير العواطف والانفعالات، والخطط الماكرة، التي تبدر عن الدهاة من الرجال. فكل ذلك يدخل في عموم (الموريات)
    والذهاب إلى العموم يجمع الأقوال، لكن سياق الآيات يشعر بأنها موصوف لشيء واحد؛ لأنه ابتدأ بالعاديات، التي هي الخيل، إلى أن قال (فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا) أي: الغبار، فيبعد أن يتفرق الوصف، أو يتخلله في أثنائه ما ليس منه، فالأقرب: أن تحمل على الخيل، فقط.

    وللخيل فضيلة، ومزية، ففي الحديث: ((الْخَيْلُ مَعْقُودٌ فِي نَوَاصِيهَا الْخَيْرُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ)) [متفق عليه (البخاري: 2849)، (مسلم: 1873)]. فالخيل إلى يومنا هذا، لا تستغني عنها الجيوش، فلا يزال في الفرق العسكرية ما يسمى بـ (الخيالة). وستبقى إلى يوم القيامة، حتى إن بعض أحاديث الفتن والملاحم، فيها ذكر الخيول، والقتال عليها، في آخر الزمان.

    (فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا): هي الخيل، تقتحم أول النهار، وذلك أن أحسن أوقات الإغارة في الصباح، كما قال الله - عز وجل - (فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ) [الصافات: 177]. وقيل: إن المراد: أهلها، يعني القوم المغيرون هم المغيرات. والأقرب: أن نحملها على ما حملنا عليه ما سبق، أنها الخيل نفسها ولهذا قال (فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا).

    (فَأَثَرْنَ) أي: هيجنا.

    (بِهِ) يعني: بمكان العدو، أو: في ذلك الوقت، الذي هو الصبح.

    (نَقْعًا) النقع: هو الغبار المتصاعد، يقول حسان:

    عدِمْنا خَيلَنا إن لم تروها تثيرُ النقعَ موعدُها كَداء([1])


    وذلك أن الخيول إذا اقتحمت، وصالت، ارتفع لها غبار، إلى عنان السماء، من جراء هذه السرعة المتتابعة.

    (فَوَسَطْنَ بِهِ جمعاً): إما بالغبار، أو بالمكان. يعني: سرنَ في وسط جمع العدو.

    وهذه الآيات إذا أريد بها الخيل، فتحمل على ما تصنعه في أثناء الغزو، والحروب. وذهب بعض المفسرين، إلى أن المراد الإبل، وأن هذا محمول على ما يقع في المناسك؛ لأن الغالب فيها ركوب الإبل، وقالوا (فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا) أي: مزدلفة، لأن من أسمائها (جمع). ولكن القول الأول أولى.

    (إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ) هذا جواب القسم. والمراد بالإنسان، هنا: الكافر، المنكر. ومعنى كنود: جحود لنعمة ربه، غير شكور. وذلك بأن لا يثني بالنعمة على مسديها، ولا يستعملها في مرضاته، بل يستعملها في معصيته. فبهذا يكون كنوداً.

    وهذا مثار عجب!! فهذا الإنسان الكنود، خلقه الله، ويعيش في أرض الله، ويأكل من رزق الله، ويشرب من ماء الله، ثم يعبد غير الله! سبحان الله! ما أشد هذا الجحود؟! لو كان للواحد منا عبد رقيق، اشتراه بحر ماله، وألبسه، وأسكنه، وأطعمه، وسقاه، ثم ذهب يخدم غيره، لعد ذلك كفرانًا، وجحودًا، وأوقع فيه المثلات. والله تعالى رب الناس، وملك الناس، وهو خالقهم، ورازقهم، ومدبر أمورهم، فهو إلههم. ومع ذلك يعبد الكافر غيره، فلا شك أن هذا أعظم الجحود، وأظلم الظلم، كما قال تعالى: (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ).

    (وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ): اختلف في مرجع الضمير:

    - فقيل: مرجعه للإنسان، يعني: إن الإنسان شهيد على كنوده، وجحده نعمة ربه. وهذا المعنى هو المتبادر إلى الذهن. والمراد بشهادته لسان الحال، لا لسان المقال، فإنه لا يكاد أحد يشهد على نفسه لفظاً بالجحود. فأفعاله، وتصرفاته، دالة على جحده لنعمة ربه، فهو لا يرى لله فيها حقًا، ولا يرفع بطاعته رأساً، ولا معصيته بأساً. فهذه شهادة.
    - وقيل: إن مرجع الضمير إلى الله - عز وجل - (وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ)، يعني: إن الله - عز وجل - شهيد على كنود عبده، وجحوده.والأول أولى
    (وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ): جملة مؤكدة بإن. والواقع شاهد بذلك. والمراد بالخير هنا، المال، والعرَض، والمتاع. وقوله: (لَشَدِيدٌ): أي شديد التعلق به، شديد الحرص عليه. ولا شك أن هذه صفة بشرية، طبعية. فإن الإنسان بطبعه يحب الخير، يحب المال؛ ففي حديث أَنَسٍ – رضي الله عنه – قال: أُتِيَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمَالٍ مِنْ الْبَحْرَيْنِ، فَقَالَ: انْثُرُوهُ فِي الْمَسْجِدِ، فَكَانَ أَكْثَرَ مَالٍ أُتِيَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذْ جَاءَهُ الْعَبَّاسُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَعْطِنِي، إِنِّي فَادَيْتُ نَفْسِي، وَفَادَيْتُ عَقِيلًا، قَالَ: خُذْ، فَحَثَا فِي ثَوْبِهِ، ثُمَّ ذَهَبَ يُقِلُّهُ، فَلَمْ يَسْتَطِعْ، فَقَالَ: أْمُرْ بَعْضَهُمْ يَرْفَعْهُ إِلَيَّ، قَالَ: لَا، قَالَ: فَارْفَعْهُ أَنْتَ عَلَيَّ، قَالَ: لَا، فَنَثَرَ مِنْهُ، ثُمَّ ذَهَبَ يُقِلُّهُ فَلَمْ يَرْفَعْهُ، فَقَالَ: فَمُرْ بَعْضَهُمْ يَرْفَعْهُ عَلَيَّ، قَالَ: لَا، قَالَ: فَارْفَعْهُ أَنْتَ عَلَيَّ، قَالَ: لَا، فَنَثَرَ مِنْهُ، ثُمَّ احْتَمَلَهُ عَلَى كَاهِلِهِ، ثُمَّ انْطَلَقَ، فَمَا زَالَ يُتْبِعُهُ بَصَرَهُ، حَتَّى خَفِيَ عَلَيْنَا، عَجَبًا مِنْ حِرْصِهِ.. الحديث ) [رواه البخاري: 3165]

    وهذا ربما وقع للأنبياء؛ ففي الحديث الصحيح عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – قَالَ: بَيْنَا أَيُّوبُ يَغْتَسِلُ، عُرْيَانًا، فَخَرَّ عَلَيْهِ جَرَادٌ مِنْ ذَهَبٍ، فَجَعَلَ أَيُّوبُ يَحْتَثِي فِي ثَوْبِهِ، فَنَادَاهُ رَبُّهُ: يَا أَيُّوبُ، أَلَمْ أَكُنْ أَغْنَيْتُكَ عَمَّا تَرَى، قَالَ: بَلَى وَعِزَّتِكَ، وَلَكِنْ لَا غِنَى بِي عَنْ بَرَكَتِكَ) [رواه لبخاري: 279]

    فالنفس مجبولة، ومطبوعة، على حب الخير، والاستئثار، إلا من عصمه الله تعالى بعصمة الإيمان، وقنعه بما أتاه، ولا شك أن القناعة كنز لا يفنى. وتأمل حال أكرم الخلق على الله - عز وجل - محمد - صلى الله عليه وسلم - ففي حديث عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّهَا قَالَتْ لِعُرْوَةَ: ابْنَ أُخْتِي، إِنْ كُنَّا لَنَنْظُرُ إِلَى الْهِلَالِ، ثُمَّ الْهِلَالِ، ثَلَاثَةَ أَهِلَّةٍ فِي شَهْرَيْنِ، وَمَا أُوقِدَتْ فِي أَبْيَاتِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – نَارٌ، فَقُلْتُ: يَا خَالَةُ، مَا كَانَ يُعِيشُكُمْ؟ قَالَتْ: الْأَسْوَدَانِ، التَّمْرُ وَالْمَاءُ، إِلَّا أَنَّهُ قَدْ كَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جِيرَانٌ مِنْ الْأَنْصَارِ، كَانَتْ لَهُمْ مَنَائِحُ، وَكَانُوا يَمْنَحُونَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ أَلْبَانِهِمْ، فَيَسْقِينَا) [رواه البخاري: 2567]

    فلو كانت الدنيا علامة على كرامة، لكان أولى الناس بها محمد- صلى الله عليه وسلم -، وبهذا تطيب نفس المؤمن، فإذا رأى بهجة الحياة الدنيا، وأهلها متهافتون عليها، فليذكر حال أكرم الخلق على الله - عز وجل -.

    أما حديث (اللهم أحيني مسكينا وتوفني مسكينا واحشرني في زمرة المساكين) فقد ضعفه بعض أهل العلم، وحسنه بعضهم. ([2]). لكن الإنسان يسأل الله عيش الكفاف، بحيث لا يحوجه إلى أحد، ولا يشغله بمتاع زائد.

    (أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ) أي: أُثِير، واسْتُخْرِج من الأجساد.

    (وَحُصِّلَ): التعبير بالتحصيل، يدل على الفرز، والتنقيب.

    (مَا فِي الصُّدُورِ) يعني: ما تنطوي عليه الصدور، من العقائد، والمواجد. لأن القلوب في الصدور ، فيستخرج ما فيها من بر، وإيمان، أو فجور، وكفر، وعصيان.

    (إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ): ربما يكون المراد: عموم الناس، وربما أراد هؤلاء المنكرين. والعموم أولى. فالله - سبحانه وتعالى - رب الجميع، لكنه ربهم ربوبية عامة، تقتضي تربيتهم بنعمه؛ من خلق، ورزق، وإعداد، وإمداد. أما ربوبيته الخاصة: فهي لأوليائه المؤمنين، وأما ربوبية خاصة الخاصة: فهي لنبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - ولإخوانه من الأنبياء. والخبير: هو العليم ببواطن الأمور، ودقائقها.


    الفوائد المستنبطة

    الفائدة الأولى: فضل الخيل، وشدة بأسها، وقوة أثرها في الحروب.

    الفائدة الثانية: جحود الكافر لنعم الله بكفره.

    الفائدة الثالثة: شهادة الأفعال على الحال.

    الفائدة الرابعة: شدة تعلق الإنسان بالمال، والمتاع.

    الفائدة الخامسة: إثبات البعث.

    الفائدة السادسة: كمال علم الله، واطلاعه.

    الفائدة السابعة: إثبات اسم الله (الخبير)، وما تضمنه من صفة (الخبرة).

    الفائدة الثامنة: إثبات الربوبية العامة.


    ــــــــــــــــــــــــــــــــ
    ([1]) كَداء: اسم لعرفات أو جبل بأعلى مكة ودخل النبي - صلى الله عليه وسلم مكة منه -. [القاموس 4/382. ب]

    ([2]) قال الألباني في "السلسلة الصحيحة" 1 / 555 :

    أخرجه عبد بن حميد في " المنتخب من المسند " ( 110 / 2 ) فقال :

    حدثني ابن أبي شيبة : حدثنا وكيع عن همام عن قتادة عن أبي عيسى الأسواري عن أبي سعيد : أحبوا المساكين فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في دعائه . فذكره .

    قلت : و هذا إسناد حسن عندي ، رجاله كلهم ثقات رجال الشيخين غير أبي عيسى الأسواري فقد وثقه الطبراني و ابن حبان فذكره في " الثقات " ( 1 / 271 ) و روى عنه ثلاثة منهم ، أحدهم قتادة و لذلك قال البزار : " إنه مشهور " .

    و قول من قال فيه " مجهول " أو " لم يرو عنه غير قتادة " فبحسب علمه و فوق كل ذي علم عليم ، فقد جزم في " التهذيب " أنه روى عنه ثابت البناني و قتادة و عاصم الأحول .

    قلت: و هؤلاء جميعا ثقات فبهم ترتفع الجهالة العينية ، و بتوثيق من ذكرنا تزول الجهالة الحالية إن شاء الله تعالى ، لاسيما و هو تابعي ، و من مذهب بعض المحدثين كابن رجب و ابن كثير تحسين حديث المستور من التابعين ، و هذا خير من المستور كما لا يخفى .

    و للحديث طريق أخرى عن أبي سعيد ، و شواهد عن أنس بن مالك و عبادة ابن الصامت و ابن عباس خرجتها كلها في " إرواء الغليل " ( رقم 853 ) و إنما آثرت إيراد هذه الطريق هنا لأنها مع صلاح سندها عزيزة لم يتعرض لها بذكر كل من تكلم على طرق الحديث كابن الجوزي و ابن الملقن في "الخلاصة" و ابن حجر في " التلخيص" و السيوطي في " اللآلي " و غيرهم ،

    و لا شك أن الحديث بمجموع طرقه يرتقي إلى درجة الصحة ، و لذلك أنكر العلماء على ابن الجوزي إيراده إياه في " الموضوعات " و قال الحافظ في " التلخيص " ( ص 275 ) :

    " أسرف ابن الجوزي فذكر هذا الحديث في " الموضوعات " ، و كأنه أقدم عليه لما رآه مباينا للحال التي مات عليها النبي صلى الله عليه وسلم لأنه كان مكفيا،

    قال البيهقي : ووجهه عندي أنه لم يسأل حال المسكنة التي يرجع معناها إلى القلة ، و إنما سأل المسكنة التي يرجع معناها إلى الإخبات و التواضع " .
    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

    تحمَّلتُ وحديَ مـا لا أُطيـقْ من الإغترابِ وهَـمِّ الطريـقْ
    اللهم اني اسالك في هذه الساعة ان كانت جوليان في سرور فزدها في سرورها ومن نعيمك عليها . وان كانت جوليان في عذاب فنجها من عذابك وانت الغني الحميد برحمتك يا ارحم الراحمين

  5. #15
    تاريخ التسجيل
    Jun 2008
    المشاركات
    11,737
    الدين
    الإسلام
    الجنس
    أنثى
    آخر نشاط
    17-05-2024
    على الساعة
    12:48 AM

    افتراضي

    التفسير العقدي لسورة الزلزلة

    بقلم/ د. أحمد بن عبد الرحمن القاضي
    أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

    بسم الله الرحمن الرحيم

    (إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا (1) وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا (2) وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا (3) يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا (4) بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا (5) يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ (6) فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8))

    إن سورة الزلزلة مع السور الثلاثة التالية لها( العاديات – القارعة – التكاثر ) تكاد أن تكون موضوعاتها متقاربة؛ إذ أنها تتكلم عن البعث، وهي قضية يركز عليه القرآن المكي، وتبدو أهميتها في باب الإيمان بالله - عز وجل -، أو في باب الإيمان عموما على درجة كبيرة؛ ذلك أن الإيمان باليوم الآخر هو الذي يضبط العمل، ويحمل الإنسان على التقوى، ويحجزه عن غشيان محارم الله تعالى.

    مقصد السورة:

    سورة (الزلزلة) مقصدها العام هو: تقرير الإيمان باليوم الآخر وما يتضمنه

    (إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا):

    (إِذَا) هذه ظرفية

    (زُلْزِلَتِ) أي: حركت تحريكا شديدا، ورجت، كما قال في الآية الأخرى (رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا) فالزلزلة هي التحريك الشديد؛ بدليل قوله (زلزالها)، وكأن هذا أمر معروف بَيِّن، فعرفه بالإضافة إليها (زلزالها)

    (إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا) وذلك أنه في يوم القيامة يقع تغيرات كونية، فمن ذلك: أن الأرض تبدل غير الأرض، فهذه الأرض الممتدة الساكنة يقع لها اهتزاز عظيم، حتى أنه تبدل الأرض غير الأرض، وتعود الأرض وليس فيها معلم لأحد، لا جبل يشرف عليه، ولا وادي يكن من فيه، ولكن تعود كالقرصة، كالخبزة، أرض لم يسفك عليها دم، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - (تمد مد الأديم) [أخرجه أحمد (3556)، وابن ماجه (4081)، وضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة (4318)]؛ وذلك لكي تتسع للمحشر العظيم.

    (وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا) الأرض هي التي ذكرت قبل قليل

    وما أثقالها؟ أي: ما في بطنها من الموتى المقبورين.

    وعبر بعض المفسرين بقولهم: كنوزها ونحو ذلك، ولكن المقصود هو ما في بطنها من المقبورين؛ إذ أن المقصود ها هنا هو إثبات البعث، ولا شك أن الأرض قد امتلأت بالقبور، والأجداث، كما قال المعري:

    رب قبر قد صـار قبرا مرارا ضاحكا من تزاحم الأضداد

    سر إن استعط في الهواء رويدا لا اختيالا على رفات العباد

    إلى أخر ما قال.

    فلا شك أن هذه الأرض من لدن آدم - عليه السلام - إلى يومنا هذا إلى من يموت من آخر الناس يملئون جوفها، فهي بمنزلة الأم لهم، ثم هي يوم القيامة تلفظ ما فيها، وتخرج ما في رحمها، فمن كان في بطنها خرج على ظهرها.

    (وَقَالَ الْإِنْسَانُ) من الإنسان ها هنا؟

    - يحتمل أن يكون جنس الإنسان.

    - ويحتمل أن يكون المكذب والمنكر بالبعث؛ وربما يؤيد هذا الثاني كون هذا الاستفهام استفهام إنكاري (وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا) فهذا الاستنكار إنما يقع من الكفار؛ كما أخبر الله - سبحانه وتعالى – بقوله: (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ(51) قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ) فهذا التعجب والاستنكار منهم يؤيد أن المراد بالإنسان ها هنا منكر البعث على وجه الخصوص

    (مَا لَهَا) يعني: ما الذي جرى لها؟ ماذا حل بها؟

    (يَوْمَئِذٍ) أي: في ذلك اليوم الموصوف.

    (تُحَدِّثُ) أي: الأرض هي التي تحدث، كيف ذلك؟ انطقها الله الذي انطق كل شيء؛ فإن الله - سبحانه وتعالى - قادر على إنطاق الجماد، وقادر على إنطاق أعضاء الإنسان يوم القيامة (يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ) فالله على كل شيء قدير، فمن قدرته أن تخبر هذه الأرض بما عمل عليها من خير أو شر

    (تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا) أي تخبر بما عمل عليها من خير أو شر.

    (بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا) الباء هنا للسببية، والتقدير: لأن رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا، أو بسبب أن رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا.

    والمقصود بـ (أَوْحَى لَهَا) يعني: أعلمها، وأمرها بالتحديث.

    وقد ورد في ذلك حديث أبي هريرة – رضي الله عنه - قَالَ : قرأ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - : { يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا } [ الزلزلة : 4 ] ثُمَّ قَالَ : ((أتَدْرونَ مَا أخْبَارهَا )) ؟ قالوا : الله وَرَسُولُهُ أعْلَمُ . قَالَ : (( فإنَّ أخْبَارَهَا أنْ تَشْهَدَ عَلَى كُلّ عَبْدٍ أَوْ أمَةٍ بما عَمِلَ عَلَى ظَهْرِهَا تَقُولُ : عَملْتَ كَذَا وكَذَا في يَومِ كَذَا وكَذَا فَهذِهِ أخْبَارُهَا )) [رواه أحمد (8854) والترمذي (2429) وغيرهما]، إلا أن هذا الحديث قد ضعفه بعض العلماء ومنهم الألباني - رحمه الله –

    وقد جاءت أيضا أثارا أخرى في أن البقاع تشهد لمن مر عليها، أو عمل عليها عملا.

    وهذه الآية أصلا لرأسه في أن الأرض تحدث وتخبر بما جرى على ظهرها، وهي من شهود الله.

    فإن شهود الله كثر:

    - فمما يقيم الله تعالى به الحجة على الظالم وعلى الكافر: أن تشهد عليه الملائكة الكرام، (بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ)،
    - ومن إقامة الله الحجة: أن تشهد عليهم جوارحهم؛ كما جاء في حديث أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ، قَالَ: كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَضَحِكَ ، فَقَالَ : هَلْ تَدْرُونَ مِمَّ أَضْحَكُ ؟ قَالَ : قُلْنَا : اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ ، قَالَ : مِنْ مُخَاطَبَةِ الْعَبْدِ رَبَّهُ ، يَقُولُ : يَا رَبِّ ، أَلَمْ تُجِرْنِي مِنَ الظُّلْمِ ؟ قَالَ : يَقُولُ : بَلَى ، قَالَ : فَيَقُولُ : فَإِنِّي لاَ أُجِيزُ([1]) عَلَى نَفْسِي إِلاَّ شَاهِدًا مِنِّي ، قَالَ : فَيَقُولُ : كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ شَهِيدًا ، وَبِالْكِرَامِ الْكَاتِبِينَ شُهُودًا ، قَالَ : فَيُخْتَمُ عَلَى فِيهِ ، فَيُقَالُ لأَرْكَانِهِ : انْطِقِى ، قَالَ : فَتَنْطِقُ بِأَعْمَالِهِ ، قَالَ : ثُمَّ يُخَلَّى بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْكَلاَمِ ، قَالَ : فَيَقُولُ : بُعْدًا لَكُنَّ وَسُحْقًا ، فَعَنْكُنَّ كُنْتُ أُنَاضِلُ([2]).[رواه مسلم: 2969 ] فهذا سبب ضحك النبي - صلى الله عليه وسلم -
    - ومن شهود الله تعالى: هذه الأرض، فإنها تشهد أيضا بما عمل على ظهرها؛ فحجة الله بالغة
    (يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ) (يَصْدُرُ) أي: ينصرف، ويرجع. فالناس يصدرون من موقف الحساب، بمعنى أنهم ينصرفون إلى مآلاتهم

    (أَشْتَاتًا) أي: متفرقين بحسب ما أسلفوا من العمل، فهم ليسوا على نسق واحد، ولا يساقون مساقا واحدا، بل لكل وجه ولكل طريق

    (لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ) أي:

    - لِيُرَوْا نتائج وجزاء أعمالهم؛ لأنه بعد صدورهم يكون قد قضي بينهم (فريق في الجنة وفريق في السعير)، وهذا الراجح في المعنى المراد.
    - ويحتمل أن يكون أن يكون المعنى: لكي يروا ما قدموا من خير، أو شر، ويجازوا عليه، فتشمل: رؤية العمل، والمجازاة عليه. تشمل رؤية العمل بمعنى: أن الله يوقفهم عليه، والمجازاة عليه
    وربما يؤيد الأول أنه جعلها بعد قوله: (يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا)؛ فصدورهم هذا يكون بعد أن أروا أعمالهم، فبقي أن يروا جزاء أعمالهم.

    (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ):

    (الفاء) للتفريع.

    والمقصود بـ (مِثْقَالَ ذَرَّةٍ) يعني: وزن ذرة، والذرة: هي النملة الصغيرة، ويضرب بها المثل في دقة الشيء، وحقارته، وصغره.

    وهذا هو الذي تفهمه العرب من لغتها، ودعك من قوم أرادوا أن يحملوا القرآن على غير مراده، فزعموا أن الذرة هنا هي الذرة المعروفة في علم الفيزياء الآن، (الذرة الفيزيائية) فإن هذا لم يكن معروفا عند المخاطبين، ولا يمكن أن يخاطب الله الناس بغير ما يعلمون، وهم إنما قالوا ذلك؛ لأنهم لاحظوا أن هذه الذرة التي عند (الفيزيائيين) هي أصغر ما يكون.

    إذا الحساب على مثاقيل الذر، وهذا يدل على أن كل ما يصدر من الإنسان من خير، أو شر، فهو محفوظ كما قال قائلهم (مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا) فهناك دقة في الإحصاء وعدل في الأحكام


    الفوائد المستنبطة

    الفائدة الأولى: هول يوم القيامة، وانقلاب الأرض.

    الفائدة الثانية: إثبات البعث.

    الفائدة الثالثة: مفاجئة منكري البعث - أجارنا الله وإياكم من هذه الفجئة -؛ قارنوا بين هذين القولين:

    - قول من يقول (يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا)
    - وبين من يقول (هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ)
    الأول: مدهوش، مفزوع، مصدوم، مفجوء.

    والثاني: مطمئن، مصدق، مستوعب لما جرى.

    الفائدة الرابعة: قدرة الله على إنطاق كل شيء، وهذا رد على هؤلاء المادين والعقلانيين، الذين حجروا عقولهم في الشيء المادي المحسوس، الذي يقع تحت الحواس، ولا تتسع أفاقهم، لأن يخلف الله تعالى هذه السنن، ويجري الأمور على غير النسق الذي هو عليه.

    الفائدة الخامسة: إثبات الجزاء

    الفائدة السادسة: كمال عدل الله، وإحاطته، وإحصائه؛ حيث انه لم يترك صغيرة، ولا كبيرة، من خير، أو شر، إلا أحصاها، وأحاط بها، وجازى عليها بالعدل.

    ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

    (1) لا أجيز اليوم : أي : لا أمضي ولا أقبل علي شاهدا. [من((جامع الأصول في أحاديث الرسول)) لابن الأثير]

    (2) أناضل: أي أدافع وأجادل. من [((شرح مسلم للنووي))]
    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

    تحمَّلتُ وحديَ مـا لا أُطيـقْ من الإغترابِ وهَـمِّ الطريـقْ
    اللهم اني اسالك في هذه الساعة ان كانت جوليان في سرور فزدها في سرورها ومن نعيمك عليها . وان كانت جوليان في عذاب فنجها من عذابك وانت الغني الحميد برحمتك يا ارحم الراحمين

  6. #16
    تاريخ التسجيل
    Jun 2008
    المشاركات
    11,737
    الدين
    الإسلام
    الجنس
    أنثى
    آخر نشاط
    17-05-2024
    على الساعة
    12:48 AM

    افتراضي

    سورة البينة [1]

    بقلم /د. أحمد بن عبد الرحمن القاضي


    أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

    بسم الله الرحمن الرحيم

    (لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (1) رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً (2) فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (3) )


    سبب تسمية هذه السورة بسورة البينة،

    قوله فيها: (حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ). وهو اسم على مسمى، فقد حصلت بها البينة العظيمة.

    فمن مقاصد هذه السورة:-
    - تحقيق البينة، ورفع الالتباس.

    - إثبات الرسالة الخاتمة، وصاحبها - صلى الله عليه وسلم -

    - بيان حقيقة الدين، واستقامته.

    - بيان مآلات الناس.

    ويلاحظ أن هذه السورة تختلف عن سابقاتها ولاحقاتها، من سور (جزء عم)، بطول الفواصل، فغالب سوره آياتها قصيرة، أما هذه السورة ففي آياتها نوع طول.


    (لَمْ) أداة نفي.


    (يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا): اسم كان، وأما خبرها: (مُنْفَكِّينَ).


    (أَهْلِ الْكِتَابِ) اليهود، والنصارى، لنزول التوراة، والإنجيل فيهم، إلا أنهم حرفوه، وأضاعوه، وأفسدوا دينهم، بما أدخله أحبار السوء، ورهبان الضلالة من البدع المضلة.


    (الْمُشْرِكِينَ) عبدة الأوثان من جميع الأمم، ومنهم مشركو العرب.


    (مُنْفَكِّينَ) منتهين، ومنفصلين عما هم فيه من الكفر والضلال. و(الانفكاك) لفظ يدل على العلوق، يعني أنهم عالقون، ساقطون في وضع لا يمكن أن يخرجوا منه، إلا بنفحة علوية، ورسالة سماوية.


    (حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ) البينة: الحجة الواضحة، والمراد بها هنا تحديدًا: بعثة محمد - صلى الله عليه وسلم -، فهذه هي البينة التي ترفع كل التباس، وتزيل كل إشكال. ومعنى هذه الآية الاستهلالية: أن الكفار على مختلف أصنافهم؛ من المشركين، عبدة الأوثان، ومن كفرة أهل الكتاب؛ من اليهود والنصارى، ما كان لهم أن ينفكوا، ويزولوا، وينفصلوا عما هم فيه من الضلال، إلا بمجيء البينة، وهي الدليل الواضح، والبرهان الساطع، الذي يكشف كل التباس، ويرفع كل خلاف.


    وفي هذه إشارة إلى حال الناس قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم. فقد كان الناس في جاهلية جهلاء، وضلالة عمياء، فهم ما بين مشرك يعبد صنماً، أو شجرًا، أو حجرًا، أو غير ذلك من أنواع المعبودات، وهم الوثنيون، ومنهم مشركو العرب، الذين بعث فيهم النبي - صلى الله عليه وسلم -، فكانوا يعبدون أنواع الآلهة: اللات، والعزى، ومناة، وهُبَل، وودًا، وسواعًا، ويغوث، ويعوق ،ونسرا.


    وكان أحدهم إذا نزل منزلاً، بحث عن أربعة أحجار، فجعل ثلاثة منها أثافيَّ لقدره، والرابع إلهًا يعبده!. وإذا نزل أرضًا سهلة ليس فيها حجر، جمع كثيبًا من رمل، ثم حلب عليه ناقته، ثم عبده!. وربما جمع أحدهم التمر، وعبطه، فعبده، فإذا جاع أكله! وكانوا يعبدون الجن، والملائكة، ويعبدون كل شيء. وذكر(الكلبي) في كتاب [الأصنام] أكثر من هذا. هذا من ناحية الاعتقاد.


    وكانوا من الناحية الأمنية، والاجتماعية على أسوء حال؛ يقتل بعضهم بعضًا، ويغزو بعضهم بعضًا، فكانوا في حروب وثارات مستمرة. وكانوا يظلمون الضعيف، ويأكلون مال اليتيم، والمرأة، فلا يورثونهما، ويغمطونهما حقهما.


    ولم يكن أهل الكتاب، في ذلك الوقت، بخير حال منهم. فأما اليهود، المغضوب عليهم، فإنها أفسدت دين موسى - عليه السلام -، وأخرجته من التوحيد الصرف، إلى أنواع من الشرك، وسوء الأدب مع الله - عز وجل -، والتطاول على جنابه، والنيل من أنبيائه، إضافة إلى أخلاقهم الدنيئة، الوضيعة في التعامل مع الناس؛ من الكبر، والحسد، والسعي في الأرض فساداً، ولهذا عوقبوا بأن شتتهم الله في الأرض، شذر مذر، حتى آل طائفة منهم إلى يثرب - كما كانت تسمى في الجاهلية - يترقبون بعثة النبي الخاتم.


    وأما النصارى الضالون، فقد تفرقوا فرقًا كثيرة، وتناحروا فيما بينهم، حتى كانوا يعقدون المجامع، فلا ينفضُّون إلا بين لاعن وملعون! فأغرى الله بينهم العداوة والبغضاء، وسالت الدماء بسبب ذلك، فكانوا مضطربين في معتقدهم، حتى تسيَّد قول القائلين منهم، بأن الله ثالث ثلاثة، تعالى الله عما يقولون، وصاروا يحملون الناس على هذا، وجرت حروب عظيمة.


    وقد وصف أبو الحسن الندوي - رحمه الله - في كتابه (ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين)([1]) - حال البشرية قبل بعثة النبي - صلى الله عليه وسلم -، على اختلاف أممها، وكيف كانوا بأمس الحاجة إلى من يستنقذهم من هذا التيه والضلال، الذي تردوا فيه ، فكان أن بعث الله محمدا - صلى الله عليه وسلم - رحمة للعالمين. قال تعالى: (إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) فبعث الله محمدا - صلى الله عليه وسلم - من العرب، ووصف دينه بأنه من البينة، فقد أنزل الله تعالى كلاما بينًا، واضحًا، لا يستعصي فهمه على الأعرابي البسيط، ولا يستنكف عنه العالم الضليع، بل تخضع له الرقاب، ويقبله كل صاحب فطرة سوية، وكل صاحب عقل سليم، ولا يرون فيه تفاوتًا، ولا تناقضًا، (وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا).


    (رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً): (رَسُولٌ)، بالرفع، بدل من (الْبَيِّنَةُ). وهذا الرسول هو محمد - صلى الله عليه وسلم - الذي دلت الدلائل المتكاثرة على صدقه. قال الله تعالى (لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ). كانت بعثة محمد - صلى الله عليه وسلم – فتحًا، وفرجًا، ونَفَسًا، من الله، سبحانه وتعالى، وإلا فإن الناس كانوا على شفير هلكة، وفي الحديث: (إِنَّ اللَّهَ نَظَرَ إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ، فَمَقَتَهُمْ؛ عَرَبَهُمْ، وَعَجَمَهُمْ، إِلَّا بَقَايَا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ. وَقَالَ: إِنَّمَا بَعَثْتُكَ لِأَبْتَلِيَكَ، وَأَبْتَلِيَ بِكَ، وَأَنْزَلْتُ عَلَيْكَ كِتَابًا لَا يَغْسِلُهُ الْمَاءُ، تَقْرَؤُهُ نَائِمًا وَيَقْظَانَ) [رواه مسلم].


    وكان قد بقي بقية من صالحي أهل الكتاب، في الصوامع، والديارات، باقون على الدين الصحيح، فكانوا أعظم الناس فرحًا ببعثة محمد - صلى الله عليه وسلم - . قال تعالى: (وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ. الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ.وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آَمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ. أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ) [القصص:51-52]، وفي الآية الأخرى (وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آَمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ. وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ)،[المائدة:82-83]. فحينما جاء محمد -صلى الله عليه وسلم- فرح به أولئك المؤمنون، ورأوا فيه امتدادًا طبيعيًا لرسالة الأنبياء السابقين، وإحياءً لدين الله الحق.


    (رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ) إذا رسالته من عند الله، ليس صاحب نظرية فكرية، أو فلسفية، وكلا!، وليس مجرد مصلح اجتماعي ساءه ما رأى من حال الناس، فانتدب للإصلاح الاجتماعي، كلا! هي رسالة ربانية قبل كل شيء. وقد حاول المستشرقون أن يقولوا إنه كان مصلحًا اجتماعيًا، أو أنه كان مثقفًا ثقافةً دينية، يريدون أن يزيلوا عنه وصف النبوة - خابوا وخسروا - هو رسول من الله


    (يَتْلُو صُحُفًا) يتبع، وهي القرآن العظيم.


    (مُطَهَّرَةً) أي: مبرئة من كل شائبة باطل؛ (لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ).


    لهذا كانت هذه الرسالة تحمل صفة البينة؛ لأن الرسول من الله، والكتب التي يتلوها، وتورث من بعده مطهرة. وفي هذا إشارة إلى أنه لا يأتيها الباطل، ولا يمكن أن يلحقها تحريف، ولا تغيير، ولا زيادة، ولا نقصان؛ لأن الله - تعالى - تكفل بحفظها. قال الله تعالى: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ)، فلذلك لم ينخرم منه حرف واحد، ولم يقع بين المسلمين خلاف في موضع واحد. دعك من الرافضة! أدعياء الإسلام، الذين يزعمون أن القرآن ناقص، أو أن القرآن فيه تحريف، حتى ألف أحد خبثائهم- قبحه الله- كتابًا سماه: (فصل الخطاب في إثبات تحريف كتاب رب الأرباب)، ويزعمون أن عندهم مصحف فاطمة، ثلاثة أضعاف المصحف الذي بين أيدي المسلمين. هؤلاء زنادقة لا يلتفت إلى كلامهم.


    أما كتب من قبلنا فإن الله – تعالى - قد وكل إليهم حفظ كتبهم، فأضاعوها قال الله تعالى: (إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ) فالله – تعالى - وكَل إلى الأحبار والرهبان حفظ كتبهم، لكنهم أضاعوها.


    (فِيهَا كُتُبٌ): كُتُبٌ، جمع كتاب، بمعنى مكتوب، أي آيات مكتوبة.


    (قَيِّمَةٌ) أي: مستقيمة، لا اعوجاج فيها، ولا خلل.


    الفوائد المستنبطة

    الفائدة الأولى: بيان حال الناس قبل بعثة النبي - صلى الله عليه وسلم -.

    الفائدة الثانية: كفر أهل الكتاب. ومن العجب العجاب أن تجد من الناس من ينازع في كفر أهل الكتاب، وقد صرح الله بكفرهم هاهنا، وفي قوله: (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ)، وقوله: (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ).

    الفائدة الثالثة: أن الكفر أنواع:

    - كفر المشركين: المتمثل بعبادة الأوثان، واتخاذ الأنداد.

    - وكفر أهل الكتاب: المتمثل، بكفر اليهود، كقولهم (يد الله مغلولة) وقولهم (إن الله فقير ونحن أغنياء) وقولهم: (إن الله خلق السموات والأرض في ستة أيام واستراح في اليوم السابع)،وكفر النصارى بقولهم: (إن الله ثالث ثلاثة)،وقولهم: (المسيح ابن الله).

    - وكفر المنافقين: المتمثل بإظهارهم الإيمان، وإبطانهم خلافه.

    - وكفر إبليس: المتمثل بالإباء، والاستكبار.

    - وكفر الغافلين، المتمثل بالتولي، والإعراض.

    الفائدة الرابعة: أن رسالة النبي - صلى الله عليه وسلم – بيِّنة، واضحة، رافعة لكل اشتباه، والتباس: (ما فرطنا في الكتاب من شيء).

    الفائدة الخامسة: إثبات رسالة النبي - صلى الله عليه وسلم - من الله.

    الفائدة السادسة: إثبات تنزيل القرآن.

    الفائدة السابعة: حفظ القرآن من كل تحريف، ونقص.


    ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
    ([1]) وهو من أحسن من كتب في هذا الصدد، وقد ألف قبل نحو أربعين سنة، لكنه كتاب نافع ماتع، أوصي بقراءته.
    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

    تحمَّلتُ وحديَ مـا لا أُطيـقْ من الإغترابِ وهَـمِّ الطريـقْ
    اللهم اني اسالك في هذه الساعة ان كانت جوليان في سرور فزدها في سرورها ومن نعيمك عليها . وان كانت جوليان في عذاب فنجها من عذابك وانت الغني الحميد برحمتك يا ارحم الراحمين

  7. #17
    تاريخ التسجيل
    Jun 2008
    المشاركات
    11,737
    الدين
    الإسلام
    الجنس
    أنثى
    آخر نشاط
    17-05-2024
    على الساعة
    12:48 AM

    افتراضي

    سورة القدر

    بقلم / د. أحمد بن عبد الرحمن القاضي


    أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

    بسم الله الرحمن الرحيم

    (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3) تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (4) سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (5))

    سورة (القدر): سورة مكية.

    سميت بهذا الاسم: نسبة إلى ذكر الليلة المباركة، (ليلة القدر).

    ولهذه السورة مقصدان :

    - أحدهما: الإيمان بالقرآن، بوصفه كلام الله. وهو أمر كان ينازع فيه كفار قريش، وكفار العرب، ويأبون التصديق بأن هذا الكلام الذي يأتي به محمد - صلى الله عليه وسلم - من عند الله! ويزعمون أنه كهانة، أو أنه أساطير الأولين، أو أنه من كلام بعض أهل الكتاب، ألقاه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أو غير ذلك من الدعاوى، فجاءت هذه السورة لتبين مصدر هذا القرآن، وأنه من عند الله.

    - أما المقصد الثاني: فهو شرف هذه الليلة العظيمة، (ليلة القدر).

    (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) (إِنَّا) هذا ضمير للدلالة على الله - عز وجل -، أتى بصيغة الجمع، للتعظيم، فإن من شأن العظيم أن يعبر عن نفسه بصيغة الجمع، كما يقع من بعض سلاطين الدنيا، يقول: "نحن" و "أمرنا" و "نهينا" و "قضينا" و "رسمنا" وغير ذلك، وهو شخص واحد. فالله - سبحانه وتعالى - أحق بالتعظيم، فلذلك يقول عن نفسه – سبحانه - (إِنَّا).

    (أَنْزَلْنَاهُ) ولم يصرح بذلك المبهم، وذلك لمزيد تعظيمه، وإجلاله، وهو القرآن.

    وهل المراد أن الله - سبحانه وتعالى - أنزل القرآن جملة واحدة، في ليلة القدر؟ أم المراد ابتدأ تنزيله؟ قولان للعلماء:

    - فمنهم من قال: إن المراد: ابتداء تنزيله؛ لأن القرآن العظيم لم ينزل جملة واحدة؛ بل نزل منجمًا، حتى إن المشركين احتجوا وشبهوا وقالوالَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآَنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً)، فرد الله تعالى عليهم بقوله: (كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا).
    - والقول الثاني: أنه أنزل إلى السماء الدنيا، من اللوح المحفوظ، جملة واحدة، وأن في السماء الدنيا بيت يقال له "بيت العزة"، أنزل الله فيه القرآن جملة واحدة، ليلة القدر، ثم صار ينزل منجما، على حسب الوقائع، على قلب محمد - صلى الله عليه وسلم -.
    وعند التأمل في القولين نجد أن القول الأول، يتوافق مع ما دلت عليه آية الفرقان (كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا)، ويتوافق مع عقيدة أهل السنة والجماعة، في أن الله - سبحانه وتعالى - يتكلم بالوحي على حسب الوقائع، ثم ينزل به جبريل على قلب محمد - صلى الله عليه وسلم -، والعبارة تحتمل ذلك؛فقد يعبر بالجزء عن الكل.

    والقول الثاني يعضده أثر عن ابن عباس - رضي الله عنهما - وهذا الأثر قد صح إليه، من أن الله - سبحانه وتعالى - أنزل القرآن جملة واحدةً إلى السماء الدنيا، ثم صار ينزل منجمًا، على النبي - صلى الله عليه وسلم - على حسب الحوادث. ومثل هذا، لا يمكن أن يقوله ابن عباس، من عند نفسه، بل ينبغي أن يكون له حكم الرفع. ولا يمكن – أيضا - أن يقوله بناءً على ما قرأ في كتب أهل الكتاب؛ لأن هذا أمر يتعلق بهذه الأمة، لا بأخبار الأولين.

    ويمكن الجمع بين القولين، فيقال: إن الله - سبحانه وتعالى - أنزل القرآن من اللوح المحفوظ، إلى السماء الدنيا، وذلك أن اللوح المحفوظ متضمن للقرآن؛ كما قال الله - عز وجل - (فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ. وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ. إِنَّهُ لَقُرْآَنٌ كَرِيمٌ. فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ) الواقعة: 75-77 . فهذا القرآن العظيم، مسطور في اللوح المحفوظ، ولا يمنع أن يكون الله - سبحانه وتعالى - أنزله مكتوبا إلى السماء الدنيا، ثم تكلم الله به حسب الوقائع، وأنزله وحياً إلى النبي - صلى الله عليه وسلم، متى شاء، بما شاء، كيف شاء.

    ولتقريب ذلك للأذهان، ولله المثل الأعلى: ربما كتب الخطيب خطبة الجمعة، أو المحاضر نص المحاضرة، وبقيت محفوظة في الأوراق، لكنه يتكلم بها إذا صعد المنبر، أو اعتلى المنصة. فلا يمنع أن يكون الله - سبحانه وتعالى - قد أودع كلامه الذي سيتكلم به، في اللوح المحفوظ؛ لأن اللوح المحفوظ هو أم الكتاب، فيه كل شيء، حتى القرآن، كما قال تعالى : (إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ . فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ) [الواقعة : 77 ، 78]، وقال: (بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ. فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ) [البروج : 21 ، 22]. وليس المقصود، على الراجح، مجرد ذكره فيه، بل هو بحروفه، فيه. ثم إن الله - سبحانه وتعالى - إذا تكلم بالوحي، حسب مشيئته، نزل به جبريل، وهذا الوحي الذي يتكلم به يكون مطابقاً للمكتوب في اللوح المحفوظ، وبهذا يزول التعارض، إن شاء الله.


    (فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ): هذا بيان لزمن الإنزال، وهو ليلة القدر.


    (وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ) يعني: ما أعلمك؟، والمخاطب هو: النبي - صلى الله عليه وسلم -، والمقصود من هذا الاستفهام هو: التفخيم، والتعظيم،. والمراد بالقدر:

    - الشرف، والرفعة. حينما تقول: "فلان ذو قدر" فالمقصود: أنه شريف، رفيع.
    - التقدير: لأن الله يقدر فيها مقادير السنة القادمة. قال - سبحانه وتعالى - في مستهل سورة (الدخان) (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (3) فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ(4) أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ)
    ولا تنافي بين المعنيين؛ فهذه الليلة، ليلة شريفة، عظيمة، جليلة، ومن شرفها، وقدرها، أن الله تعالى يقدر فيها ما يكون في العام التالي، من حياة، وموت، وصحة، ومرض، وعز، وذل، وكرب، وفرج.


    (لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ): هذا جواب الاستفهام. يعني أن العمل الصالح فيها، خير من العمل في ألف شهر، ليست فيه؛ فلو قدرنا ألف شهر، خالياً من ليلة القدر، فإن ليلة القدر خير منه.

    ولا شك أن هذا يدل على عظم قدرها. فكم يعادل ألف شهر؟ ثلاث وثمانين سنة، يعني أنه عمر إنسان معمر، فلو أن هذا الإنسان المعمر عمل طوال عمره، لقابل ذلك عمل ليلة قدر واحدة! والله ذو الفضل العظيم.


    ومحلها في شهر رمضان، كما دل على ذلك القرآن العظيم، بدليل مركب من قوله - تعالى - (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ)، وقوله: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أنزل فِيهِ الْقُرْآَنُ)، وبهذا جاءت السنة النبوية. فعَنْ أَبِي سَلَمَةَ، قَالَ: انْطَلَقْتُ إِلَى أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، فَقُلْتُ: أَلاَ تَخْرُجُ بِنَا إِلَى النَّخْلِ، نَتَحَدَّثْ، فَخَرَجَ، فَقَالَ: قُلْتُ: حَدِّثْنِي مَا سَمِعْتَ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ. قَالَ: اعْتَكَفَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَشْرَ الأُوَلِ مِنْ رَمَضَانَ، وَاعْتَكَفْنَا مَعَهُ. فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ، فَقَالَ: إِنَّ الَّذِي تَطْلُبُ أَمَامَكَ. فَاعْتَكَفَ الْعَشْرَ الأَوْسَطَ، فَاعْتَكَفْنَا مَعَهُ. فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ، فَقَالَ: إِنَّ الَّذِي تَطْلُبُ أَمَامَكَ. فَقَامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم خَطِيبًا، صَبِيحَةَ عِشْرِينَ مِنْ رَمَضَانَ، فَقَالَ: مَنْ كَانَ اعْتَكَفَ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَلْيَرْجِعْ، فَإِنِّي أُرِيتُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ، وَإِنِّي نُسِّيتُهَا، وَإِنَّهَا فِي الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ، فِي وِتْرٍ، وَإِنِّي رَأَيْتُ كَأَنِّي أَسْجُدُ فِي طِينٍ وَمَاءٍ. وَكَانَ سَقْفُ الْمَسْجِدِ جَرِيدَ النَّخْلِ، وَمَا نَرَى فِي السَّمَاءِ شَيْئًا، فَجَاءَتْ قَزْعَةٌ، فَأُمْطِرْنَا، فَصَلَّى بِنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، حَتَّى رَأَيْتُ أَثَرَ الطِّينِ، وَالْمَاءِ، عَلَى جَبْهَةِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلمن وَأَرْنَبَتِهِ، تَصْدِيقَ رُؤْيَاهُ) [رواه البخاري].

    فاتفق تلك السنة، أن وقعت ليلة إحدى وعشرين. وليلة القدر لا تختص بليلة سبع وعشرين - كما يعتقد كثير من الناس - وإن كانت أرجاها، لكنها – على الصحيح- تتنقل في ليالي العشر، لا سيما ليالي الوتر منه، وأرجاها ليلة سبعة وعشرين.


    وإنما أخفيت لحكمة! ومن حكمة الله في إخفائها، وعدم القطع بموعدها: أن يجتهد الناس في إصابتها؛ بطول القيام، ليالي العشر كلها. ولهذا ترى المسلمين يحرصون على التهجد في ليالي عشر؛ فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : (مَنْ يَقُمْ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانًا، وَاحْتِسَابًا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ) [متفق عليه].

    الله أكبر! يقوم الإنسان ليلة واحدة، فيبيض الله صحائفه! فلا شك أنها ليلة شريفة، عظيمة، جليلة.

    (تنزل): أي تتنزل، فأدغمت التاءان


    (الْمَلَائِكَةُ): جمع ملَك، وأصله: مألك، من الألوكة، وهي الرسالة. وهم عالم غيبي كريم، خلقهم الله من نور، واستعملهم في طاعته، وعبادته، وتسبيحه، وأعطاهم القوة على ذلك؛ فهم يسبحون الليل والنهار، (لا يفترون) (لا يسئمون) (لا يستحسرون). وليس لهم من خصائص الربوبية، والألوهية شيء، قال تعالى: (بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ. لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ. يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ. وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ) [الأنبياء : 26 - 29]


    (وَالرُّوحُ فِيهَا) الروح هنا هو: جبريل - عليه السلام -، وهو سيد الملائكة؛ لكونه - عليه الصلاة والسلام - الموكل بحياة القلوب؛ إذا أنه ينزل بالوحي. ولهذا خصه بالذكر، مع أنه أحدهم ، وهذا من عطف الخاص على العام.


    (فِيهَا) أي في تلك الليلة؛ لأن هذا هو المقصود.


    (بِإِذْنِ رَبِّهِمْ) أي بأمره، فمن أمره الله أن ينزل من الملائكة نُزل، فلا يلزم أن يكون جميع ملائكة الرحمن ينزلون؛ إذ أن ملائكة الرحمن لا يحصيهم كثرة إلا هو، كما قال: (وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ) [المدثر : 31]. وفي الحديث عن أبي ذر، قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: (إني أرى ما لا ترون! وأسمع ما لا تسمعون! أطَّت السماء، وحق لها أن تئط؛ ما فيها موضع أربع أصابع، إلا وملك واضع جبهته، ساجدًا لله. لو تعلمون ما أعلم، لضحكتم قليلًا، ولبكيتم كثيرًا، وما تلذذتم بالنساء على الفرش، ولخرجتم إلى الصعدات، تجأرون إلى الله. لوددت أني كنت شجرة تعضد) رواه الترمذي، وحسنه الألباني. والجملة الأخيرة، تروى من كلام أبي ذر. وأطت يعني: ثقلت، وسمع لها أطيط، وهو الصوت الذي يسمع من سيور الرحل إذا ثقل بالراكب.


    (مِنْ كُلِّ أَمْرٍ): (مِنْ) هنا سببية، أي بسبب، يعني بسبب تقدير الله لكل أمر. والمقصود: من قضاء الله إلى السنة القادمة، ثم وصفها بوصف آخر، فقال:


    (سَلَامٌ هِيَ): قال (سَلَامٌ هِيَ)، ولم يقل هي سلام، فقدم الخبر، وأخر المبتدأ، لبيان الاختصاص، أي أنها موصوفة بذلك. وقيل في معناها:

    - لكثرة السلام فيها؛ فإن الملائكة لا تمر على طائفة من المؤمنين، إلا وألقت عليهم السلام، فيكثر السلام فيها. وإن كان المؤمنون لا يشعرون، ولا يسمعون هذا السلام، لكن هذا لا يضر، فإنه نوع دعاء.
    - وقيل : أي أنها سالمة من الشر.

    (حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ) (حتى) للغاية. يعني: وقت طلوعه، فهذه الليلة المباركة يبتدئ زمانها من مغيب الشمس، وينتهي بطلوع الفجر؛ لأن هذا هو زمان الليل، فتتنزل ملائكة الرحمن، وتغمر الأرض بالسلام، والسلامة، إلى أن يطلع الفجر، ثم تشرع في العروج إلى ربها. قال بعض العلماء: إن معنى قول النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذكر علامات ليلة القدر: تُصْبِحُ الشَّمْسُ صَبِيحَةَ تِلْكَ اللَّيْلَةِ مِثْلَ الطَّسْتِ، لَيْسَ لَهَا شُعَاعٌ، حَتَّى تَرْتَفِعَ) رواه الترمذي، بسبب كثرة عروج الملائكة، إلى السموات، وحيلولتهم دونها، لا يكاد يرى لها شعاع، بل ترى بيضاء، كالطست.

    وهي ليلة مطمئنة، معتدلة، ليست باردة، ولا حارة، بل متوسطة بالنسبة لليالي التي حواليها. وإلا فمن المعلوم أن رمضان قد يوافق شدة البرد، وقد يوافق شدة الحر، ولكن المقصود مقارنةً بما قبلها، وما بعدها من الليالي.


    الفوائد المستنبطة

    الفائدة الأولى: القرآن كلام الله، منزل من عند الله، غير مخلوق، فهو صفة للخالق، وصفات الخالق لا يمكن أن تكون مخلوقة، وفي هذا رد على المعتزلة الذين زعموا خلق القرآن.

    الفائدة الثانية: إثبات علو الله، لأن التنزيل يكون من الأعلى. فالله - سبحانه وتعالى - فوق جميع خلائقه، مستوٍ على عرشه، بائن من خلقه، ليس فيه شيء من خلقه، ولا في خلقه شيء منه.

    الفائدة الثالثة: شرف تلك الليلة.

    الفائدة الرابعة: اصطفاء الله واختياره لما يشاء من الأزمنة، والأمكنة، والذوات، والأحوال، (وربك يخلق ما يشاء ويختار).

    الفائدة الخامسة: إثبات الملائكة، ونزولها، وعروجها؛ لأن الذي ينزل يعرج.

    الفائدة السادسة: شرف جبريل - عليه السلام -؛ لأنه خصه بالذكر.

    الفائدة السابعة: إثبات القدر السابق، وإثبات التقدير السنوي.
    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

    تحمَّلتُ وحديَ مـا لا أُطيـقْ من الإغترابِ وهَـمِّ الطريـقْ
    اللهم اني اسالك في هذه الساعة ان كانت جوليان في سرور فزدها في سرورها ومن نعيمك عليها . وان كانت جوليان في عذاب فنجها من عذابك وانت الغني الحميد برحمتك يا ارحم الراحمين

  8. #18
    تاريخ التسجيل
    Jun 2008
    المشاركات
    11,737
    الدين
    الإسلام
    الجنس
    أنثى
    آخر نشاط
    17-05-2024
    على الساعة
    12:48 AM

    افتراضي

    سورة العلق

    بقلم/ د. أحمد بن عبد الرحمن القاضي

    أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

    بسم الله الرحمن الرحيم

    (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5) كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى (7) إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى (8) أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى (9) عَبْدًا إِذَا صَلَّى (10) أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى (11) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى (12) أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (13) أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى (14) كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ (15) نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ (16) فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ (17) سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ (18) كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ (19))

    الآيات الخمس الأول، من هذه السورة، هي أول ما أنزل الله - تعالى - على نبيه، صلى الله عليه وسلم، في قصة بدء الوحي المشهورة، التي رواها البخاري، وغيره، من حديث عائشة - رضي الله عنها - وفيه: (كَانَ يَخْلُو بِغَارِ حِرَاءٍ فَيَتَحَنَّثُ فِيهِ - وَهُوَ التَّعَبُّدُ - اللَّيَالِيَ ذَوَاتِ العَدَدِ، قَبْلَ أَنْ يَنْزِعَ إِلَى أَهْلِهِ، وَيَتَزَوَّدُ لِذَلِكَ، ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى خَدِيجَةَ فَيَتَزَوَّدُ لِمِثْلِهَا، حَتَّى جَاءَهُ الحَقُّ وَهُوَ فِي غَارِ حِرَاءٍ، فَجَاءَهُ المَلَكُ فَقَالَ: اقْرَأْ، قَالَ: " مَا أَنَا بِقَارِئٍ "، قَالَ: " فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الجَهْدَ ثُمَّ أَرْسَلَنِي، فَقَالَ: اقْرَأْ، قُلْتُ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ، فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّانِيَةَ حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الجَهْدَ ثُمَّ أَرْسَلَنِي، فَقَالَ: اقْرَأْ، فَقُلْتُ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ، فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّالِثَةَ ثُمَّ أَرْسَلَنِي، فَقَالَ: { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ . خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ . اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ } "


    من مقاصد هذه السورة:

    - شرف العلم، وما يوصل إليه من القراءة، والكتابة،
    - بيان طبيعة النفس الإنسانية.
    - بيان مآلات الناس

    (اقْرَأْ): هذا فعل أمر؛ الآمر هو الله، تعالى. والمأمور نبيه، صلى الله عليه وسلم.

    (بِاسْمِ): الباء للاستعانة، أي: أقرأ مستعينًا باسم ربك، فهي ليست قراءة مجردة، بل قراءة متلبسة بالاستعانة بالله، تعالى.

    وليس المقصود مجرد القراءة، كما يستشهد كثير من الناس بهذه الآية، حينما يحضون على القراءة، والاطلاع؛ فيقولون: أقرأ! لا ريب أن هذه الآية أصل عظيم في شرف القراءة، لكن القراءة المقصودة، التي هي محل الحمد، والشرف، هي التي باسم ربك، لا القراءة المجردة، فإن من القراءة ما تضر بصاحبها، وتنقله إلى عالم من الشهوات، والشبهات. لكن القراءة المحمودة، هي التي تكون باسم الله، يعني مستعانًا فيها بالله، مرادًا بها وجهه، تعالى.

    (رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) عبر بوصف الربوبية، لأن المقام مناسب لذلك، فهو الرب المالك، المدبر، الذي يربي عبده بنعمه، ولهذا قال: (الَّذِي خَلَقَ) كل شيء. فعرف الربوبية بأخص أوصافها، وهو الخلق.

    وبين نوعًا من أنواع الخلق فقال:

    (خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ) جنس الإنسان. والعلق هو: الدم اليسير، المتجمد، الملتصق بجدار الرحم.

    وذلك أن خلق الإنسان يمر بأطوار، كما في حديث الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ: ( إِنَّ أَحَدَكُمْ يُجْمَعُ خَلْقُهُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، ثُمَّ يَكُونُ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ) الحديث، متفق عليه. فإذا قذف الرجل الماء في رحم المرأة، ومضى عليه أربعون يومًا، اخترقته الأوعية الدموية، المستمدة من جدار الرحم، فيستحيل إلى علقة،كما هو معروف في علم الأجنة.

    وفي هذا لفتة للنقلة الكبيرة، الواسعة، بين هذا العلق الذي يشبه الدود، وبين هذا الكائن، السوي، البصير، السميع، الذي يغدو، ويروح، ويتكلم.

    و(اقْرَأْ) الثانية تأكيد لـ(اقْرَأْ) الأولى. وأصل القرء: الجمع، لاجتماع الكلمات بعضها مع بعض.

    (وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ): الواو ها هنا، واو الحال، يعني: (اقْرَأْ) والحال أن ربك هو الأكرم، فهو خلق، وهو قد تكرم. فهذا وصف زائد على مجرد الخلق.

    (الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ): فتعليمه بالقلم من مظاهر الكرم. والمراد بالقلم، جنس الأقلام التي يكتب بها. ويقال إن أول من خط بالقلم، إدريس - عليه السلام –

    والكتابة بالأقلام لم تزل منذ فجر البشرية، إلى يومنا هذا، لا يُستغنى عنها، وإن تنوعت مادة الأقلام، فكانت من الخشب، كما قال الله - تعالى - (وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ)؛ تؤخذ من الأشجار، تقلَّم، وتبرى، وتغمس في المواد الملونة، ويكتب بها. وإلى عهد ليس بالبعيد، كان الناس يكتبون بالعصفر، وبأنواع الأحبار، ثم تطورت طرائق الكتابة حتى كانت هذه الأقلام الحديثة. ويبقى القلم قلما.

    (عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ): إذًا هذا الكرم، في التعليم، فكأن التعليم مرحلة تالية للخلق، كما قال الله سبحانه و- تعالى - (الرحمن* علم القرءان*خلق الإنسان علمه البيان)، فبين الخلق، والعلم صلة، وترابط. فالرب الأكرم علم الإنسان ما لم يكن يعلمه من قبل، قال الله - تعالى - (وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ) [النحل: 78]. هذه منافذ العلم. فحينما يخرج الإنسان من بطن أمه، ليس عنده علم البتة، لكن عينيه وما تبصران، وأذنيه وما تسمعان، وعقله وما يفقهه، يكوِّن مفردات المعلومات، حتى يبلغ شأوًا عظيمًا، لكنه بعد ذلك يؤول، وينحط إلى الجهل، (وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ) [النحل: 70]

    (كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى):

    (كَلَّا): كلمة ردع، وزجر، والمراد نفي شيء، وإنكاره، وهو إنكارهم للبعث، وطغيانهم. والإنسان، هنا، الكافر. والطغيان هو تجاوز الحد، كما قال الله - تعالى -: (إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ).

    (أَنْ رَآَهُ) أي: لأن رآه ، يعني: أن رأى نفسه.

    ورأى تنصب مفعولين أولهما هنا الضمير (أَنْ رَآَهُ) يعني أن رأى نفسه.

    (اسْتَغْنَى): يعني زهد في عطاء الله، وفضله. وجملة (استغنى) هي المفعول الثاني.

    والمعنى: أن هذا الإنسان الكافر، إذا آنس من نفسه غنى في رزقه، وصحة في بدنه، نسي ربه، ولم يلجأ إليه، ولم يضرع إليه، وخيل إليه أنه مكتف، وغير مفتقر إلى الله، عز وجل، فقال الله:

    (إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى) أي المردُّ. إذا كان يظن الإنسان أنه قد استغنى ببنيه، وذويه، وعشيرته، وماله، وغير ذلك، واستدام له في دنياه، فـ (إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى).

    وهذا المعنى قائم في ضمير كل مؤمن، وبقدر حضوره، تحصل التقوى. لقي الفضيل بن عياض - رحمه الله – رجلًا، فقال له: كم أتت عليك؟ قال: ستون سنة. قال: فأنت منذ ستين سنة، تسير إلى الله، توشك أن تبلغ! فاسترجع الرجل؛ قال: (إنا لله وإنا إليه راجعون). فقال له الفضيل: أتدري ما تقول؟! من علم أنه لله راجع، علم أنه موقوف، ومن علم أنه موقوف، علم أنه مسؤول، ومن علم أنه مسئول، أعد للسؤال جوابًا. فقال الرجل: فما الحيلة؟ قال: يسيرة؛ تحسن فيما بقي، يغفر لك ما قد مضى، فإنك إن أسأت فيما بقي، أخذت بما مضى وما بقى.

    (أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى) استفهام يراد به الإنكار. والرؤية هنا: رؤية علمية، بمعني أعلمت، أدريت. والمخاطب مبهم، لا يختص بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، وكأنما الخطاب لكل من يسمع. والناهي: أبو جهل، والمنهي: نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم. وذلك أن أبا جهل - لعنه الله - انتهر نبينا - صلى الله عليه وسلم -، وهدده، وقال: لأملأن عليك هذا الوادي خيلًا جردًا، وشبابًا مردًا. قد علمت أني من أكثرهم ناديًا. يفتخر، ويستطيل على النبي - صلى الله عليه وسلم – . وفي بعض الروايات: أنه تهدده، وقال: لئن صليت في البيت، لأطأن على عنقك.

    (عَبْدًا) المراد بالعبد هنا محمد - صلى الله عليه وسلم –

    (إِذَا صَلَّى) تشنيعاً لمقالته، وتعجباً من نهيه، إشارة إلى تهديده الوقح، بأن يطأ عنق النبي - صلى الله عليه وسلم –

    (أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى) الخطاب للسامع لهذه الجمل.

    (إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى) وهذا هو حال النبي - صلى الله عليه وسلم -

    (أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى) كلمة (أَوْ) هنا للتقسيم، والتنويع، وليس المقصود بها: هذا، أو ذاك، وفي كلا الحالين، هو حال النبي - صلى الله عليه وسلم، أنه كان على الهدى، وأنه كان يأمر بالتقوى. فكأنما يقول: كيف يستقيم، ويليق، ويسوغ، أن تتهدده، وتتوعده بهذا التوعد الخبيث، وهذا حاله؟!

    (أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى) المراد أبو جهل، وأضرابه، فقد كذب، وفوق التكذيب تولى، وأعرض. وبهذا تبدو المقابلة المستنكرة؛ رجل على الهدى، ويأمر بالتقوى، يتهدده رجل كذَّب، وتولى.

    (أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى) غاب عنه، وخفي عليه أن الله - تعالى – يرى. والمراد بالرؤية هنا: الرؤية الحقيقية؛ فإن الله سبحانه و- تعالى – يسمع، ويرى، يبصر، بعينيه، - سبحانه و تعالى- وله عينان حقيقيتان، كريمتان، كما دلت على ذلك النصوص الصحيحة؛ من الكتاب، والسنة، لا تشبهان أعين المخلوقين، يبصر بهما. قال الله - عز وجل - (إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى)، فهذا المسكين التائه، أبو جهل (أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى)، أكان الله يدعه يفعل فعلته في حق النبي - صلى الله عليه وسلم؟!

    (كَلَّا) كلمة ردع، وزجر، فليس الأمر، كما يتوهم أبو جهل.

    (لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ) اللام، لام القسم، يعني: لم ينتهِ عن دعواه هذه.

    (لَنَسْفَعَنْ بِالنَّاصِيَةِ) ومعنى السفع بالناصية أي: جذبها بشدة، والناصية هي: مقدم الرأس. والمراد جميعه، لكنه عبر بالبعض عن الكل؛ لأن أشرف، وأعلى ما في الإنسان، ناصيته، التي يستقبل بها، وهي مقدم رأسه. وهذا تهديد بليغ من الله - عز وجل – وقد جاء أنه لو هم بذلك، لأخذته الزبانية، والناس ينظرون.

    (نَاصِيَةٍ) هذه نكرة، بدل من معرفة؛ لأن (نَاصِيَةٍ) الأولى، معرَّفة، وهنا منكَّرة.

    (كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ) وصفها بالكذب، والخطيئة، وبئس الوصفان؛ قولاً، وعملاً.

    (فَلْيَدْعُ) لينفذ تهديده، إن كان صادقًا، أنه سيملأ عليه الوادي خيلا جردًا، وشبابًا مردًا.

    (نَادِيَهُ) يعني ذلك الجمع الذي يفتخر بكثرته، ويقول للنبي - صلى الله عليه وسلم -: قد علمت أني من أكثر أهل هذا الحي ناديًا، يريد أن الناس مجتمعون عليه. وهذا من التفاخر؛ فقد كان من بني مخزوم، وهم من أشرف بطون قريش، وهذا يدل على مكانته، عند قومه، لكن (فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ) ليدعو كما زعم

    (سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ) هم الملائكة الغلاظ، الشداد، فلو وقع ما ادعاه، لسلط الله عليه الزبانية، لكنه لم يجرأ.

    (كلا لَا تُطِعْهُ) لا تطعه إلى ما يساومك عليه، من التخلي عن دعوتك، أو عدم ذم آلهته المزعومة، بل عوضًا عن ذلك:

    (وَاسْجُدْ) عبر عن الصلاة بالسجود؛ لأن السجود أشرف ما فيها؛ فإن السجود عنوان العبودية لله - تعالى -، حيث يضع العبد أشرف ما فيه، وهي جبهته على الأرض، يعفرها بالتراب، فهذه عبودية خالصة لله - تعالى –

    (وَاقْتَرِبْ) يعني: تقرب إلى لله - عز وجل – فقرن بين السجود، والقرب. ويشهد لهذا المعنى قول النبي - صلى الله عليه وسلم - (أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ، وَهُوَ سَاجِدٌ، فَأَكْثِرُوا الدُّعَاءَ) رواه مسلم. فمن أراد أن يدعو الله، ويتملقه، ويلح عليه، ويسأله، فليدع الله ساجدًا، قال نبينا - صلى الله عليه وسلم - (أَلاَ، وَإِنِّى نُهِيتُ أَنْ أَقْرَأَ الْقُرْآنَ، رَاكِعًا، أَوْ سَاجِدًا، فَأَمَّا الرُّكُوعُ، فَعَظِّمُوا فِيهِ الرَّبَّ، عَزَّ وَجَلَّ، وَأَمَّا السُّجُودُ فَاجْتَهِدُوا فِى الدُّعَاءِ، فَقَمِنٌ أَنْ يُسْتَجَابَ لَكُمْ) رواه مسلم. أي: حري أن يستجاب لكم.


    الفوائد المستنبطة

    الفائدة الأولى: فضل القراءة النافعة.

    الفائدة الثانية: الاستعانة بالله في جميع الأمور، ولو دقت.

    الفائدة الثالثة: فضل الاسم الشريف،اسم الله؛ فإنه ما كان في شيء إلا حلت فيه البركة.

    الفائدة الرابعة: التنويه بالربوبية، المتضمنة للخلق.

    الفائدة الخامسة: التذكير بأصل خلق الإنسان.

    الفائدة السادسة: إثبات اسم الله الأكرم، وما تضمنه من وصفه بالكرم.

    الفائدة السابعة: فضل الكتابة (الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ).

    الفائدة الثامنة: شرف العلم وأنه من الله - تعالى –

    الفائدة التاسعة: بيان طبيعة النفس الإنسانية.

    الفائدة العاشرة: وجوب الافتقار إلى الله؛ لأن الله - تعالى - أنكر استغناء العبد عن ربه.

    الفائدة الحادية عشرة: إثبات المعاد.

    الفائدة الثانية عشرة: شدة ما كان يلقاه النبي - صلى الله عليه وسلم - من أذى قومه.

    الثالثة عشرة: أنه - صلى الله عليه وسلم - بعث بالهدى، والتقوى.

    الفائدة الرابعة عشرة: غلظ كفر أبي جهل.

    الفائدة الخامسة عشرة: إثبات صفة الرؤية لله - تعالى -.

    الفائدة السادسة عشرة: الخوف من انتقام الله - تعالى -

    الفائدة السابعة عشرة: ضعف بني آدم، وأنهم لا يقومون لغضب الله.

    الثامنة عشرة: فضل السجود.

    التاسعة عشرة: أن أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد؛ لقرنه بينهما.

    العشرون: التحذير من طاعة الكفار.
    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

    تحمَّلتُ وحديَ مـا لا أُطيـقْ من الإغترابِ وهَـمِّ الطريـقْ
    اللهم اني اسالك في هذه الساعة ان كانت جوليان في سرور فزدها في سرورها ومن نعيمك عليها . وان كانت جوليان في عذاب فنجها من عذابك وانت الغني الحميد برحمتك يا ارحم الراحمين

  9. #19
    تاريخ التسجيل
    Jun 2008
    المشاركات
    11,737
    الدين
    الإسلام
    الجنس
    أنثى
    آخر نشاط
    17-05-2024
    على الساعة
    12:48 AM

    افتراضي

    سورة التين

    د. أحمد بن عبد الرحمن القاضي

    (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم)

    (بسم الله الرحمن الرحيم)

    (وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (1) وَطُورِ سِينِينَ (2) وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4) ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ (5) إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (6) فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ (7) أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ (8))


    سورة (التين) سورة مكية، آياتها قليلة، ولكنها تتضمن معاني عظيمة.


    ولهذه السورة مقاصد منها

    أولا: بيان ترابط الشرائع السماوية.

    الثانية: بيان الصلة بين الفطرة، والإيمان.

    الثالثة: إثبات البعث.


    (والتِّينِ وَالزَّيْتُونِ) اختلف المفسرون في المراد بهما:

    - فقيل: النباتان المعروفان، التين الذي يؤكل، والزيتون الذي يعصر.
    - وقيل: أماكن نباتهما، فالمراد (بالتين): أرض الشام، وبـ (الزيتون) أرض فلسطين. أو تحديداً: المراد (بالتين): مسجد دمشق، و(بالزيتون): مسجد بيت المقدس. فعبر عن منبتهما بهما,
    - وقيل: إن المراد بـ(التين): مسجد نوح، و(بالزيتون): مسجد بيت المقدس.
    - وقيل: إنهما جبلان بأرض الشام.
    ومؤدى هذه الأقوال إلى أن الله - سبحانه وتعالى - أقسم بهاتين الشجرتين المعروفتين، وفيه إشارة إلى مواضع نباتهما.

    ولله - تعالى - أن يقسم بما شاء، لكنه أقسم بهما – سبحانه - لشرف مواضع نباتهما؛ فإن أرض الشام، وبيت المقدس، أرض النبوات السابقة.


    (وَطُورِ سِينِينَ) عطف على ما تقدم. واختلفت أقوال المفسرين في المراد به:

    - فقيل: الجبل الذي كلم الله - تعالى - عليه موسى، عليه السلام، وهو جبل في سيناء. وعلى هذا فكلمة (سينين) لغة من سيناء. وقد قال تعالى في سورة (المؤمنون): (وشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ).
    - وقيل: الجبل الذي فيه نبات. فإذا كان الجبل فيه شجر، قيل عنه: طور.
    - وقيل: أن (سِينِينَ) صفة للطور، وهي بمعنى: حسن، أو مبارك. واعتمد قائل
    هذا القول على ما رواه البخاري من حَديث أُمُّ خَالِدٍ بِنْتُ خَالِدٍ، قَالَتْ: أُتِيَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بِثِيَابٍ فِيهَا خَمِيصَةٌ سَوْدَاءُ، قَالَ: (مَنْ تَرَوْنَ نَكْسُوهَا هَذِهِ الْخَمِيصَةَ؟) فَأُسْكِتَ الْقَوْمُ. قَالَ: (ائْتُونِي بِأُمِّ خَالِدٍ) فَأُتِيَ بِي النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فَأَلْبَسَهَا بِيَدِهِ، وَقَالَ: (أَبْلِي، وَأَخْلِقِي) مَرَّتَيْنِ. فَجَعَلَ يَنْظُرُ إِلَى عَلَمِ الْخَمِيصَةِ، وَيُشِيرُ بِيَدِهِ إِلَيَّ، وَيَقُولُ: (يَا أُمَّ خَالِدٍ! هَذَا سَنَا) وَالسَّنَا بِلِسَانِ الْحَبَشِيَّةِ الْحَسَنُ.

    وهذا القول الأخير، يستدرك عليه أن اللفظ الذي ذكره النبي - صلى الله عليه وسلم - مخالف للوارد في الآية؛ فإن روايات البخاري فيها: سنا بالمد، وسنه بالهاء، وليس فيه سينين. ثم إنه لو كان المراد به صفة الطور، لنُوِّن (الطور) فقال: وطورًا سنين، وهذا لم يقع.

    فأرجح الأقوال: أن المراد به الموضع الذي كلم الله - تعالى - عنده (موسى)، عليه السلام، في صحراء سيناء، حينما خرج بأهله، وأبصر ناراً، وقصدها، ثم جرى ما ذكر الله - تعالى - من القصة المعروفة.


    (وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ) أشار إليه بلفظ (هذا) لقربه.

    (الْبَلَدِ الْأَمِينِ) مكة؛ وذلك لأن كل شيء يأمن فيه، فقد حرمه الله - تعالى - حينما خلق السموات والأرض، وجدد إبراهيم - عليه السلام – حرمته، فلم تزل العرب منذ زمن إبراهيم يعظمون البيت، حتى إن الرجل ليلقى قاتل أبيه في الحرم، فلا يتعرض له، وحتى إن الطير، والوحش يأمن فيه، فهو أمين. ثم جاء محمد - صلى الله عليه وسلم - ووثق هذا الأمان، فقال: (إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ مَكَّةَ، فَلَمْ تَحِلَّ لأَحَدٍ قَبْلِي، وَلاَ تَحِلُّ لأَحَدٍ بَعْدِي. وَإِنَّمَا أُحِلَّتْ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ؛ لاَ يُخْتَلَى خَلاَهَا، وَلاَ يُعْضَدُ شَجَرُهَا، وَلاَ يُنَفَّرُ صَيْدُهَا، وَلاَ تُلْتَقَطُ لُقَطَتُهَا، إِلاَّ لِمُعَرِّفٍ) وَقَالَ الْعَبَّاسُ: يَا رَسُولَ اللهِ! إِلاَّ الإِذْخِرَ، لِصَاغَتِنَا، وَقُبُورِنَا. فَقَالَ: (إِلاَّ الإِذْخِرَ.الإِذْخِرَ). [متفق عليه].


    ولو تأملنا في هذه الأقسام الأربعة، لوجدنا بينها ترابطًا عجيبًا؛ إذ أنها تشير إلى مواطن الرسالات السماوية الكبرى:

    - فالتين والزيتون: تنبت في أرض الشام، وهي موطن أكثر أنبياء بني إسرائيل، ومنهم عيسى ابن مريم - عليه السلام -، إذ كان عيسى - عليه السلام - آخر أنبياء بني إسرائيل، وتبعه فئام كثير من البشر.
    - وأما طور سينين: فهو الموضع الذي أرسل منه موسى - عليه السلام – .
    - وأما البلد الأمين: فمكة، موطن أشرف الرسالات؛ رسالة محمد - صلى الله عليه وسلم – .

    فهذه المواضع الثلاثة مواضع شريفة، معظمة، وتعظيمها ليس في القرآن وحده، بل فيما يجده أهل الكتاب في كتبهم، قال ابن كثير- رحمه الله -: (في آخر السفر الخامس، وهو آخر التوراة التي بأيديهم: "جاء الله من طور سيناء، وأشرق من ساعير، واستعلن من جبال فاران: وظهر من ربوات قدسه، عن يمينه نور، وعن شماله نار، عليه تجتمع الشعوب". أي جاء أمر الله، وشرعه من طور سيناء - وهو الجبل الذي كلم الله موسى عليه السلام عنده - وأشرق من ساعير، وهي جبال بيت المقدس - المحلة التي كان بها عيسى بن مريم عليه السلام – واستعلن، أي ظهر، وعلا أمره، من جبال فاران، وهي جبال الحجاز، بلا خلاف. ولم يكن ذلك إلا على لسان محمد صلى الله عليه وسلم. فذكر تعالى هذه الأماكن الثلاثة، على الترتيب الوقوعي، ذكر محلة موسى، ثم عيسى، ثم بلد محمد - صلى الله عليه وسلم - ولما أقسم تعالى بهذه الأماكن الثلاثة ذكر الفاضل أولا، ثم الأفضل منه، ثم الأفضل منه، على قاعدة القسم، فقال تعالى: (والتين والزيتون)، والمراد بها محلة بيت المقدس، حيث كان عيسى عليه السلام (وطور سينين)، وهو الجبل الذي كلم الله عليه موسى. (وهذا البلد الأمين) وهو البلد الذي ابتعث منه محمدًا صلى الله عليه وسلم. قاله غير واحد من المفسرين في تفسير هذه الآيات الكريمات) [البداية والنهاية - (6 / 199)]


    ففي هذا النص إشارة إلى الترابط بين الملل، والشرائع السماوية، الكبرى، وهي: دين موسى- عليه السلام -، ودين عيسى - عليه السلام -، ودين محمد - صلى الله عليهم جميعا وسلم - ودينهم جميعًا هو الإسلام.

    ولهذا لا نقول: اليهودية، والنصرانية، أديان سماوية - كما يقول بعض الناس - فإن موسى - عليه السلام - لم يبعث باليهودية، وعيسى - عليه السلام - لم يبعث بالنصرانية، وإنما بعثوا جميعًا بالإسلام، قال الله - عز وجل -:

    (إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا) فدين الأنبياء جميعًا هو الإسلام، ولذلك قال الحواريون: (وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) [آل عمران: 52]، وفي موضع: (وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ) [المائدة:111]، وكذا جاء موسى - عليه السلام -، ومحمد وجميع أنبياء الله، كلهم بعثوا بالإسلام.

    فدين الله - تعالى – واحد، وهو الإسلام، وإنما تتنوع الشرائع، (الأَنْبِيَاءُ إِخْوَةٌ مِنْ عَلاَّتٍ وَأُمَّهَاتُهُمْ شَتَّى وَدِينُهُمْ وَاحِدٌ) [رواه مسلم].


    فاليهودية: هي ما آل إليه دين موسى، عليه السلام، بعد تحريف الأحبار، والحاخامات.

    والنصرانية: هي ما آل إليه دين عيسى، عليه السلام، بعد ما أحدثه الرهبان، والقسس، والأساقفة.


    فلم يكن أحدٌ من أنبياء الله، يهوديًا ولا نصرانيًا، كما قال الله عن أبيهم إبراهيم: (مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا)، وقال: (وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ)، فلا يمكن أن يكون عيسى، وموسى -عليهما السلام - رغبا عن ملة إبراهيم، التي هي الإسلام. حاشا، وكلا!

    وقد أنكر الله - تعالى - على من دعا إلى يهودية، أو نصرانية، فقال - سبحانه -: (وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ).


    فدين الله - تعالى – واحد، وهو الإسلام، ولكنه الإسلام بالمعنى العام، الذي يعني: الاستسلام لله بالتوحيد، والانقياد له بالطاعة، والبراءة من الشرك وأهله.

    والإسلام، بالمعنى الخاص: هو ما بعث الله به محمد - صلى الله عليه وسلم - من العقائد الصحيحة، والشرائع العادلة، والأخلاق القويمة، والآداب الرفيعة.


    ثم إن كل شريعة أنزلت على كل نبي، هي الإسلام في ذلك الزمان، فإذا جاء ما ينسخها، صار الإسلام هو الدين الناسخ. حتى في شريعة محمد - صلى الله عليه وسلم - يكون الشيء مشروعا في أول الأمر، ثم ينسخ، فقد كان دين الإسلام في أول الأمر هو التوجه في الصلاة إلى بيت المقدس، ثم نسخ بعد ذلك، فصار التوجه في الصلاة إلى الكعبة المشرفة. فالله - تعالى - يمحو ما يشاء ويثبت. قال تعالى: (مَا نَنْسَخْ مِنْ آَيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا)، لكن الذي لا يتغير أبدًا، هو الدين الذي بمعنى أصول الاعتقاد، وأمهات العبادات، والأخلاق. وأما تفاصيل الشرائع، فإنها تتنوع.


    فحينما يسمع المؤمن القسم بهذه المذكورات، يذهب وهله إلى مواطنها، وإلى من كان في تلك المواطن من أنبياء الله، فيعلم أن التين والزيتون إنما تنبت في بلاد الشام، التي عاش فيها أنبياء بني إسرائيل، وتُوجوا بعيسى- عليه السلام-،

    وحينما يسمع ذكر (وطُورِ سِينِينَ)، يذهب وهله إلى موسى- عليه السلام– ،

    وحينما يسمع (وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ) مكة، فيتبادر ذهنه إلى محمد - صلى الله عليه وسلم -، فيبصر هذه الملل، كالحلقات المتصلة، في سلسلة واحدة، يشد بعضها بعضًا، حتى ختمت بالرسالة المحمدية الخالدة، فهيمنت على ما سبقها، وصارت حاكمة، وقاضية، وناسخة، لما سواها.


    ثم قال الله - عز وجل - مجيبًا على هذه الأقسام: (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ . ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ)

    (لَقَدْ خَلَقْنَا) اللام في (لقد) لام القسم، و(قد) للتحقيق.

    (الْإِنْسَانَ) المراد به جنس الإنسان.


    (أْحسَنِ تَقْوِيمٍ) قيل فيها معاني متقاربة:

    - معتدل الخلقة، حسن الصورة.
    - وقيل: - وهو يرجع إلى المعنى الأول - أنه ما من مخلوق إلا وخلقه الله مكبًا على وجهه، إلا ابن آدم، فسائر الحيوانات، والطيور، تجدها مكبة على وجوهها، أما الإنسان فإنه معتدل الخلقة، منتصبًا على قدميه. فيرجع هذا إلى كمال خلقته، واستوائها، ويدخل في هذا المعنى، سلامة الفطرة، وأنه خلق سويًا، على الفطرة الأصلية؛ الموافقة لدين الله، قال تعالى: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ) [الروم : 30]، فالفطرة هي خلق الله، التي يسعى الشيطان لإغراء الناس بتغييرها: (وَلآَمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ).
    فالفطرة إذًا خلق الله الأصلي لابن آدم، فقد خلقه في أحسن تقويم، في أحسن صورة ظاهرة، معتدل البنية، وفي أحسن صورة باطنة، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - (مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلاَّ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ وَيُنَصِّرَانِهِ وَيُمَجِّسَانِهِ كَمَا تُنْتَجُ الْبَهِيمَةُ بَهِيمَةً جَمْعَاءَ هَلْ تُحِسُّونَ فِيهَا مِنْ جَدْعَاءَ) [متفق عليه].


    وهذا المعنى يدل على مبدأ من مبادئ فقه النفس، وهو أن الله سبحانه و- تعالى - خلق الإنسان على الفطرة الأصلية السوية، كما في الحديث القدسي: (خَلَقْتُ عِبَادِى حُنَفَاءَ كُلَّهُمْ، وَإِنَّهُمْ أَتَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ، فَاجْتَالَتْهُمْ عَنْ دِينِهِمْ) [رواه مسلم].

    فالإنسان حينما يولد، يولد نقيًا، غير ملوث، لم يتعرض له الشيطان بعد. ثم يكثف الشيطان حملاته الشهوانية، وشبهاته العقلية، فيخرجه عن الجادة، فيقع نقص، وثلم لكل أحد، بمقدار استجابته للشيطان. والإيمان يصون الفطرة، ويحفظها، وينميها. وأما فاقد الإيمان، فإنه لا يزال يتردى في مهاوي الردى، حتى يطمس فطرته. ولذلك سمي الكفر كفرًا، لأن الكفر في اللغة بمعنى التغطية، فهو يغطي الفطرة، ويحجبها عن الاتصال بخالقها، فيفقد الإنسان إنسانيته، وإن ادعى الإنسانية. فلا يغرنكم ما تسمعون من دعاوى الإنسانية، من قبل أناس محجوبين عن الله، ودينه. هؤلاء، في الواقع، أبعد الناس عن الإنسانية. فلا يمكن أن تحصل الإنسانية الحقة، إلا بالاتصال بخالق الإنسان، والإيمان به. ليست الإنسانية مجرد ذرف دموع، أو رقة عاطفية، أعظم الإنسانية أن يحافظ الإنسان على خلقه القويم، فيكون عبدًا لله حقاً.وإذا تحقق ذلك صلح كل شيء.


    - وقيل: أيضا خلقناه شابًا، جلدًا، قويًا، وذلك حينما يكتمل شبابه، ما بين الثالثة والثلاثين، إلى الأربعين؛ لقوله تعالى: (حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً) فهذا السن، ذروته سن الأربعين، ولكنه يبدأ في اكتمال القوة العقلية، والبدنية، من الثالثة والثلاثين، فيكون المراد حال الشباب، والقوة، والجلد.

    وينبني على هذا الخلاف، معنى بقية الآية، وهي قوله تعالى: (ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ)، فقد ذكر المفسرون في معناها، وجهين:

    - الوجه الأول: أي: أرذل العمر، وهو سن الهرم، كما قال تعالى: (وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ)؛ فبعد أن كان منتصب القامة، احدودب ظهره. وبعد أن كان فتيًا، جلدًا، صار ضعيفًا، لا يقوى.
    ووجهوا قوله: (إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) بأن المؤمن الذي يعمل الصالحات، إذا رد إلى أرذل العمر، فإنه يكتب له ما كان يعمله من العمل، صحيحًا مقيمًا، كما دل على ذلك قول النبي - صلى الله عليه وسلم - (إِذَا مَرِضَ الْعَبْدُ، أَوْ سَافَرَ كُتِبَ لَهُ مِثْلُ مَا كَانَ يَعْمَلُ مُقِيمًا صَحِيحًا) رواه البخاري.

    وممن ذهب إلى هذا القول ابن جرير الطبري - رحمه الله -. لكن يضعفه أنه لا ينطبق على كل أحد، بل إن الأعم الأغلب، أن يموت الإنسان قبل أن يبلغ الهرم. فكيف تحمل الآية على الأقل ويترك الأكثر؟!

    وقيل في توجيهها، أيضاً، معنى قريب من ذلك، وهو أن الله - تعالى - لا يؤاخذه بما يصدر منه في حال الهرم، فإن الإنسان إذا هرم، ربما صار عنده نوع جزع، وضجر، وغير ذلك، فلا يؤاخذ عليه.

    - الوجه الثاني: أن أسفل سافلين هي النار، وأن الإنسان لما تنكر لربه، وكفر به، حطه الله - تعالى - في أقصى دركات النار.

    فإن قال قائل لكن هذا لا ينطبق على جميع الناس! قلنا: هذا صحيح، ولهذا استثنى الله - تعالى - فقال (إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا)، ولكن لما كان أكثر الناس على خلاف الاستقامة، جعل هذا أصلا، وجعل الأقل هو الاستثناء. ويدل على ذلك حديث بعث النار: يَقُولُ اللَّهُ - تَعَالَى - يَا آَدَمُ! فَيَقُولُ: لَبَّيْكَ، وَسَعْدَيْكَ. وَالْخَيْرُ فِي يَدَيْكَ. فَيَقُولُ: أَخْرِجْ بَعْثَ النَّارِ. قَالَ: وَمَا بَعْثُ النَّارِ؟ قَالَ: مِنْ كُلِّ أَلْفٍ، تِسْعَمِئَةٍ، وَتِسْعَةً وَتِسْعِينَ. فَعِنْدَهُ يَشِيبُ الصَّغِيرُ، وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا، وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى، وَمَا هُمْ بِسُكَارَى، وَلَكِنَّ عَذَابَ اللهِ شَدِيدٌ. قَالُوا : يَا رَسُولَ اللهِ! وَأَيُّنَا ذَلِكَ الْوَاحِدُ؟ قَالَ: أَبْشِرُوا! فَإِنَّ مِنْكُمْ رَجُلٌ، وَمِنْ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ أَلْفٌ. ثُمَّ قَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، إِنِّي أَرْجُو أَنْ تَكُونُوا رُبُعَ أَهْلِ الْجَنَّةِ. فَكَبَّرْنَا، فَقَالَ: أَرْجُو أَنْ تَكُونُوا ثُلُثَ أَهْلِ الْجَنَّةِ. فَكَبَّرْنَا، فَقَالَ: أَرْجُو أَنْ تَكُونُوا نِصْفَ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَكَبَّرْنَا، فَقَالَ: مَا أَنْتُمْ فِي النَّاسِ إِلاَّ كَالشَّعَرَةِ السَّوْدَاءِ فِي جِلْدِ ثَوْرٍ أَبْيَضَ، أَوْ كَشَعَرَةٍ بَيْضَاءَ فِي جِلْدِ ثَوْرٍ أَسْوَدَ) [متفق عليه]. فهذا يدل على أن أكثر بني آدم على الضلال، والانحراف؛ (وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ).


    وحين نتأمل هذين الوجهين في التفسير، يتبين أن تفسير من فسر (أسفل سافلين) أنها النار، أوجه وأرجح، وإلى هذا ذهب ابن القيم - رحمه الله - ونصره نصرًا مؤزرًا، في كتابه [التبيان في أقسام القرآن]، وعد نحو عشرة أوجه في الترجيح، وأن مقتضى القسمة: فكما وصف الله - تعالى – جزاء المؤمنين بأنه: (أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ) فينبغي أن يكون جزاء مخالفيهم - وهم الكافرون – (أسفل سافلين) لكي تتقابل الصورتان.

    ويؤيد هذا - أيضا التنظير- على قول الله - تعالى - في أخر سورة (الانشقاق) (بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ.وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ.فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ.إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ) [الانشقاق : 22 - 25].


    وخلاصة ما تقدم: أن الله -سبحانه وتعالى- أقسم بهذه الأقسام الأربعة، مبينا أنه: خلق ابن آدم خلقة سوية، معتدلة من الناحية الظاهرية، وخلقة سوية، معتدلة من الناحية الباطنية، لكونها على الفطرة الأصلية، ثم أن الكافر أفسد ذلك بكفره، فكان جزاؤه أن رد في (أسفل سافلين)، فهوى في الدرك الأسفل من النار، وأما المؤمن قد عصمه الله - تعالى – بإيمانه، وعمله الصالحات، فكافئه بالأجر غير الممنون.


    (إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) : هذا هو الاستثناء. وقد تضمنت الجملة

    مسألة عقدية كبيرة: هل العمل داخل في مسمى الإيمان، وحده، وتعريفه، أم لا؟

    - فأهل السنة يرون أن مثل هذه الآيات التي فيها اقتران الإيمان بالعمل الصالح دليل يؤيد ما ذهبوا إليه من أنه لا إيمان بلا عمل، حيث إن الله - تعالى – غالباً، لا يذكر الإيمان إلا ويقرنه بالعمل.
    - ولكن مخالفيهم من المرجئة، استدلوا بها على عكس ذلك! فقالوا: العطف يقتضي المغايرة، فلو كان العمل داخلاً في مسمى الإيمان، ما عطف عليه؛ فإذا قلت: جاء زيد وعمرو، فهذا يقتضي أن عمرواً غير زيد.
    ولكن يجاب عن ذلك بأحد جوابين :
    الجواب الأول: أن يقال: هذا من عطف الخاص على العام. وهذا موجود في القرآن، وفي اللغة. مثاله من القرآن: (إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا) [النساء : 163] مع دخول المذكورين في لفظ النبيين. ولو قلت: جاء الطلبة، ومحمد، ومحمد من الطلبة، عطفت الخاص على العام. فهذا سائغ لغة. وللعطف في اللغة أنواع متعددة، لا نستطرد بذكرها.

    الجواب الثاني: أن يقال: إن من الألفاظ ما يكون له دلالة عند الإنفراد، ودلالة عند الاقتران. فإذا انفردت عمت، وإذا اقترنت خصت. مثل: الفقير والمسكين، ومثل: البر والتقوى، ومثل: الإثم والعدوان. فلو أعطاك إنسان مبلغاً من المال، وقال: أعطه فقيرًا، صح بذله لكل ذي فاقة. ولو أعطاك درهمين، وقال: أعط هذا فقيرًا، وأعط هذا مسكينًا، فينبغي أن يكون للمسكين معنى غير معنى الفقير، كما ميز الله بينهما، فقال: (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ) .فيكون الفقير: هو الذي كسرت الحاجة فقاره يعني: أنه أشد فاقة. والمسكين: من أسكنته الحاجة، وكان دون الأول. وفرق الفقهاء بينهما في باب الزكاة، فقالوا: الفقراء: من لا يجدون شيئاً، أو يجدون بعض الكفاية. والمساكين: يجدون أكثرها، أو نصفها. ومثل: التوبة، والاستغفار، عند الانفراد يجتمعان في معنى الندم، والإقلاع، والعزم على عدم العود. وعند الاقتران ينبغي أن يكون للتوبة معنى، غير معنى الاستغفار، كما قال تعالى على لسان غير واحد من رسله: (وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ). فيكون الاستغفار عما مضى، والتوبة لما يستقبل.


    فكذلك الإيمان والعمل الصالح؛ إذا جاء الإيمان منفردًا، شمل القول، والعمل معًا، وإذا جاء الإيمان مقترنًا بالإسلام، أو بالعمل الصالح، فإنه يختص بالعقائد الباطنة. كما في حديث جبريل المشهور.

    وعلى هذا فليس للمرجئة مستمسك بهذه الآية، وأمثالها، بل أهل السنة والجماعة أسعد بها، فإن الله تعالى يقرن كثيرًا بين الإيمان، والعمل الصالح، لتلازمهما؛ فلا إيمان بلا عمل.


    (غَيْرُ مَمْنُونٍ) أي: غير مقطوع. وتأتي بمعنى: محسوب أي: أنه لا يعد عليه، وتأتي بمعنى: منقوص، بل يعطى عطاءً كثيرًا، وافياً، لا منة فيه، ولا حسبان، ولا انقطاع.


    (فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ) : اختلف في معنى الدين هاهنا:

    - قيل: هو الدينونة، التي بمعنى الجزاء، والحساب، والعرب تقول: دنته، فدان.فيكون الاستفهام: للاستنكار، يعني: كيف يكذب الإنسان بالدينونة؟ والله - تعالى – قد بين أنه قد خلقه في أحسن تقويم، وأن جزاء الكافر أن يرد في أسفل سافلين، وأن جزاء المؤمن أجر غير ممنون، فكيف يكذب الإنسان بعد ذلك بالدينونة ؟ ويكون الخطاب في قوله: (فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ) موجه إلى المكذب، الذي هو الكافر، المنكر للبعث.
    - وقيل: (الدين) بمعنى الحكم والقضاء. فلا يسوغ إذا كان الإنسان يعلم بأن الكافر يرد إلى: (أسفل سافلين)، وأن المؤمن يؤتى أجرًا غير ممنون، أن يعصي الله - عز وجل -، بل يجب عليه أن يمتثل أمره، وأن يجتنب نهيه، وأن يصبر على قضائه؛ لأن الله - سبحانه وتعالى - هو المثيب، وهو المعاقب، فإذا كان هو المثيب وهو المعاقب، فلابد أنه يأمر وينهى، ويقضي ويحكم. ولهذا قال:

    (أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ): والجواب: بلى! فيكون الاستفهام: تقريرياً. وقد وصف الله نفسه (أَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ)، ومعنى ذلك أنه أثبت وصف الحكم لغيره، لكنه –سبحانه- أحكمهم. وهذا يدل على إمكان الاشتراك في أصل الصفة، أي المعنى المشترك الكلي، المطلق، الموجود في الأذهان، لا خارج الذهن. ولكن الله - تعالى - له المثل الأعلى، فلا يقع حينئذ اشتراك في الأعيان؛ لأنه إذا انفرد - سبحانه بالمثل الأعلى للصفة، فإنه لا يمكن أن يشابهه، ويماثله أحد في ذلك، فيزول المحظور الذي تدعيه سائر فرق المعطلة.


    ولهذا لَمَّا وَفَدَ أبو شريح، - رضي الله عنه - إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مَعَ قَوْمِهِ سَمِعَهُمْ يَكْنُونَهُ بِأَبِى الْحَكَمِ فَدَعَاهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم – فَقَالَ: « إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَكَمُ وَإِلَيْهِ الْحُكْمُ فَلِمَ تُكْنَى أَبَا الْحَكَمِ ».

    فَقَالَ: إِنَّ قَوْمِى إِذَا اخْتَلَفُوا فِى شَىْءٍ، أَتَوْنِى فَحَكَمْتُ بَيْنَهُمْ، فَرَضِىَ كِلاَ الْفَرِيقَيْنِ.

    فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « مَا أَحْسَنَ هَذَا فَمَا لَكَ مِنَ الْوَلَدِ ».

    قَالَ: لِى شُرَيْحٌ، وَمُسْلِمٌ، وَعَبْدُ اللَّهِ.

    قَالَ: « فَمَنْ أَكْبَرُهُمْ ».

    قُلْتُ: شُرَيْحٌ

    قَالَ: « فَأَنْتَ أَبُو شُرَيْحٍ ». [رواه أبو داود، والنسائي، وصححه الألباني].

    وذلك لما يوهمه لقب (أبو الحكم) من بلوغ الغاية في الحكم، فإن أبا الشيء، كأنه المستبد به، المستوعب له، والمستولي عليه، وهذا لا يكون إلا لله - عز وجل - فإن الله - تعالى - له المثل الأعلى.


    وقد ورد أنه يقال في آخر هذه السورة: بلى، وأنا على ذلك من الشاهدين؛ جواباً للسؤال. ولكن الرواية جاءت من طريق قتادة، مرسلة، وجاءت عن قتادة منسوبة إليه، يعني: بسند مقطوع. فالإسناد الأول، يسمى منقطع، والثاني مقطوع. فهو لم يثبت. وممن ضعفه الألباني - رحمه الله - وكذلك الحال عند قول الله - تعالى - (أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى)، لم يصح في جوابه رواية مرفوعة.

    ولا بأس أن يأتي الإنسان بجواب مناسب لسؤالٍ ملقى، لكنه لا يفعل ذلك على سبيل الالتزام، لأن هذا يحتاج إلى توقيف.


    الفوائد الستنبطة

    § الفائد الأولى: أن لله - تعالى - أن يقسم بما شاء من مخلوقاته.
    § الفائدة الثانية: ترابط الشرائع السماوية، وأن دين الله واحد.
    § الفائدة الثالثة: أن الأصل سلامة الإنسان، واستواء خلقه، ظاهرًا وباطنًا.
    § الفائدة الرابعة: إفساد الكافر لفطرته السوية، وتغييره لخلق الله.
    § الفائدة الخامسة: أن الإيمان يحفظ الفطرة السوية وينميها.
    § الفائدة السادسة: اقتران العمل بالإيمان، وأنه لا إيمان بلا عمل.
    § الفائدة السابعة: سعة فضل الله، وعطاءه.
    § الفائدة الثامنة: إثبات الجزاء، والحساب، إذا قلنا إن المراد بالدين الجزاء.
    § الفائدة التاسعة: إثبات حكم الله، وحكمته.
    § الفائدة العاشرة: إثبات المثل الأعلى لله تعالى.
    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

    تحمَّلتُ وحديَ مـا لا أُطيـقْ من الإغترابِ وهَـمِّ الطريـقْ
    اللهم اني اسالك في هذه الساعة ان كانت جوليان في سرور فزدها في سرورها ومن نعيمك عليها . وان كانت جوليان في عذاب فنجها من عذابك وانت الغني الحميد برحمتك يا ارحم الراحمين

  10. #20
    تاريخ التسجيل
    Jun 2008
    المشاركات
    11,737
    الدين
    الإسلام
    الجنس
    أنثى
    آخر نشاط
    17-05-2024
    على الساعة
    12:48 AM

    افتراضي

    التفسير العقدي لسورة الشرح

    بقلم د. أحمد بن عبد الرحمن القاضي

    أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

    بسم الله الرحمن الرحيم

    (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1) وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ (2) الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (3) وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ (4) فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (6) فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7) وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ (8))

    * من مقاصد هذه السورة المباركة:

    - بيان منة الله على نبيه - صلى الله عليه وسلم -.

    - وجوب شكر المنعم.

    (ألم): هذا الاستفهام: استفهام تقريري، تقديره: "شرحنا لك صدرك"

    (نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ): الشرح : هو التوسعة، كما قال الله - عز وجل -: (أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ)، وفي الآية الأخرى: (فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ).


    والمقصود بالشرح هنا، الشرح المعنوي، كما في الآيتين السابقتين.

    ويحتمل أن يشمل الشرح الحسي، أي فلق ألأضلاع، كما في حادثة شق الصدر ،

    فقد روى ابن إسحاق، بسنده عن خالد بن معدان، عن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنهم قالوا له : أخبرنا عن نفسك، قال: (نعم! أنا دعوة أبي إبراهيم، و بشرى عيسى عليهما السلام، و رأت أمي، حين حملت بي، أنه خرج منها نور أضاءت له قصور الشام، واسترضعت في بني سعد بن بكر، فبينا أنا في ُبهمٍ لنا، أتاني رجلان، عليهما ثياب بيض، معهما طست من ذهب مملوء ثلجاً، فأضجعاني، فشقا بطني، ثم استخرجا قلبي، فشقاه، فأخرجا منه علقة سوداء، فألقياها، ثم غسلا قلبي، وبطني، بذلك الثلج، حتى إذا أنقياه، رداه كما كان، ثم قال أحدهما لصاحبه: زنه بعشرة من أمته، فوزنني بعشرة، فوزنتهم، ثم قال: زنه بمائة من أمته، فوزنني بمائة فوزنتهم، ثم قال: زنه بألف من أمته، فوزنني بألف، فوزنتهم، فقال: دعه عنك فلو وزنته بأمته لوزنهم). قال الحافظ ابن كثير في " البداية والنهاية " ( 2 / 275 ):"وهذا إسناد جيد قوي".

    وروى مسلم، وأحمد، عن أنس أيضاً، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أتاه جبريل و هو يلعب مع الغلمان، فأخذه فصرعه، فشق عن قلبه، واستخرج القلب، و استخرج منه علقة، فقال: هذا حظ الشيطان منك، ثم غسله في طست من ذهب بماء زمزم، ثم لأمه، ثم أعاده في مكانه. و جاء الغلمان يسعون إلى أمه - يعني ظئره - فقالوا: إن محمداً قد قتل، فاستقبلوه وهو منتقع اللون. قال أنس: و قد كنت أرى أثر ذلك المخيط في صدره).

    لكن المقصود الأعظم: الشرح المعنوي؛ وذلك أن الله – تعالى – امتن على نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن جعل صدره متسعاً، أريحيا، مستوعباً لكل ما يرد عليه من أمور العلم، والإيمان، والأخلاق. وشرح الصدر أمر يتفاوت فيه الناس، فيقال: فلان ما أوسع صدره!، يعني يحتمل، ولا ينفعل. وفلان ضيق الصدر، لكونه سريع الانفعال، لا يصبر. فلنبينا - صلى الله عليه وسلم - من شرح الصدر، القدر الأعظم، الذي حصل به قبول خصال الإيمان، وإدراك العلم، والتحلي بالأخلاق الكريمة، التي وسع بها الناس، على اختلاف فئاتهم، وطبقاتهم.


    (وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ): هذه المنة الثانية؛ أي: حططنا عنك وزرك. والوزر هو: الذنب، والإثم، وكل ما يهمه، ويغمه، ويثقله. والنبي صلى الله عليه وسلم بشر، يلحقه الذنب. فقد قال الله - تعالى - في سورة (الفتح): (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا . لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ)، وقال في سورة (محمد): (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ). فالصحيح: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ربما وقع منه الخطأ، والذنب؛ وذلك لبشريته. وهكذا القول في جميع أنبياء الله.


    لكن فرق ما بين الأنبياء، وغيرهم، من جهتين:

    أولا: أن الله – تعالى - يغفر لهم الذنوب.

    ثانيا: أن الله – تعالى - لا يقرهم على الخطأ.

    بينما غير الأنبياء: قد يغفر لهم، وقد لا يغفر. وإذا أخطئوا، لا ينزل وحي ينبههم على أخطائهم. وهذا هو المعنى الصحيح لعصمة الأنبياء. فأنبياء الله - تعالى - وعلى رأسهم نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - معصومون في باب التحمل، والبلاغ؛ فهم إذا تحملوا عن الله، وأدوا إلى عباد الله، معصومون، لا يمكن أن يُدرج، أو يدخل فيما يبلغونه عن الله - عز وجل – شيء سواه؛ لا من قبل أنفسهم، ولا من قبل غيرهم. قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ)، وقال الله تعالى (وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى. مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى. وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى) أي لا يحمله غضب، ولا انفعال، ولا حمية، ولا رغبة، ولا رهبة، أن يقول في دين الله ما ليس منه. فلا يخرج من فكيه إلا الحق.

    كما أنه لا يدرج فيه، ولا يدخل، شيء من قِبَل غيرهم، قال الله تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آَيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) يعني ما أرسل الله – تعالى - قبل نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - من رسول، ولا نبي، إلا إذا تلا ما أوحي إليه، حاول الشيطان أن يدخل في قراءته ما ليس منها، لكن الله يمحو، ويزيل إلقاء الشيطان، وينفيه، ويحكم آياته، فلا يختلط بها شيء ليس منها، والله عليم حكيم.

    حتى حين سحر النبي - صلى الله عليه وسلم - كما ثبت في صحيح البخاري، لم يكن ذلك السحر مؤثراً في تبليغه، وإنما كان مؤثراً في مجريات حياته، فيظن أنه قد فعل الشيء، ولم يفعله، ونحو ذلك. أما جانب التشريع، والوحي فمحفوظ. قال الله تعالى (لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ)،


    وأما الكبائر: فإن أنبياء الله معصومون منها، وأما الصغائر، والخطأ: فجمهور العلماء على أنها تجوز في حقهم. ولهذا أمثلة كثيرة:

    - منها: نسيان آدم - عليه السلام - (فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا).
    - ومنها: سؤال نوح ربه بقوله: (ابْنِي مِنْ أَهْلِي).
    - ومنها: أن موسى - عليه السلام - وكز القبطي، قال تعالى: (فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ) ولكنه لم يرد قتله؛ لأن القتل كبيرة، وإنما وكز هذا القبطي؛ حمية، ونصرة، للإسرائيلي الضعيف.
    - ومنها: أن ذا النون خرج مغاضبا.
    - ومنها: أن نبينا - صلى الله عليه وسلم - في مسألة الأسرى، مال إلى الفداء، حتى أنزل الله تعالى عليه: (لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ)
    - وفي قصة الأعمى: (عبس وتولى أن جاءه الأعمى).
    - وفي قصة التحريم، حينما حرم على نفسه شيئا من المباح : (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)
    - وقد استدرك الله تعالى على نبيه - صلى الله عليه وسلم - في غزوة (تبوك) بقوله: (عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ).
    - ونهاه الله أن يصلى على المنافقين: (وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ)
    والمقصود أنه ربما وقع من النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومن غيره من الأنبياء، ما يستدرك، من ذنب، أو الخطأ،

    لكن العصمة تكون من جهتين؛ أولا: أن ذنبهم مغفور. وثانيا: أن خطئهم لا يقرون عليه، بل ينبهون عليه. وهذا هو القول الفاصل في مسألة العصمة .


    واعلموا أن بعض المتكلفين، ظنوا أنه لا يجوز أن ينسب إلى نبي أي خطأ بشري، فقالوا في قوله تعالى (ولقد هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا): همت به تريده على الفجور، وهم بها يضربها! وهذا من التكلف. والحقيقة، أنه قام عنده ما يقوم عند بني آدم، من الشهوة الغريزية، لكن إيمانه رده إلى الجادة، كما قال تعالى: (لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ)، فهذه منقبة له. لكن بوصفه بشر يمكن أن يقع في قلبه، ما يقع في قلوب بني آدم.

    وكذلك تكلفوا في قوله تعالى: (لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ):
    - فقال بعضهم: ذنب أبيك آدم.

    - وقال بعضهم: ذنب أمتك.

    فمن قال ذنب أبيك آدم، فقد ضاهى قول النصارى في الخطيئة، أن البشر مدينون بخطيئة آدم! وقد قال الله تعالى: (وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى).

    وأما من قال: ذنوب أمتك، فقد غفل عن قوله تعالى: (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ) فَفَرَّقَ بين ذنبه، وذنوب المؤمنين، والمؤمنات. لكن نقول - كما قال الله - إنه ذنب، لكنه ذنب مغفور، وخطأ لا يقر عليه.


    (الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ): يعني أثقل، وأكهل. ذلك أن نبينا - صلى الله عليه وسلم - لشفافيته الإيمانية، تكون هذه الذنوب، وإن صغرت، ثقيلة جداً على نفسه، لكماله الإنساني، والإيماني.


    (وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ): بقرن اسمك مع اسم الله، في الأذان، والخطبة، والتشهد. فلا يكاد يذكر اسم الله - عز وجل - إلا ويقرن به ذكر نبيه - صلى الله عليه وسلم – كما يقول المؤذن: (أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمد رسول الله) وكذلك الخطيب، وغيرهما. فلا تكاد تجد قرية، ولا بلدة، فضلا عن المدن، والحواضر، في أرجاء الأرض، وقاراتها المختلفة، إلا وذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - يجلجل على المنابر، وفي المنائر، وفي المناسبات.

    (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا) (العسر) هو: الشدة، و(اليسر) هو: الفرج والسهولة.


    (إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا) فائدة هذا التكرار، المعنى المذكور حديث (لن يغلب عسر يسرين) إلا إنه أعلَّ بالإرسال. وصح عن عمر، وعلي، رضي الله عنهما.

    فهذه الآية وقعها في النفوس وقع حميد، فهي كالبلسم للجروح، فكلما وقع الإنسان في ضائقة، وذكر قول الله تعالى (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا . إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا) سري عنه. فما من شدة إلا سيأتي لها من بعد شدتها رخاء، وما من عسر في هذه الدنيا وإلا يكتنفه يسر. فلا تيأس، ولا تحبط، ولا يضق صدرك، فإن الله - سبحانه وتعالى - له نفحات تخفف هذه السحابة، فعما قليل تقشع. فاصبر.


    (فَإِذَا فَرَغْتَ) اختلفت عبارات المفسرين في ذلك:

    - فقيل: فإذا فرغت من صلاتك.
    - وقيل: فإذا فرغت من جهاد عدوك. وكأن هذا لا يستقيم، والسورة مكية.
    - وقيل: فإذا فرغت أي: من أمور دنياك
    والأولى ما ذهب إليه ابن جرير الطبري - رحمه الله - من حمل الآية على العموم، وأن المقصود إذا فرغت من كل ما يشغلك، من أمر دينك، ودنياك. والمقصود بأمر دينك، الولايات اللازمة، والوظائف الراتبة.


    (فَانْصَبْ): أي: اتعب في عبادة ربك، ودعائه، ففي هذا أمر للنبي - صلى الله عليه وسلم - أن يتوفر على طاعة الله، كلما أمكنه ذلك، وقد كان، فإنه سيد الذاكرين، وإمام المتعبدين.


    (وَإِلَى رَبِّكَ): قدم الجار والمجرور؛ لكي يحصل به الاختصاص، والحصر.


    (فَارْغَبْ): اطلب، وتضرع.


    الفوائد المستنبطة

    § الفائدة الأولى: انشراح صدر النبي - صلى الله عليه وسلم – بالإسلام، علما ودعوة، وخلقا. وهكذا ينبغي أن يكون الداعي إلى دينه.
    § الفائدة الثانية: مغفرة ذنبه - صلى الله عليه وسلم -، ووضع جميع ما يثقله.
    § الفائدة الثالثة: إمكان وقوع الذنب منه - صلى الله عليه وسلم -، وأن ذلك لا ينافي العصمة.
    § الفائدة الرابعة: تحقق وعد الله - تعالى - برفع ذكر نبيه في الخافقين.
    § الفائدة الخامسة: لطف الله تعالى الظاهر، والخفي. فاللطف الظاهر: هو ما تدركه من الأمور، والحوادث، التي يخفف الله تعالى عنك بها المصاب، ويجلب لك الرحمة.
    واللطف الخفي: هو مالا تدركه من الأمور التي يقضيها الله تعالى، ولا تشعر بها. فاشكر الله على لطفه الظاهر، والخفي. ولذلك كان من أسماء الله الحسنى (اللطيف). واللطف هو ما دق، وخفي.

    § الفائدة السادسة: الأمر بالاشتغال بعبادة الله تعالى، والاجتهاد في ذلك.
    § الفائدة السابعة: الأمر بالرغبة إليه سبحانه. ومقام الرغبة: أن تطلب الرب، وتضرع إليه، وتتوجه نحوه.
    § الفائدة الثامنة: فائدة أصولية وهي: أن الخطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم - خطاب لجميع الأمة، ما لم يرد دليل على التخصيص. وذلك في قوله (فإذا فرغت فانصب* وإلى ربك فارغب) فلا يقال هذا من خصائصه - صلى الله عليه وسلم -فالأصل أن ما أمر الله تعالى به نبيه ينسحب على عموم الأمة، كما في قوله: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ. قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ). إلا أن يرد مخصص، كما في قوله: (وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ).
    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

    تحمَّلتُ وحديَ مـا لا أُطيـقْ من الإغترابِ وهَـمِّ الطريـقْ
    اللهم اني اسالك في هذه الساعة ان كانت جوليان في سرور فزدها في سرورها ومن نعيمك عليها . وان كانت جوليان في عذاب فنجها من عذابك وانت الغني الحميد برحمتك يا ارحم الراحمين

صفحة 2 من 6 الأولىالأولى 1 2 3 ... الأخيرةالأخيرة

التفسير العقدي لجزء عم

معلومات الموضوع

الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع

الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)

المواضيع المتشابهه

  1. الأمن العقدي للشيخ عادل المقبل الجزء الثاني
    بواسطة أبوفاطمة1981 في المنتدى منتدى الصوتيات والمرئيات
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 30-04-2014, 07:14 PM
  2. الأمن العقدي للشيخ عادل المقبل الجزء الثاني
    بواسطة أبوفاطمة1981 في المنتدى منتدى الصوتيات والمرئيات
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 28-04-2014, 08:54 PM
  3. الأمن العقدي للشيخ عادل المقبل الجزء الأول
    بواسطة أبوفاطمة1981 في المنتدى منتدى الصوتيات والمرئيات
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 27-04-2014, 07:22 PM
  4. مشاركات: 1
    آخر مشاركة: 11-11-2008, 08:35 AM
  5. التفسير المبسر000000
    بواسطة ahmad2008 في المنتدى فى ظل أية وحديث
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 20-06-2008, 05:56 PM

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

المفضلات

المفضلات

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •  

التفسير العقدي لجزء عم

التفسير العقدي لجزء عم