البلاغة العالية في آية المداينة .....دكتور سعيد جمعة الأستاذ المساعد في جامعة الأزهر

آخـــر الـــمـــشـــاركــــات


مـواقـع شـقــيـقـة
شبكة الفرقان الإسلامية شبكة سبيل الإسلام شبكة كلمة سواء الدعوية منتديات حراس العقيدة
البشارة الإسلامية منتديات طريق الإيمان منتدى التوحيد مكتبة المهتدون
موقع الشيخ احمد ديدات تليفزيون الحقيقة شبكة برسوميات شبكة المسيح كلمة الله
غرفة الحوار الإسلامي المسيحي مكافح الشبهات شبكة الحقيقة الإسلامية موقع بشارة المسيح
شبكة البهائية فى الميزان شبكة الأحمدية فى الميزان مركز براهين شبكة ضد الإلحاد

يرجى عدم تناول موضوعات سياسية حتى لا تتعرض العضوية للحظر

 

       

         

 

 

 

    

 

البلاغة العالية في آية المداينة .....دكتور سعيد جمعة الأستاذ المساعد في جامعة الأزهر

صفحة 2 من 2 الأولىالأولى 1 2
النتائج 11 إلى 17 من 17

الموضوع: البلاغة العالية في آية المداينة .....دكتور سعيد جمعة الأستاذ المساعد في جامعة الأزهر

  1. #11
    تاريخ التسجيل
    Dec 2005
    المشاركات
    175
    آخر نشاط
    07-03-2016
    على الساعة
    02:43 AM

    افتراضي

    أثر السياق في تصوير المعنى في قوله تعالى :
    "ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا "
    دعوة الشهداء إلى الشهادة على وجهين :
    الأول : دعوتهم إلى تحمل الشهادة وقت كتابة العقد .
    والآخر : دعوتهم إلى أداء الشهادة عند حدوث خلاف .
    فما المراد من دعوتهم ؟ هل إلى الأداء أم إلى التحمل ؟
    إن الجملة القرآنية حذفت المدعو إليه , " فجمعت بين الأمرين وهما :
    ألا تأبى إذا دعيت إلى تحصيل الشهادة , ولا إذا دعيت إلى أداءها " ( 123)
    وهذا من سعة دلالة الحذف , كما قال الإمام عبد القاهر عنه : " إنه باب دقيق , المسلك لطيف المأخذ , عجيب الأمر , شبيه بالسحر ؛ فإنك ترى به ترك الذكر أفصح من الذكر , والصمت عن الإفادة أزيد للإفادة , وتجدك أنطق ما تكون إذا لم تنطق , وأتم ما تكون بياناً إذا لم تُبنْ " ( 124)
    وإذا كان المحذوف هو تحمل الشهادة ؛ فإنه يستفاد منه أن تحمل الشهادة فرض كفاية , وإذا كان المعنى : إذا دُعِي إلى الأداء فعليه أن يجيب , أي أنها فرض عين .
    قال مجاهد : " إذا دعيت لتشهد فأنت بالخيار , وإذا شهدت فدعيت فأجب .. "
    وروي عن ابن عباس والحسن البصري : أنها تعم الحالين , " التحمل والأداء " ( 125)

    والذي أميل إليه في تعيين المحذوف هو : تحمل الشهادة , وذلك لعدة أسباب , ومنها :
    1 – أن السياق في الحديث عن الدعوة للشهادة , ولو كان السياق في شأن الأداء لأمر الشاهد بالحضور قصراً ؛ لأنه لم يشهد غيره على التداين .
    2 – أن الحديث هنا عن توثيق العقد , وليس عن فض نزاع , وهذا يناسبه أن تكون الدعوة للتحمل , وليس للأداء .
    3 – أن الآية التالية تناولت الأداء , وحذرت من كتمان الشهادة فقيل فيها " ولا تكتموا الشهادة " ولا داعي هنا للتكرار , فالحمل على التأسيس أولى من الحمل على التأكيد .
    4 – لو كان الأمر لأداء الشهادة لما جاز لأحد أن يتخلف عنها , " ولقد جاء عن الربيع : أن الرجل كان يطوف في القوم الكثير يدعوهم ليشهدوا , فلا يتبعه أحد منهم , فأنزل الله عز وجل : " ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا " .
    6 – أن الآية تحدثت من قبل عن نهي الكاتب عن الإباء,فقالت"ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله"والكتابة والشهادة جناحان للتوثيق,وضبط الحقوق , وقد جاء عن ابن جريج أنه سأل عطاء : ما شأنه إذا دعي أن يكتب وجب عليه ألا يأبى , وإذا دعي أن يشهد لم يجب إن شاء ؟
    قال:كذلك يجب على الكاتب أن يجيب,ولا يجب على الشاهد أن يشهد ,فالشهداء كثير"( 126) .
    فقوله : " الشهداء كثير " : محمول كما لا يخفى على التحمل , وليس الأداء .

    المجاز المترتب على تقدير المحذوف :

    إذا كان الأمر متعلقاً بتحمل الشهادة , فكيف يجوز إطلاق اسم الشهداء عليهم من قبل ؟
    لقد ذهب الطبري إلى عدم جواز هذا فقال : " غير جائز أن يلزمهم اسم الشهداء , إلا وقد استشهدوا قبل ذلك , فشهدوا على ما ألزمهم شهادتهم عليه اسم الشهداء , فأما قبل أن يستشهدوا على شيء فغير جائز أن يقال لهم شهداء ؛ لأن ذلك الاسم لو كان يلزمهم , ولما يستشهدوا على شيء يستوجبون بشهادتهم عليه هذا الاسم , لم يكن على الأرض أحد له عقل صحيح إلا وهو مستحق أن يقال له : شاهد , بمعنى أنه سيشهد , أو أنه يصلح لأن يشهد .
    وعليه كان معلوماً أن المعنيّ بقوله : " ولا يأب الشهداء " مَنْ وصفنا صفته ممن قد شهد فدُعي إلى القيام بها ؛ لأن الذي لم يشهد غير مستحق اسم شهيد , ولا شاهد " . ( 127)
    والأمر – كما أرى – أبسط من كل هذا ؛ لأن من الأصول المعتمدة في علم البلاغة أن الشيء يجوز تسميته باسم ما يؤول إليه على سبيل المجاز المرسل , الذي علاقته اعتبار ما سيكون ؛ مثل قوله تعالى : ( إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْراً ) (يوسف:36) .
    وهو ما عليه الأمر هنا . ( 128 ).
    وعليه , يجوز تسمية الرجال باسم الشهداء ؛ لأنهم سيصيرون شهداء , وفي ذلك نكتة , وهي أنهم بمجرد دعوتهم إليها فقد تعينت عليهم الإجابة فصاروا شهداء . ( 129)
    كما لا يخفى أن فيها تحريضاً لهم بالمدح بهذا اللقب , بالإضافة إلى أنهم ذو خبرة , ومجربون في الشهادة .
    يقول ابن عاشور : " وإنما جيء في خطاب المتعاقدين بصيغة الأمر , وجيء في خطاب الشهداء بصيغة النهي ؛ اهتماماً بما فيه التفريط ؛ فإن المتعاقدين يُظن بهما إهمال الإشهاد , فأُمرا به .
    والشهود يُظن بهم الامتناع فنهوا عنه , وكل يستلزم ضده " ( 130) .


    أما لبنات هذه الجملة فإنها تحمل من الكنوز الدلالية الكثير التي تتناغم مع دلالة الأساليب : وأول ما يلقانا هنا هو " لا " الناهية في قوله : " ولا يأب الشهداء " .
    والنهي بـ " لا" مشعر برغبة المنهي في ارتكاب المنهي عنه إن كانت له مندوحة , فحين يقال : لا تفعل كذا .. يفهم منه أن له رغبة في فعله , أو أنه يفعله الآن , فنهي عنه , وهذا يصور نفرة النفوس من تبعات الشهادة , ومحاولة الفكاك منها , ولولا طاعة الله تعالى لما شهد أحد ...
    أما اصطفاء الفعل " يأبى " دون " يمتنع " مثلاً ؛ فلأن الإباء فيه من الرفض المصحوب بالعلة , وخوف المستقبل , والحذر من الإقدام , فهو ليس امتناعاً ساذجاً , بل امتناع معلل , وهذه أقصى درجات الرفض , ولا يعنى هذا أن القرآن أباح الامتناع عن الشهادة ؛ لأن من سنن القرآن الكريم أنه يوجه النهي إلى أعلى درجات الفعل ليكون ما دون ذلك داخلاً فيه ً, وهو المعروف بالتنبيه بالأعلى على الأدنى .
    كما أن الكلمة بجرسها العالي تشعر بالدفع , والإعراض عن هذا الأمر , ومَنْ من المؤمنين يحب الشهادة في أمور تحفها المخاطر ؟ !!!!
    أما لفظ " الشهداء " فجاء جمعا لدخول النساء في هذا اللفظ , فصاروا جمعاً , وفي كلمة " إذا " ما يشير إلى كثرة ذلك منهم ً وأنهم صاروا معروفين بالشهادة , وقد يلوح من هذه الآية دليل على أنه يجوز للإمام أن يقيم للناس شهوداً , ويجعل لهم من بيت المال كفايتهم , فلا يكون لهم شغل إلا تحمل حقوق الناس حفظاً لها , وإن لم يكن ذلك ضاعت الحقوق وبطلت " ( 131 )
    " وقد أحسن قضاة تونس المتقدمون , وأمراؤها في تعيين شهود منتصبين للشهادة بين الناس , ويُعرفون بالعدالة , وكذلك كان الأمر في الأندلس , وذلك من حسن النظر للأمة , ولم يكن ذلك
    متبعاً في بلاد المشرق ..
    وكان مما يعد في ترجمة بعض العلماء أن يقال : كان مقبولاً عند القاضي فلان " ( 132)

    دلالة " ما " في قوله : " إذا ما دعوا " :

    قيل " " ما " مزيدة (33) , وراعى بعضهم اللفظ فقال " ما" حرف زائد للتوكيد عند جميع البصريين , ويؤيده سقوطها في قراءة ابن مسعود" بعوضة " في قوله تعالى : ( إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا) (البقرة:26) .
    وتأتي " ما " على ستة معان منها : " التوكيد , ويسميه بعضهم صلة , وبعضهم زائدة , والأُولى
    أولى ؛ لأنه ليس في القرآن حرف إلا وله معنى , والنحاة إنما يقولون زائدة , يقصدون أنها لا تؤثر على إعراب الجملة , ولا يقصدون خلوها من المعنى , أو إنها يمكن الاستغناء عنها .
    والذي ينبغي الوقوف عليه هنا أن السياق يستدعي هذا التوكيد ؛ لأن إعراض الشهداء عن الشهادة كثير , بل إن المسلم ليتهرب منها ؛ خشية الوقوع في الزلل أو النسيان , أو معاداة أحد المتداينين إن
    شهد عليه , ومن أجل كل ذلك كان التوكيد هنا حسناً ؛ ليعلم أن شهادته ضمان للحقوق , ودفع للشبهات , وإغلاق لأبواب الشقاق ....ولكن هل يمكن ملاحظة النفي في " ما " هنا ؟
    إن ملاحظة النفي هنا مقبول أيضاً ؛ لأن المعنى حينئذ هو أن : على الشهداء الإدلاء بشهادتهم , حتى وإن لم توجه إليهم الدعوة للشهادة ؛ لأن فيها إحقاقاً للحق .
    كما أن من دلالة " ما " المفهومة من خلال السياق هنا أنها تومئ إلى الإسراع في تلبية الدعوة , دون تأجيل أو تسويف , فكأنها تدل على الحينية , وتخصيص المستقبل الكامن في " إذا " , فإن قيل : ولا يأب الشهداء إذا دعوا " , جاز أن يلبوا اليوم أو غداً أو بعد أسبوع .
    أما حين يقال : " ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا " فيعني وجوب أن تكون الإجابة للدعوة في حينها , وفي ذلك تعجيل بحفظ الحقوق , وإيحاء للشهود بخطورة الأمر , ووجوب حسمه في حينه .
    ويؤيد هذا أن الآيات التي جاءت فيها " ما " غالباً ما تدل على ربط الفعل بالزمن الحاضر العاجل دون تأخير , وذلك في مثل :
    1 – " ( قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنْذَرُونَ) (الانبياء:45) 2 – (حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ) (فصلت:20) 3 -(وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ)(التوبة:92)وغير ذلك كثير
    وأيضاً من الدلالات التي يمكن فهمها أنهم في أي وقت يدعون فيه للشهادة فعليهم التلبية ؛ وذلك لأن " ما " تحمل معنى الوقت , وهذه من أوجه دلالتها , كما قال ابن هشام في نحو قوله تعالى : " مادمت حياً " مريم 31 " أصله:مدة دوامي حياً ..وفي نحو "كلما أضاء لهم مشوا فيه " البقرة 20 أي : كل وقت إضاءة , واستدل ابن مالك على مجيئها للزمان ... (135)
    أما اصطفاء الفعل " دعوا " فيشير إلى الرفق , واللين والتودد إلى الشهداء ؛ لأنهم لايبتغون من شهادتهم إلا رضى الله تعالى ؛ لذلك حملت من الترغيب ما يجذبهم إليها , ولو كانت الشهادة شهادة أداء لأمروا بالحضور ؛ إذ ليس هناك غيرهم .
    ******

    الكناية في قوله " ولا تسأموا "

    " لقد انتقل الشارع إلى غرض آخر , غرض عام للتشريع , يؤكد ضرورة الكتابة – كَبُرَ الدَّين أم صغر , بحجة أن الدين الصغير لا يستحق , أو أنه لا ضرورة للكتابة بين صاحبيه لملابسة من الملابسات كالتجمل , والحياء , أو الكسل وقلة المبالاة , ثم يعلل تشديده في وجوب الكتابة تعليلاً وجدانياً وتعليلا علمياً .(136).
    والساْم في لغة العرب " يعني : الكسل والتهاون والملل في تكرير فعل ما , أو الملل مما يكثر فعلاً كان أو اسماً " ( 137 ) .
    وعليه ففي الفعل كناية عن صفة ؛ " لأن المراد من السأم هو الكسل , إلا أنه كُنِّي به عنه ؛ لأنه وقع في القرآن صفةً للمنافقين " ( 138)
    وقيل : كُني بالسأم عن الكسل ؛ لأنه صفة المنافق ؛ ولذلك قال – صلى الله عليه وسلم – لا يقول المؤمن كسلت " ( 139)
    وكأن النهي هنا " نهي عن أثر السأم , وهو ترك الكتابة ؛ لأن السآمة تحصل للنفس عن غير اختيار , فلا يُنهى عنها في ذاتها " .
    وعليه , فإن الأمر بالكتابة آكد من ذي قبل ؛لأن الصغير والكبير من الديون داخل في دائرة النهي .
    كما يلحظ في دلالة الكناية هنا التحرز من وصف المؤمنين بصفةٍ التصقت بالمنافقين , وهي الكسل ؛ فحين قال الله تعالى في وصف المنافقين : ( وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى ) (النساء:142) آثر أن يجنب المؤمنين وصفهم بالصفة التي اشتهر بها المنافقون ؛ تكريماً لهم , فقال " ولا تسأموا " بدلاً من – ولا تكسلوا .
    وهذا الفعل _ تسأموا – قد يرد لازماً , وقد يتعدى بحرف الجر , وقد يتعدى بنفسه , وذلك نحو " وهم لا يسأمون " ( فصلت 38) , ونحو " لا يسأم الإنسان من دعاء الخير " ( فصلت 49 ) وقد يتعدى بنفسه كما هو في الآية هنا " ولا تسأموا أن تكتبوه .. "
    ودوران الفعل بين اللزوم , والتعدي بحرف , والتعدي بنفسه يشير إلى دورانه بين القوة والضعف , وهذا يعني أن السأم في الآية سأم شديد , فنهي عن هذا السأم الشديد الناتج من كثرة الكتابة , أو من قلة الدين .
    وأوقع الفعل على المفعول المؤول دون الصريح , فقال : ولا تسأموا أن تكتبوه " دون " كتابته " , إيماءً إلى أن كتابته تكون مرة واحدة , وتنتهي مهمة التوثيق , أما إضمار المكتوب , وعدم إظهاره في " أن تكتبوه " فللإشارة إلى ثقله على النفوس , ورغبتها في إخفائه , وعدم الكشف عنه , أو أن الضمير يُذكِّر المتعاملَين بالديْن وبالحق معاً ؛ إذ يمكن إرجاعه إلى كل منهما , أي ولا تسأموا أن تكتبوا الحق , وهذا من الإيجاز البديع .

    وجه التعبير بالصغير والكبير :
    التعبير بهما يفيد الإحاطة والشمول لكل دين , وقد بدأ بالصغير ؛ لأنه الأقرب إلى التهاون والكسل في كتابته , فأراد تعميم الكتابة , فبدا بما يمكن الكسل فيه .
    ولفظ الصغير والكبير " يستعملان في الأجسام و لا يستعملان في الأعداد , فالأعداد يستعمل معها القليل والكثير والاستعمال هنا من قبيل الاستعارة كما قال الراغب , وأبو هلال ( 140)
    وقد ذهب بعض أهل العلم إلى أن التعبير بهما هنا " يعني " على أي حال " ( 141) وكأن لا فرق , حتى أنهم فسروا هذا بذاك ( 142)
    لكنني أرى في هذا الاستعمال ما يصرف الذهن إلى شيء آخر غير المال , إن العبارة تصرف الذهن إلى الحق , وإلى "الدَّيْن" , وهي أمور ألصق بالصغر والكبر منها بالكثرة والقلة .

    إعادة لفظ " الأجل " :
    ذكر الأجل في أول الآية , وأعيد ذكره هنا في شبه جملة وقعت حالاً من الهاء في جملة " تكتبوه " والمعنى " ولا تسأموا أن تكتبوه صغيراً أو كبيراً مستقراً في ذمة المدين إلى وقت حلوله الذي أقر به .
    فالضمير في " أجله " عائد إلى المدين , أي الأجل الذي ضربه للدائن لأنه أعلم بموعد سداده , وقدرته على هذا السداد , فجعل الأجل وتحديده من خصائصه ؛ حتى لا يكون له عذر عند حلوله .
    وتكرار ذكر الأجل ؛ لأن السياق سياق سأم من الكتابة , مما يُشعر بالتهاون في الضوابط السابقة , فأعيد التنصيص على الأجل ؛ لبيان أنه لا فرق بين ما سبق وما هو لاحق , فالحق أحق أن يتبع .


    ******




    التحريض بالخبر في جملة
    ( ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلاَّ تَرْتَابُوا )


    هذه جملة تحريضية , جاءت بعد تتابع الأوامر والنواهي ، وكأنها علمت أن النفوس قد زادت عليها الأعباء فجاءت بما يقويها ويشد من أزرها , وهذه الجملة مكونة من مبتدأ وهو " ذلكم " , وعدة أخبار معطوف بعضها على بعض .
    ولنقف أولاً على هذا المبتدأ وهو " ذلكم " حيث تكون منة [ذا , واللام , وكم ] .
    أما " ذا " .
    فهي اسم إشارة " والإشارة هنا تعود إلى أقرب مذكور , وهو : الكتابة , وقيل : الكتابة والاستشهاد , وجميع ما تقدم مما يحصل به الضبط ] ( 143) .
    ومعلوم أن اسم الإشارة يفيد وضوح المشار إليه حتى كأن المخاطب ينظر إليه , أوأن اسم الإشارة هنا يعيد أطراف المعاملة إلى رؤية ما وضع من ضوابط مرة أخرى , ليتبينوا ما فيه, وكأنها مراجعة أخيرة للدين ومن هو الذي عليه الحق ومن هو صاحب الحق , ومتى السداد ....إلخ
    إنها مراجعة سريعة , أو نظرة أخيرة للأمر جملة قبل انفضاض الموقف ... كل ذلك مفهوم من قوله " ذلكم "
    وجيء بالام في " ذلكم " تنبيها على صعوبة تحقق كل هذه الضوابط : من كتابة الدين على يد كاتب , وشهود عدول , وتحديد موعد السداد ... وغير ذلك من الضوابط الدالة على ندرة تحققها كاملة .
    ثم خوطب المؤمنون جميعاً فجيء بكاف الخطاب , والميم الدالة على الجمع ؛ ليكون الأمر أشبه بالإعلان العام غير المحصور في فئة دون فئة , مما يستدعي التريث قبل الإقدام عليه من كل إنسان يفكر في الاستدانة , فالأمر لن يخل من عناء , وإعلام الناس بأنه مدين .
    ثم جاء الخبر الأول وهو : أقسط عند الله :وعن أبي عبيدة : [قسط : جار , وقسط : عدل , وأقسط بالألف : عدل لا غير ..] ( 144 )
    وإيثار لفظ القسط دون العدل هنا [ لأن القسط هو : العدل البين الظاهر , ومنه سمي المكيال قسطاً , والميزان : قسطاً لأنه يصور لك العدل في الوزن حتى تراه ظاهراً , وقد يكون من العدل ما يخفى , ولهذا قلنا : إن القسط هو النصيب الذي بَيَّنْتَ وجوهه ( 145) .
    وقيل:[ عند ] والعندية هنا عندية علم, وتعني التقدير والحكم ؛ أي أقسط في قدر الله تعالى وحكمه .
    وقيل [عند الله ]ولم يقل عند ربك؛لأن السياق سياق حكم وميزان , وهو أليق بالجلال منه بالجمال .
    وأقوم للشهادة :
    وهذان اللفظان أحدث تركيبهما غموضاً عندي من حيث دلالة لفظ أقوم وإضافته إلي الشهادة ، ثم علاقة كل ذلك بالقضية الأساسية هنا وهي (ولا تسئموا أن تكتبوه صغيراً أو كبيراً إلي أجله ) .
    أما دلالة لفظ ( أقوم ) فقيل فيه :يعني : [ أعون علي إقامة الشهادة ] (146 ) .
    وقيل : [أصح وأحفظ ] (147) .
    وقيل : [أثبت لها وأعون عن إقامتها ] (148 ) .
    كما قيل إنها :[ أثبت للشاهد إذا وضع خطهُ ثم رآه تذكر به الشهادة ؛ لاحتمال أنه لو لم يكتبه ؛ أن ينساه كما هو الواقع غالباً ] (149 ) .
    [وأصله من قول القائل :أقمته من عوجه : إذا سَّويته فاستوي ، وإنما كان الكتب أعدل عند الله تعالي وأصوب لشهادة الشهود علي ما فيه ؛ لأنه يحوي الألفاظ التي أقرّ بها البائع والمشتري .. فلا يقع بين الشهود اختلاف في ألفاظهم بشهادتهم ؛ لاجتماع شهادتهم علي ما حواه الكتاب .
    وإذا اجتمعت شهادتهم علي ذلك كان فصل الحكم بينهم أبين لمن احتكم إليه من الحكام مع غير ذلك من الأسباب ](150 ).
    وهذا يفتح الباب لمعني آخر ،وهو أن هناك من يشهد فقط ولا يكتب ،فلما قيل : (ولا تسأموا أن تكتبوه صغيراً أو كبيراً ) ، فهم منه أن الشهادة حينئذٍ تكون علي مكتوب ؛ فلا يتخللها نسيان أو ضلال ، أو اختلاف بين الشاهدين .
    وعليه ؛ [فالشهادة علي شيء مكتوب أقوم من الشهادة التي تعتمد علي الذاكرة وحدها ] (151 )
    لأن تتابع الأيام يُنسي ،مما يترتب عليه عوج في الشهادة ،أو نسيان بعضها ،أو اختلاف بين الشاهدين ، ويترتب علي كل ذلك ضياع الحقوق وبزوغ الخلاف .
    يقول القرطبي "وأقوم للشهادة ،دليل علي أن الشاهد ، إذا رأي الكاتب ولم يذكر الشهادة لا يؤديها ؛
    لما دخل عليه من الريبة ، ولا يؤدي إلا ما علم،لكنه يقول:هذا خَطّي ولا أذكر الآن ما كتبت فيه " .
    قال ابن المنذر[أكثر من يُحفظ عنه من أهل العلم يمنع أن يشهد الشاهد على خطه إذا لم يذكر الشهادة
    واحتج مالك على جواز ذلك بقوله تعالى" وما شهدنا إلا بما علمنا " – يوسف 81
    وقال بعض العلماء :
    لمَّا نَسَب الله تعالى الكتابة إلى العدول جعلهم يشهدون على خطهم , وإن لم يذكروا .
    ذكر ابن المبارك عن معمر عن بن طاووس عن أبيه : يُشهد على شهادة فينساها ؟
    قال : لا بأس أن يشهد إن وجد علامته في الصك , أو خط يده .
    قال ابن المبارك : استحسنت هذا جداً .
    وفيما جاءت به الأخبار عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم _ أنه حكم في أشياء غير واحدة بالدلائل والشواهد ] ( 152)
    لكن الثابت أن الإمام مالك – رحمه الله – [ كان يحكم بالخط إذا عرف الشاهد خطه ... ثم رجع عن ذلك حين ظهر في الناس ما ظهر من الحيل , والتزوير ] ( 153 ) .
    وعليه , فإذا كان هناك شك في الشهادة خرجت الشهادة عن وجهها , وفي القرآن الكريم :
    ( ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا) (المائدة:108)
    وبعد :
    فإن الهدف الأسمى من كل هذه الضوابط سلامة الصدر بإحقاق الحق , وذلك من خلال الكتابة , والشهادة , فكأن الكتابة وحدها لاتكفي , والشهادة وحدها لا تكفي , فلا بد من اجتماع الأمرين , حتى نصل إلى نفي الريب : " وأدنى ألا ترتابوا " فالعقول تنسى , وقد تغضب فتكتم , وقد تمالئ فتجور , وما يمنعها من كل ذلك إلا الكتابة والشهادة .
    قوله تعالي (وأدني ألا ترتابوا.. )
    ----------------
    والدنو هو القرب : من دنا يدنو ؛أي أقرب إلي عدم الارتياب ، [والارتياب شك مع تهمه ،فإنك
    تقول إني مرتاب في فلان ،إذا شككت في أمره ،واتهمته ،والارتياب أمر قلبي ،ومع ذلك استخدم معه لفظ "أدني "،وهو مخصوص بالقرب المكاني؛لأنه:" لا يكون إلا في المسافة بين شيئين " ] (154 ) .
    وفي ذلك إخراج للمعنوي ، وهو الارتياب في صورة المحسوس ؛ لأن هذا المعنوي يترك أثاره علي الحواس من غضب ونحو ذلك .
    ويبقي السؤال :

    هل بعد كل هذه الضوابط لا تنتفي الريبة انتفاءً كاملاً ؛ فيقال "وأدني ألا ترتابوا " ، ولا يقال وانفي للريبة ؟
    إن هذا يعطي معنيً مهماً, وهو أنه بالرغم من كل هذه الضمانات إلا أن نفس الإنسان تظل في قلق وتوجس من ضياع هذا المال؛فهي بعد كل هذا تقترب من الضمان،لكنها لا تحصل علي الضمان التام
    ولما كان قائل هذا الكلام هو خالق تلك النفس ، كان لابد من فهم طبيعة هذه النفوس وعلاقاتها بالمال , فهي علاقة ذات خصوصية شديدة , بحيث لا تطمئن إلا بوجود المال في حوزتها , أما إذا كان في حوزة الغير فمهما أعطيت من ضمانات ؛ فإنها لا تنفك عن الريب , وخوف الضياع .
    حذف المفضل عليه :
    حُذف المفضل عليه في الجمل الثلاث ؛ إذ التقدير :
    ذلكم أقسط عند الله من عدم الكتابة .
    وأقوم للشهادة من عدم التحيّز في الشهود .
    وأدنى إلى عدم الريبة من ترك كل هذا .
    [وحسن حذف المفضل عليه لكون أفعل الذي للتفضيل وقع خبراً, وتقديره : الكتب أقسط , وأقوم , وأدنى من عدم الكتب ]( 155) .
    ووجه الحسن هنا هو اختزال التفضيل في تلك الألفاظ الثلاثة , حتى لا ينصرف الذهن إلا إليها , فيقبل على الأمر والنهي إقبال المحب الموقن بحكمة ما وضع من ضوابط ,وأنه في صالحه.
    ترتيب الجمل الثلاث :
    يقول أبو حيان [ نسق هذه الأخبار في غاية الحسن ؛ إذ بدئ بالأشرف , وهو قوله : " أقسط عند الله " أي في حكم الله ,فينبغي أن يتّبع ما أمر به , إذ اتباعه متعلّق الدين الإسلامي , وبني عليه قوله " وأقوم للشهادة " لأن ما بعد امتثال أمر الله هو الشهادة بعد الكتابة , وجاء بقوله " وأدنى ألا ترتابوا " أخيرا ؛ لأن انتفاء الريبة مترتب على طاعة الله تعالى في الكتاب والإشهاد , فعنهما ينشأ أقربية انتفاء الريبة , إذ ذاك هو الغاية في أن لا يقع ريبة , وذاك لا يتحصل إلا بالكتب والإشهاد غالبا فيُثلج الصدر بما كتب وأشهد عليهً وما ضبط بالكتابة والإشهاد لا يكاد يقع فيه شك , ولا لبس , ولا نزاع ]( 156)
    وهذا يؤكد أن الترتيب ترتيب تصاعدي , فبدأ بالالتزام بأمر الله تعالى , إذ هو الأساس الذي يبنى عليه , وانتهى بنفي الريبة , إذ هي العلة الملاحظة من وراء كل هذه الضوابط .
    فهذه الضمانات وإن كانت أوامر ينبغي السمع لها والطاعة , تعبداً لله تعالى إلا أن من ورائها علة عظيمة , وهي سلامة المجتمع , والمحافظة على علاقاته وروابطه , وهذا ما أكدته جملة : " وأدنى ألا ترتابوا .. "

    أسلوب الاستثناء في قوله تعالى :
    ( إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةَ تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ)

    وهذه الجملة تبين أن التجارة الحاضرة بيوعها مستثناة من قيد الكتابة , وتكفي فيها شهادة الشهود ؛ تيسيراً للعمليات التجارية التي يعرقلها التقييد , والتي تتم في سرعة , وتتكرر في أوقات قصيرة ؛ ذلك أن الإسلام وهو يشرع للحياة , قد راعى كل ملابساتها , وكان شريعةً عملية واقعية ,لا تعقيد فيها ولا تعويق لجريان الحياة في مجراها . ( 157 )
    ولكني ألحظ هنا في هذه العبارة دلالة أخرى خافية , وهي : لفت أنظار المؤمنين إلى التيسيرات في غير الديون , فالآية تعرض العوائق الكثيرة في شأن الديون , وتضع في الإطار نفسه الأبواب الميسرة ,والطرق الممهدة , حتى تفر النفوس من عقبات الديون إلى تيسيرات البيع الناجز .
    كما أن الجملة من باب الاستثناء المنقطع , حيث فَصَلَ كلام كثير بين المستثنى والمستثنى منه , وأصل جملة الاستثناء هي : " يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه إلا أن تكون تجارة حاضرة ... "( 158) .
    ومعنى الانقطاع هنا : أن التجارة الحاضرة ليست من باب الديون في شيء , لكن لمّا كانت في حاجة إلى توثيق عقد البيع , كما يوثق عقد الديون أُلحقت التجارة بالديون من وجه احتياجها إلى توثيق , لكن توثيق عقد البيع أقل كلفة وشروطاً من عقد المداينة .

    وجه البلاغة في وصف التجارة بالحضور والدوران :
    يرى الزمخشري – رحمه الله – أن قوله : [ حاضرة تديرونها بينكم ] مفهوم من لفظ التجارة نفسها , ويسأل فيقول : [ فإن قلت ما معنى " تجارة حاضرة " وسواء كانت المبايعة بدين أو بعين , فالتجارة حاضرة ؟
    وما معنى إدارتها بينهم ؟ .
    قلت : أريد بالتجارة ما يُتَّجر فيه من الأبدال , ومعنى إدارتها بينهم : تعاطيهم إياها يداً بيد , والمعنى : إلا أن تتبايعوا بيعاً ناجزاً يداً بيد , فلا بأس أن تكتبوه ؛ لأنه لا يتوهم فيه ما يتوهم في التداين ] ( 159 ) .
    لكن هذا الاستفسار في حاجة إلى مراجعة فليست كل تجارة حاضرة , وبخاصة تلك الصفقات التجارية التي تعقد في الغرف المغلقة , وعن طريق الحاسبات الالكترونية .
    كما أنه ليست كل تجارة حاضرة دائرة , فالدوران والحضور صفتان لازمتان لإباحة منع الكتابة .
    أما الحضور فيعني وجود السلعة والثمن في مكان واحد , ويتم فيها البيع يداً بيد .
    وأما الدوران : فيعني التجارة السريعة , ولقد كان الفقهاء يقولون إنها ذات المطعومات , أو ذات الثمن القليل ؛ لأن هذه هي الدائرة بين الناس , لكن اللفظ أعم من ذلك , وبخاصة في عالمنا المعاصر , وقد رأينا السلعة الواحدة تباع في المجلس الواحد أكثر من مرة , ولأكثر من شخص , وذلك في السوق المصرفي , أو ما يسمى بالبورصة , أو ما يطلق عليه المزاد العلني , فهذا الدوران للسلعة الواحدة يبيح ترك الكتابة , بل يستلزمها إذ لا يمكن الكتابة في مثل هذه المبايعات الحاضرة السريعة توسعة على الناس , ورفعاً للحرج .
    وجملة : " تديرونها بينكم " ؛ فيها استحضار لعملية الانتقال من تاجر إلى آخر , ومن ثالث إلى رابع , مما يصعب معه التوثيق .
    وقوله " بينكم " يعطي معنى اجتماعهم , وتداول البيع يداً بيد , وانتفاء الحرج ؛ لأن البيع قائم على الإيجاب والقبول .

    *******

    يــــــــــــتــــــــــــــــــبـــــــــــــــــع

  2. #12
    تاريخ التسجيل
    Dec 2005
    المشاركات
    175
    آخر نشاط
    07-03-2016
    على الساعة
    02:43 AM

    افتراضي

    -------------------------------------------

  3. #13
    تاريخ التسجيل
    Dec 2005
    المشاركات
    175
    آخر نشاط
    07-03-2016
    على الساعة
    02:43 AM

    افتراضي

    وجه اصطفاء النفي بـ" ليس" في قوله تعالى :
    ( فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلا تَكْتُبُوهَا )
    جاء في القرآن الكريم النفي بـ" لا " والنفي بـ " ليس " فما الفرق ؟
    لقد جاء النفي ب " ليس " تسع مرات في حين ورد النفي ب " لا " ست عشرة مرة .
    وأول ما يُلحظ من خلال سياقات الآيات أن النفي بـ " لا " كائن في الأمور التكليفية ؛ التي يظن فيها المكلف أن عليه جناحاً إذا فعلها ؛ مثل قوله تعالى: ( إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا) (البقرة:158) .
    كما أنه كائن أيضاً في نفي الجناح المفيد للإباحة في مقابل الحظر , فكل ما يصدق عليه أنه جناح يكون منفياً ؛وذلك نحو : " ( وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكَ (الأحزاب:51) .
    ونحو : " ( لا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ وَلا أَبْنَائِهِنَّ وَلا إِخْوَانِهِنَّ.. ) (الأحزاب:55) .
    هذا بالإضافة إلى أن النفي ب " لا " للجناح كائن في الغالب في الأمور التكليفية شديدة الحكم ؛ أي التي يكون الحكم فيها واجباً في مقابل محرَّم ؛ كما في إقامة حدود الله تعالى , أو ركن في مقابل باطل , كما في السعي بين الصفا والمروة , أو مباح في مقابل محرم ؛ كما في التعريض بخطبة النساء .
    النفي بـ" ليس " :
    أما النفي بـ " ليس" : فهو كائن فيما ليس بذنب أصلاً , وعليه فإن نفي الجناح عنه لكمال التنزيه ؛ نحو:(وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً)(الأحزاب:5
    والخطأ معفوُّ عنه في الأصل كما أنه كائن فيما لم يرد في مقابله نفي يُنهى عنه غالباً .
    هذا بالإضافة إلى أن " ليس " تنفي الوحدة , ولا تنفي الجنس مثل " لا " , ومن ثم فهي أضعف في النفي منها , وعليه يمكن فهم أن الجناح في قوله " فليس عليكم جناح ألا تكتبوها " غير مقصور , أو غير متأكد في نفوسهم ؛ لذلك جاء نفيه بـ " ليس " دون " لا " .
    وعند عرض الأسلوبين لبيان الفرق بينهما من خلال السياقات المتنوعة تبين أن جملة :
    " لا جناح عليكم " تأتي في سياق الأحكام والفرائض .
    أما قوله : " وليس عليكم جناح " فإنها تأتي في سياق المباحات , وما يستحسن من الأمور .
    فمن الأولى كتابة التجارة الحاضرة الدائرة بين المسلمين , وإن كان الحرج مرفوعاً .
    بلاغة التقديم في قوله تعالى :
    ( وأشهدوا إذا تبايعتم )
    وهذه الجملة : [ تشريع للإشهاد عند البيع , ولو بغير دين ؛ إذا كان البيع تجارة حاضرة ...
    وهي إكمال لصورة المعاملة ؛ فإنها إما تداين , أو آيل إلى التداين؛كالبيع بدين وإما تناجز في تجارة , وإما تناجز في غير تجارة ؛ كبيع العقار , والعروض في غير التُجْر ]( 160 ) .
    والجملة هنا جملة شرطية تقدم فيها جواب الشرط علي الفعل والأداة ، وهذا النمط من التركيب يفيد التوكيد للجواب ؛ أعني التوكيد للإشهاد ، لكن هذا التوكيد يحمل في معطفه شيئاً آخر ، وهو الإشارة إلي كثرة التبايع ، وشيوع ذلك بين الناس ؛ فنََّبه بالتقديم على الإشهاد وأهميته وذلك نحو : (وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ ) .
    والأمر في ( وأشهدوا) : قال الطبري رحمه الله ـ بوجوبه ، فعنده [الإشهاد علي كل مبيع ومشترى حقٌ واجب وفرضٌ لازم ؛ لأن كل أمر لله فرض ، إلا ما قامت حجته من الوجه الذي يجب التسليم له بأنه ندب وإرشاد ] ( 161) .
    ولقد قال بالوجوب أيضاً جمعٌ من الصحابة والتابعين : ومن أشهرهم في ذلك عطاء ؛ حيث قال : أشهد إذا بعت وإذا اشتريت بدرهم أو نصف درهم أو ثلث درهم ، أو أقل من ذلك ؛ فإن الله عز وجل يقول : "وأشهدوا إذا تبايعتم " ...
    وقال الطبري أيضاً : " لا يحل لمسلم إذا باع وإذا اشتري إلا أن يشهد ، وإلا كان مخالفًا كتاب الله عز وجل ] ( 162 ) .

    وهذا التوجه قد يكون مقبولاً في زمان آخر ، لكن حركة البيع الآن والشراء يستحيل معها الإشهاد في كثير من الأحيان ؛ إذ ليس من المعقول عند شراء قلم مثلاً أو كتاب أن أشهد اثنين، فهذا أمرٌ عسير ،ولا أظن أن الآية ترمي إليه .
    لكن الإشهاد قد يكون لازماً عند مظنة النزاع ، أو عند بيع الأشياء الثمينة التي يكتنفها الطمع .
    وجاء الفعل الماضي بصيغة التفاعل ؛ حيث قيل : " تبايعتم " وتلك الصيغة تحمل بعض الإيحاءات ومنها :
    أن المجتمع المسلم عند تبايعه ينبغي أن يكفي نفسه أولاً ،ولا يلتفت إلي المجتمعات الأخرى إلا بعد الاكتفاء الداخلي ؛ لأن الفعل قال : " تبايعتم " وهذا توجيه إلي إقامة سوق إسلامية .
    ومنها : الإشارة إلي تراضي الطرفين [ وقد ذكر الزهري عن عمارة بن خزيمة أن عمّه حدثه
    ـ وهو من أصحاب النبي صلي الله عليه وسلم ـ أن النبي صلي الله عليه وسلم ابتاع فرساً من
    أعرابي ، فاستتبعه النبي صلي الله عليه وسلم ليقضيه ثمن فرسه ، فأسرع النبي – صلى الله عليه وسلم – وأبطأ الأعرابي , فطفق رجال يعترضون الأعرابي فيساومون في الفرس , ولا يشعرون أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قد ابتاعه , حتى زاد بعضهم في السوم على ثمن الفرس , فنادى الأعرابي النبي – صلى الله عليه وسلم , فقال : إن كنت مبتاعا ً هذا الفرس فابتعه ’ وإلا بعته .
    فقال النبي – صلى الله عليه وسلم – حين سمع نداء الأعرابي : أوليس قد ابتعته منك ؟ !
    فقال الأعرابي : لا والله ما بعتك .
    فقال النبي – صلى الله عليه وسلم – بل قد ابتعته منك .
    فطفق الناس يلوذون بالنبي – صلى الله عليه وسلم – والأعرابي وهما يتراجعان .
    فطفق الأعرابي يقول : هلم شهيداً يشهد أن بعتك .
    قال خزيمة بن ثابت : أنا أشهد أنك قد بعته .
    فأقبل النبي – صلى الله عليه وسلم – على خزيمة فقال : بم تشهد ؟
    فقال بتصديقك يا رسول الله .
    فجعل رسول الله شهادة خزيمة بشهادة رجلين . ] ( 163 )
    وفي هذا ما يؤكد أهمية الشهادة في الأمور التي يمكن النزاع فيها .



    ******









    بلاغة التوجيه في قوله تعالى :
    " ولا يضار كاتب ولا شهيد "
    [ لما أمرت الآية بالكتابة , ثم أمرت بالإشهاد انتقلت إلى معنى آخر متصل به , وهو النهي عن الإضرار بهما , ولم يُقصد بذكر الأول التوصل إلى ذكر الثاني , وهذا عند علماء البلاغة يسمى الاستطراد ( 164)
    وهو مشعر بامتداد الغرض ......وكل ذلك يدل على خطورة الديون , وكثرة تبعاتها .
    والمضارَّة هي : إدخال الغير بأن يوقع المتعاقدان الشاهدين والكاتب في الحرج والخسارة , أو ما يجرّ إلى العقوبة ](165)
    والفعل " يضار " يجوز أن يكون مسنداً إلى الفاعل , كأنه قال لا يُضارِر....
    وأن يكون مفعولاً , أي : لا يضارَر , بأن يُشغل عن صنعته , ومعاشه باستدعاء شهادته ..
    بمعنى أنه يحتمل البناء للمعلوم , والبناء للمجهول , ولعل اختيار هذه المادة هنا مقصود , لاحتمالها حكمين ] ( 166)
    وعليه ؛ ففي الكلام توجيه , والتوجيه هو : " إيراد الكلام محتملاً لوجهين مختلفين "؛ كقول الله تعالى حكاية عن المشركين : " واسمع غير مسمع وراعنا " .
    قال الزمخشري : [ غير مسمع : حال من المخاطب ؛ أي : اسمع وأنت غير مسمع , وهو قول ذو وجهين , يحتمل الذم , أي اسمع منا مدعواً عليك بـ " لا سمعت "
    أو اسمع غير مجاب ماتدعو إليه ] ( 167)
    فقوله : " ولا يضار " على معنى إدخال الشاهدين والكاتب في الحرج , والخسارة , أو إيذائهما لشهادتهما الحقة .
    وقد يفهم منه معنى آخر,وهو أن يتواطأ الشاهدان والكاتب في التوثيق فيضيعا حق الدائن أو المدين
    [ لكن الأولى بالسياق مخاطبة المتداينين بألا يضارُّوا الكاتب أو الشهيد ؛ لأنه لو كان خطاباً للكاتب أو الشهيد لقيل بعد : وإن تفعلا فإنه فسوق بكما ] ( 168)
    وقد أخذ فقهاؤنا من هاته الآية أحكاماً كثيرة تتفرع عن الإضرار :
    ومنها: ركوب الشاهد من المسافة البعيدة .
    ومنها : ترك استفساره بعد المدة الطويلة التي هي مظنة النسيان .
    ومنها : استفساره استفساراً يوقعه في الاضطراب .
    ومنها : أنه ينبغي لولاة الأمور جعل جانب من مال بيت المال لدفع مصاريف انتقال الشهود , وإقامتهم في غير بلدهم , وتعويض ما سينالون من ذلك الانتقال من الخسائر المالية في إضاعة عائلتهم ؛ إعانةً على إقامة العدل بقدر الطاقة والسعة ] ( 169 ) .
    وفي تقديم الكاتب على الشهيد إشعار بأن الأصل في التوثيق هو الكتابة ,. وأن ضبط هذه الديون واقع في المقام الأول على الكاتب .
    أما إفراد اللفظين [ الكاتب والشهيد] مع تنكيرهما ؛ فلقصد التعميم , بمعنى : أي كاتب,وأي شهيد .
    كما أن هناك ملمحاً آخر , وهو ترغيب كل منهما في تلبية الأمر دون النظر إلى وجود كاتب آخر , أو شاهد آخر , فتلبية الأمر – وبخاصة الشاهد – ضرورية , حتى وإن ذهب وحده , حتى وإن لم يحضر غيره .
    أما اصطفاء صيغة البناء للمجهول في قوله : " ولا يضار كاتب ولا شهيد " فإنه مشعر بأن ذلك مترسخ في الفطر السليمة , حتى وإن لم تكن في دين الإسلام .
    فبناء الجملة يضعها في قالب الحِكَم , والأمثال , وكأنه ليس تشريعاً للمسلمين , بل إخبار ببديهة تفرضها العقول الصحيحة , وهذا يُكسب المعنى قوة ولزوماً , وحرصاً من الجميع على الالتزام به , ويؤيد هذا قراءة : " ولا يضارُّ " بالرفع ؛ إذ إن المعنى على أنه خبر , وليس إنشاءً , وكأن قراءة الرفع والنصب تشير إلى أن الجملة خبرٌ غُلِّف في صورة الإنشاء ليحمل من كلٍّ خصائصه , وميزاته .
    فهو يحمل من الخبر لزومه وثبوته .
    ويحمل من الإنشاء فريضته ووجوبه , وإثم من يخلفه .
    وهذا ما أكدته الجملة التالية , وهي : " وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم " .
    *******








    البناء التركيبي لجملة :
    " وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم "

    هذه الجملة تثير عدة أسئلة : ومنها :
    1 – ما وجه البلاغة في إيثار الفعل " تفعلوا " دون " تضاروا " ؟
    2 – ما وجه حذف المفعول للفعل " تفعلوا " ؟
    3 – لم بني جواب الشرط على الجملة الاسمية ؟
    4 – لم أضيف الفسوق إليهم ؟ وكان يمكن أن يقال : فإنه فسوق , وكفى .
    وبدايةً :
    فالجملة تحذير من إضرار الكاتب , أو الشاهد بإلحاق حكم الفسوق بكل من يرتكب ذلك .
    وبناء الجملة على الشرط يفيد احتمال وقوع هذا الإضرار , لكن الأصل , أو الشائع انتفاء هذا , كما أن اصطفاء أداة الشرط " إنْ " يشعر بندرة حدوثه .
    أما بلاغة ذكر الإضرار بلفظ " تفعلوا " فإنه يكمن في تقبيح من يفعل ذلك , وأنه ارتكب أمراً لا يمكن ذكره أو وصفه , وهو إضرار الكاتب أو الشاهد , وما هما إلا وسيلتان لحفظ الحقوق , ولا يعقل أن يقابل الإحسان إلا بالإحسان , فلما حدث هذا الإضرار عبَّر عنه بلفظ الفعل ؛ استبشاعاً له وتهويلاً , كما قيل لموسى – عليه الصلاة والسلام – " وفعلت فعلتك التي فعلت " – الشعراء 19-
    كما أن إيثار صيغة المضارع " تفعلوا " يشعر بأن المضارة أضحت عادة في الناس تتجدد , وتتكرر كثيراً بينهم .
    أما حذف المفعول من قوله "وإن تفعلوا " ؛ فلكي تذهب فيه العقول كُلّ مذهب ، حتى يدخل فيه كل نوع من الإضرار ، سواء في النفس أو المال أو الولد أو غير ذلك .
    وجاء جواب الشرط جملةً اسمية مفتتحة بإنّ ؛للإشارة إلي مضمون الجملة ، وهو ثبوت الفسوق
    بكل ما يضر الكاتب أو الشهيد ؛ لأن في ذلك إغلاقاً لبابٍ أباحه الله تعالي ، وفي ذلك تضيق علي الناس أو دفعاً لهم إلي الربا أو ما حرم الله ...
    وجاء اسم " إنّ " ضميراً للشأن , ولضمير الشأن شأنٌ في بلاغة العرب ، فلقد مضي العلماء علي أن [ فائدته الدلالة علي تعظيم المخبر عنه ، وتفخيمه بأن يذكر أولاً مبهما ًثم يفسَّر وكذلك يسمَّي ضمير المجهول , وهو عائد على ما بعده لزوماً إذ لا يجوز للجملة المفسرة له أن تتقدم عليه ] ( 170 )
    وعليه فتقدير المعنى : فإن الفسوق بكم .
    وكون ضمير الشأن مفخماً, ومعظماً للمخبر عنه يعني أن التفخيم للفسوق , وأن المبالغة في الفسوق . وهذا لون من ألوان التنفير , وزجر لكل من تسول له نفسه الإضرار بالكاتب أو الشاهد , لأن فسقه سيكون مؤكداً ومبالغاً فيه , أو أن الضمير يعود على الإضرار المفهوم من قوله :" ولا يضار " , ويكون المعنى : فإن الإضرار فسوق .
    ثم إنه كان يمكن أن يقال : فإنه فسوق وكفى , لكنه زاد النسبة , فقال [ بكم ] لإشعارهم بأن ضرراً وأذى قد لحق بهم , فعليهم الإسراع للتخلص منه , وكأن الفسوق يتعلق بهم حال إضرارهم بالكاتب , أو الشهيد , وليس المراد هنا لزومه لهم , أو أنهم لا ينفكون عنه كما قال البعض ] ( 171 )
    ولقد جاء في الحديث : " سباب المؤمن فسوق , وقتاله كفر " ولا يمكن حمل المعنى على أن من سب مسلماً لزمه الفسوق , ولا ينفك عنه , بل المعنى : على أن الفسوق لاحق به حال سبه , وأن الكفر لاحق به حال قتاله لأخيه المؤمن , ويزول عنه إذا كف عن ذلك .
    أما قوله " بكم " وكان يمكن أن يقال – لأنه فسوق _ فوجهه إرادة الحكم على الفاعل تنفيراً من الإضرار , وزجراً له عن الوقوع فيه .

    *****
















    بلاغة التكرار في قوله تعالى :
    ( وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)

    وهذه ثلاث جمل جاءت في ختام الآية , والواو في الجملة الأولى استئنافية ؛ لختم التكاليف السابقة بالبواعث والمحرضات , على قبول ما سبق , والامتثال له ؛ ذلك لأن التكاليف السابقة فيها من الثقل ما فيها , والنفس حين يثقل عليها العبء تحتاج إلى ما ينشطها , فذكرتها الآية بتقوى الله تعالى ؛ [ لأنها ملاك الخير , وبها يكون ترك الفسوق ] ( 172 ) .
    أما تكرار , [ وإظهار اسم الجلالة في الجمل الثلاث , فلقصد التنويه لكل جملة ؛ حتى تكون مستقلة الدلالة , غير محتاجة إلى غيرها المشتمل على مُعاد ضميرها , حتى إذا استمع السامع لكل واحدة منها حصل له علم مستقل , وقد لا يسمع إحداها فلا يضره ذلك في أخراها, ونظير هذا قول الحماسي :
    اللؤم أكرم من وبر ووالده واللؤم أكرم من وبر وما ولدا
    واللؤم داء لوبرٍ يُقتلون به لا يقتـلون بداءٍ غيـره أبـدا
    فإنه لما قصد التشنيع بالقبيلة , ومن ولدها , وما ولدته أظهر " اللؤم " في الجمل الثلاث , ولما كانت الجملة الرابعة كالتأكيد للثالثة لم يظهر اسم اللؤم بها .
    هذا ولإظهار اسم الجلالة , وتكراره نكتة أخرى , وهي التهويل , وللتكرير مواقع يحسن فيها , ومواقع لا يحسن فيها .
    قال عبد القاهر في خاتمة دلائل الإعجاز [ الذوق قد يدرك أشياء لا يُهتدى لأسبابها , وأن بعض الأئمة قد يعرض له الخطأ في التأويل , ومن ذلك ما حُكي عن الصاحب أنه قال : كان الأستاذ ابن العميد يختار من شعر ابن الرومي , ويُنقِّط على ما يختاره , قال الصاحب , فدفع إليَّ القصيدة التي أوّلها :
    أتحت ضلوعي جمرة تتوقد على ما مضى أم حسرة تتجددُ
    وقال لي : تأملها , فتأملتها , فوجدته قد ترك خير بيت فيها لم ينقط عليه , وهو قوله :
    بجهل كجهل السيف والسيف منقض وحلم كحلم السيف والسيف مغمدُ
    فقلت : لم ترك الأستاذ هذا البيت ؟
    فقال : لعل القلم تجاوزه , ثم رآني من بعدُ فاعتذر بعذر كان شراً من تركه , فقال : إنما تركته ؛ لأنه أعاد السيف أربع مرات .
    قال الصاحب : لو لم يُعده لفسد البيت .
    قال الشيخ عبد القاهر : والأمر كما قال الصاحب .... ثم قال :
    إن الكناية والتعريض لا يعملان في العقول عمل الإفصاح والتكشيف , لأجل ذلك كان لإعادة اللفظ في قوله تعالى:"وبالحق أنزلناه وبالحق نزل"وقوله : قل هو الله أحد الله الصمد " عمل لولاه لم يكن .
    وقال الراغب : قد استكرهوا التكرير في قوله :
    • فما للنوى جُدّ النوى قُطع النوى *
    حتى قيل:لو سلط بعير على هذا البيت لرعى ما فيه من النوى , ثم قال : إن التكرير المستحسن : هو تكرير يقع على طريق التعظيم أو التحقير , في جمل متواليات , كل جملة منها مستقلة بنفسها , والمستقبح هو أن يكون التكرير في جملة واحدة , أو في جمل في معنى .... ولم يكن في معنى التعظيم أو التحقير .
    فالراغب موافق للأستاذ ابن العميد , وعبد القاهر موافق للصاحب بن عباد ...
    قال المرزوقي في شرح الحماسة عند قول يحيى بن زياد :
    لما رأيت الشيب لاح بياضه بمفرق رأسي قلت للشيب مرحباً
    كان الواجب أن يقول : قلت له : مرحبا لكنهم يكررون الأعلام , وأسماء الأجناس كثيراً والقصد بالتكرير التفخيم . ] ( 173)
    وسواء أطلق العلماء على هذا مصطلح : وضع الظاهر موضع المضمر , أو الخروج على خلاف الأصل , أو التكرار ؛ فإن القصد هو التعظيم , [ وإدخال الروعة وتربية المهابة في النفوس ] ( 174) .
    وعليه فتكرير اسم " الله " في ختام الآية حيث قيل " واتقوا الله ويعلمكم الله والله بكل شيء عليم " إنما قصد به تربية المهابة في القلوب الدائنة , والمدينة , والشاهدة , والكاتبة , وكذا تربية المهابة في قلوب المجتمع الإسلامي ليحتاط في هذه المعاملات , ويسمع لأوامر , ويطيع .
    تعلق العلم بالتقوى :
    ذهب البعض إلى التلازم بين العلم والتقوى: تلازماً شرطياً , بمعنى: أن العلم متعلق بالتقوى , فمتى حدثت التقوى حدث العلم وترتب عليها اعتماداً على قوله تعالى:" واتقوا الله ويعلمكم الله "
    يقول القرطبي:[ إن الآية وعد من الله بأن من اتقاه علَّمه,أي : يجعل في قلبه نوراً يفهم به ما يُلقى إليه ]( 175)
    ويقول الصابوني : [ العلم نوعان : كسبي ووهبي .
    أما الأول : فيكون تحصيله بالاجتهاد والمثابرة والمذاكرة .
    وأما الثاني : فطريقه التقوى , والعمل الصالح , كما قال الله تعالى : " واتقوا الله ويعلمكم الله " وهذا العلم يسمى العلم اللدني : " وآتيناه من لدنا علما " – الكهف 65-, وهو العلم النافع الذي يهبه الله تعالى لمن يشاء من عباده المتقين , وعليه أشار الإمام الشافعي بقوله :
    شكوت إلى وكيع سوء حفظي فأرشدني إلى ترك المعاصي
    وأخبـرنـي أن العلم نـور ونـور الله لا يهدى لعاص
    لكن الزركشي – رحمه الله – خالف هذا , فقال [ وأما قول الله تعالى " واتقوا الله ويعلمكم الله " فظن بعض الناس أن التقوى سبب التعليم , والمحققون على منع ذلك ؛ لأنه لم يربط الفعل الثاني بالأول ربط الجزاء بالشرط , فلم يقل " واتقوا الله يعلمكم الله " ولا قال " فيعلمكم الله " ..... وإنما أتى بواو العطف , وليس فيه ما يقتضي أن الأول سبب للثاني , وإنما غايته الاقتران والتلازم , كما يقال : زرني وأزورك , وسلم علينا ونسلم عليك ... ونحوه مما يقتضي اقتران الفعلين , والتقارض من الطرفين , كما لو قال عبد لسيده : اعتقني ولك عليّ ألف , أو قالت امرأة لزوجها : طلقني ولك ألف , فإن ذلك بمنزلة قولها : بألف , أو على ألف .
    وحينئذ يكون متى علّم الله العلم النافع اقترنت به التقوى بحسب ذلك , ونظير الآية قوله :
    ( فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ) (هود:123) .
    ولا أظن أن هناك خلافاً على العلم اللدني , لقوله تعالى : ( فَوَجَدَا عَبْداً مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً) (الكهف:65) .
    فالعلم الوهبي علم يورثه الله تعالى لمن عمل بما علم , وإليه الإشارة في الأثر : " من علم بما علم ورثّه الله علم ما لم يعلم ]( 178 )
    هذا ....وإن كان العلم الوهبي لا يختلف عليه أحد إلا أن سياق الآية في شأن تعليم المسلمين الضوابط الحافظة للديون , ولا علاقة لها بالعلم اللدني .
    ولعل من أقحم هذا الأمر نظر إلى ورود قوله تعالى " ويعلمكم الله " عقب قوله تعالى : واتقوا الله " وهذا بعيد – كما أرى - .

    أما جملة ":" والله بكل شيء عليم "
    فقد ختمت بها الآية , وهي مكونة من مبتدأ وخبر , ووضع بينهما الجار والمجرور " بكل شيء " لأن ما سبق كان تعليماً للمسلمين قواعد , وأصول الضبط , فأحاط المبتدأ والخبر ( الله عليم ) بكل شيء يتعلق بالديون ,
    وقدم الجار والمجرور على الخبر لأن الآية في شأن التعليم والتوجيه ووضع الضوابط فقدم كل ذلك على الخبر , ولو كان السياق في تمجيد الله تعالى لقيل : " والله عليم بكل شيء .
    وهذا الختام تذكير للمسلمين بأن ما وضعه الله تعالى من ضوابط إنما جاء من علم محيط بما قد ينشأ في النفوس من ريب عند ترك هذه الضوابط , أو مخالفتها مما يحتم عليهم الأخذ بها والإذعان لكل جزئياتها .




    *******
    يـــــــــــــــــــتبـــــــــــــــع

  4. #14
    تاريخ التسجيل
    Dec 2005
    المشاركات
    175
    آخر نشاط
    07-03-2016
    على الساعة
    02:43 AM

    افتراضي

    الفصل الرابع
    الإيقاع داخل الآية



















    لا شك أن روافد الجمال والبلاغة في اللغة العربية كثيرة , ومن أعلاها : تآلفها الصوتي , وانسجام حروفها وكلماتها وجملها في منظومة تجعل من الكلام وجبة متفاعلة العناصر متآلفة الأجزاء ؛ ولذلك كان الشعر ذا مكانة عالية عند العرب ؛ لما يفيض به من موسيقي ونغم .
    لكن الذي ينبغي الالتفات إليه عند ملاحظة هذه النغمات وتلك التوافقات الموسيقية ، هو ملاحظة العلاقة بينها وبين الغرض العام ؛ ولذلك يقول أستاذنا محمود توفيق
    : "إن العربية في أي أفق من أفاق البيان بها هي لغة الإيقاع المتجدد " ( 179 ) .
    والنغم في اللغة ينبعث من عدة مصادر .. ويجمعها طريقان :
    الأول : النغم الصوتي .
    والآخر : النغم المعنوي .
    ففي النغم الصوتي : تأتيك الموسيقي من خلال أصوات الحروف والحركات داخل الكلمة ، ومن اختيار الكلمات واصطفاء موقعها داخل الجملة ، كما يأتي من حجم الكلمة والختام بها في الفاصلة.
    أما النغم المعنوي : فيأتي من التقابل ، والتناظر ، والتوازن ، والتكافؤ , ورد العجز على الصدر , ومراعاة النظير ....... إلى آخر ذلك من علاقات المعاني , ويجمع كل ذلك [ الانسجام ] ( 180 )

    والآن فلنحاول أن نرهف السمع إلى ما يبدو من تلك النغمات

    إن البداية تبدو في حجم الجملة داخل الآية , فالجملة العربية وحدة صوتية كبيرة , لها ما يميزها من إيقاع نغمي , وطول هذه النغمة أو قصرها لا شك له دلالته , أو ينبغي أن يكون له دلالته .
    ومجموع الجمل في الآية ثلاثٌ وعشرون جملة .
    أربع منها طويلة ممتدة , وإحدى عشرة جملة متوسطة الطول , وثماني جمل قصيرة .
    وعليه , فالكثرة الكاثرة للجمل المتوسطة والقصيرة , من نحو ( فليكتب ) , ( وليملل الذي عليه الحق ) ( وليتق الله ربه ) .
    وهي نغمات تشعرك بالحدة , والحسم , وسرعة اللهجة وعلو الصوت , وكأنها أمور لا تحتمل النقاش أو التأجيل , أو النظر , وهذا يصب في دائرة الإلزام بالكتابة , فالقضية متعلقة بالحقوق من جهة , وبوحدة الصف من جهة أخرى , وهذه قضايا لا تهاون فيها, لذا كانت النبرة عالية وسريعة .
    أما من حيث الحروف :
    فإن الحروف الثلاثة [ الكاف , والتاء , والباء ] في لفظ [ كتب] هي النغمة الشائعة في الآية .
    واسمع إلى ذلك :
    [ فاكتبوه – وليكتب – كاتب – كاتب – يكتب – فليكتب – تكتبوه – تكتبوها – كاتب - ] .
    فهي نغمة لا تكاد تنقطع عن الأذن , ولا ينفك القارئ منها حتى ينتهي من الآية , وهي نغمة موزعة في جنبات الآية من أولها إلى آخرها ؛ فلا يكاد القارئ يسمعها إلا وتعاوده مرة أخرى ؛ لتشيع هذا الجو من الحفظ , والضمان الموجود في دلالتها .
    ودلالة هذه الكلمة في اللغة تفيد [ جمع الشيء إلى الشيء ] .
    فإذا جمع كل ذلك من النغمات التي ختمت بها الجمل والفواصل لَتَبيَّن ما في الآية من دقَّات عالية الصوت , وكأنها دقات إنذار وتحذير عالي اللهجة من خوض هذا المعترك الخطر , أعني : معترك الديون , ولنسمع سوياً إلى ختام هذه النغمات , أو الجمل والحظ معي آخر كل جملة وخلوها من الامتداد الصوتي او كما يقول الموسيقيون _ القفلات الحادة _ , لنسمع :

    وليكتب بينكم كاتب بالعدل .
    فليكتب وليملل الذي عليه الحق .
    وليتق الله ربه .
    واستشهدوا شهيدين من رجالكم .
    ذلكم أقسط عند الله .
    وأقوم للشهادة .
    وأشهدوا إذا تبايعتم .
    وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم .
    واتقوا الله .
    ويعلمكم الله .
    إن هذه النهايات المبنية على كلمات خالية من المد تُشعر بهذا الحزم , والحسم , والقطع ؛ لأن الشائع في القرآن الكريم ختمُ الآيات والجمل بكلمة فيها حرف مد في الآخر , أو قبل الآخر نحو :
    ( وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى) (الضحى1 – 2 ) أو نحو :
    ( قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ) (المؤمنون1 – 2) وهذا الامتداد الصوتي له وقع نغمي ممتد , وكل نغمة تناسب الغرض الذي سيقت من أجله , لكن الذي عليه الحال هنا – في آية الدين – يختلف , وقد لاحظتَ هذا في نحو : [ بالعدل – الحق – رجالكم – أجله – ربه – تبايعتم – بكم ] .
    تلك بعض نهايات الجمل داخل الآية , وهي بلا شك تتوافق مع غرضها العام الداعي إلى ضمان الحقوق , وحفظها , وأخذ المواثيق عليها , وتوعُّد المخالف .

    كما أن من روافد النغم في الآية هذه التقابلات بين الألفاظ والجمل .
    ففي الألفاظ يُلحظ الطباق بين [ رجل وامرأتان ] , [ وإحداهما والأخرى ] , [ وصغيراً أو كبيراً ] , وكذا بين [ أن تضل - وتُذكر ] , وفي المقابلة تلحظ أيضاً هذه النماذج :
    مثل المقابلة بين جملتي : [ لا يستطيع أن يُمل هو ] و [ فليملل الذي عليه الحق ] , وبين جملتي [ أن تضل إحداهما ] و [ فتذكر إحداهما الأخرى ] , وبين جملتي [ يأبى الشهداء ] و [ إذا ما دعوا ] وبين جملتي : [ ولا يضار كاتب ولا شهيد ] و [ إن تفعلوا ] . حيث يفهم منها المضارة .
    وهذه التقابلات بين الجمل والمفردات تعمق المعاني المسكوت عنها في الآية ؛ فالآية تضع ضوابط لمنع الخلاف بين المسلمين , وهذا يعني أن النفوس على شفا هذه الهاوية ؛ فهي إذاً في وضع متقابل , أو تكاد , ومن ثم جيء بالمعاني لتصور هذا الوضع القائم بين الأطراف , ولترسم طبيعته المضادة في شأن الأموال , والتي من أجلها جاءت الآية لتطمئن , ولتضع الروابط بين هذه المتنافرات ؛ حتى لا يؤدي التعامل بالديون إلى المحذور , وهو الخلاف والشقاق .

    كما أن من روافد النغم في الآية مراعاة النظير :
    حيث جمع مع الكلمة الأم – وهي كلمة( الكتابة) جُمعَ معها بعض الألفاظ التي تمُتُّ بالصلة إلى أسرتها الدلالية ؛ وذلك نحو : [ علمه - يملل – تضل - تذكر – أقْوَم – يعلمكم – عليم ] .
    فكل هذه كلمات ذات وشائج , وروابط لا تخفى , وهذا يعني أن أسرة كلمة ( الكتابة ) جاءت لتضيف إلى المعنى المفهوم منها قوة وتأصيلاً ؛ إذ ليس التوثيق عارضاً , أو ثانوياً , بل هو هدف حُشدت له الألفاظ والتراكيب والصور .

  5. #15
    تاريخ التسجيل
    Mar 2005
    المشاركات
    14,298
    الدين
    الإسلام
    آخر نشاط
    07-06-2019
    على الساعة
    06:45 PM

    افتراضي

    مرور شكر ومتابعة
    إن كان سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ليس رسول الله لمدة 23 عاماً .. فلماذا لم يعاقبه معبود الكنيسة ؟
    .
    والنَّبيُّ (الكاذب) والكاهنُ وكُلُّ مَنْ يقولُ: هذا وَحيُ الرّبِّ، أُعاقِبُهُ هوَ وأهلُ بَيتِهِ *
    وأُلْحِقُ بِكُم عارًا أبديُا وخزْيًا دائِمًا لن يُنْسى
    (ارميا 23:-40-34)
    وأيُّ نبيٍّ تكلَّمَ باَسْمي كلامًا زائدًا لم آمُرْهُ بهِ، أو تكلَّمَ باَسْمِ آلهةٍ أُخرى، فجزاؤُهُ القَتْلُ(تث 18:20)
    .
    .
    الموسوعة المسيحية العربية *** من كتب هذه الأسفار *** موسوعة رد الشبهات ***

  6. #16
    تاريخ التسجيل
    Dec 2005
    المشاركات
    175
    آخر نشاط
    07-03-2016
    على الساعة
    02:43 AM

    افتراضي

    الفصل الخامس
    إعادة التركيب



















    بعد هذا التحليل , وبعد الوقوف أمام العناصر بأشكالها المختلفة ؛ من كلمات وجمل , وتراكيب , وصور , وعلاقة كل ذلك بالغرض العام , والسياق الكلي , والجزئي , وبعد رؤية النص من خلال السورة , وموقعه , وعلاقاته المتشابكة , ونغماته , وربط كل ذلك بغرض الآية الكلي .....
    بعد كل هذا يبقى إعادة جمع هذه العناصر من منظور آخر ؛ ليكتمل المنهج الكلي .
    وذلك بالنظر إلى الأسلوب الذي بنيت عليه هذه الآية : أعني الأسلوب الأعلى , والأكثر شيوعاً , والذي هو عمود الآية ومحورها , ثم النظر إلى علاقات الأساليب الأخرى به , وكيف
    انعطفت عليه انعطاف الفرع على الأصل , وكيف دارت في فلكه , وتجمعت حوله ؟
    والذي لا يخفى بعد التحليل أن الأسلوب المهيمن على الآية هو :
    [ الأمر بالكتابة ] .
    فهو عمود الآية , وقطب رحاها , ومحور بنيانها ؛ فإنك تلحظه صريحاً ومفهوماً .
    فهو مثلاً صريح في نحو :
    • إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه .
    • وليكتب بينكم كاتب بالعدل .
    • ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله .
    • فليكتب .
    • ولا تسأموا أن تكتبوه .
    • فليس عليكم جناح ألا تكتبوها .

    وهو مفهوم في نحو :
    • وليملل الذي عليه الحق ؛ لأن الإملال للكتابة .
    • واستشهدوا شهيدين من رجالكم ؛ أي : على المكتوب .
    • ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا ؛ أي : إلى توثيق الكتابة ...... وغير ذلك كثير .
    أما الأساليب وعلاقاتها بأسلوب الأمر بالكتابة فتتضح فيما يلي :
    1 – بين النداء والأمر : " يا أيها الذين آمنوا ..... فاكتبوه ... "
    فعلاقة الأمر بالنداء جد وثيقة ؛ إذ إن الأمر بعد النداء من مظاهر العظمة , كما قال الإمام في آية : " ( وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ) (هود:44)
    يقول : [ ومعلوم أن مبدأ العظمة في أن نوديت الأرض ثم أمرت . ] ( 181 ).
    ذلك لأن النداء توطئة للأمر , وفتح للعقول , حتى تستقبله استقبال المتوثب للامتثال , فهو في الأصل تنبيه .
    2 – بين الشرط والأمر :
    وكلاهما قيد ولكن الملاحظ أن أسلوب الشرط في الآية قد اقترن بأسلوب الأمر في أكثر من موضع
    نحو : " إذا تداينتم ... فاكتبوه ." ونحو : " فإن كان الذي عليه الحق سفيهاًً ... فليملل . "
    ونحو : " وأشهدوا إذا تبايعتم " .
    وكأن هناك صلة رحم بين كل منهما , وامتزاج ؛ مما أباح تقديم كل منهما على الآخر , مع أن الأصل تقدم الشرط .
    3 – بين الأسلوب الخبري والأمر :
    تكاد تكون أساليب الخبر في الآية استرواحاً بعد الأوامر , أو استنهاضاً للهمم , لِتُواصل سماع التكاليف من جديد , بعد الأوامر في : " واستشهدوا ... "
    والأمر المفهوم من النهي في : " ولا تسأموا أن تكتبوه .. " حيث قيل :
    " ذلكم أقسط عند الله وأقوم للشهادة وأدنى ألا ترتابوا ... "
    فكأن الإخبار بذلك لقبول الأمر أيضاً .
    4 – بين الأمر والنهي :
    إن أسلوب النهي هو الوجه الآخر لأسلوب الأمر – غالباً - ؛ فالنهي عن شيء أمرٌ بضده , أو العكس في الغالب ؛ فقوله : " ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله .. " نهيٌ أريد به الأمر ؛ أي : فليكتب كما علمه الله .
    والنهي في قوله : " ولا يبخس منه شيئاً " : أمرٌ بالوفاء , كانه قيل له : لتكتبه كاملاً .
    والنهي في قوله : " ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا .. " أمرٌ بتلبية الدعوة ؛ كأنه قيل : وليلبِّ الشهداء الدعوة .
    والنهي في قوله : " ولا يضارّ كاتب ولا شهيد .. " : أمرٌ بضده , والمعنى : أحسنوا إلى الكاتب والشهيد ... وهكذا .
    ومن هنا تتبين علاقة الأساليب بأسلوب الأمر , وأنها تتصل به من خلال السياق اتصالاً وثيقاً؛ لتكوّن في الختام منظومةً واحدة دافعة إلى اتجاه واحد وهو حفظ الحقوق , وإغلاق أبواب الشقاق قبل أن تفتح ....

  7. #17
    تاريخ التسجيل
    Dec 2005
    المشاركات
    175
    آخر نشاط
    07-03-2016
    على الساعة
    02:43 AM

    افتراضي

    الفصل السادس
    ما ورد من أحاديث في شأن الديون

    هذه مجموعة من الأحاديث النبوية , وكلام السلف الصالح في شأن الديون , تضع أمام القارئ صورة جلية لموقف الإسلام من الديون , وتبرز له مقدار الحرج الذي يلحق صاحبه , وهي بهذا تصب في ذات الهدف الذي جاءت الآية لترسخه في قلوب المؤمنين ,فهي أحاديث تحذر تارة ’ وتضيق تارة أخرى , وتتوعد تارة ثالثة , وما كل ذلك إلا محاذير وعوائق أمام هذا الضرب من المعاملات الذي – وإن كان مباحاً لكنه ينبغي أن يكون في أضيق الحدود وسوف أعرض هنا جزءا من هذه الأحاديث لتأكيد ما دلت عليه الآية الكريمة .



    " عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه ـ قال : كنا جلوساً عند النبي صلي الله عليه وسلم ؛ إذ أتي بجنازة ،فقالوا : صلِّ عليها ، فقال : هل عليه دين ؟ قالوا : لا، قال :فهل ترك شيئاً ؟ قالوا : لا ، فصلَّي عليه .
    ثم أتي بجنازة أخري فقالوا : يا رسول الله صل ِّ عليها ، قال: هل عليه دين ؟ قيل :نعم، قال : فهل ترك شيئاً ؟ قالوا : ثلاث دنانير ،فصلي عليه .
    ثم أتي بجنازة ثالثة فقالوا : صلِّ عليها ، قال : هل ترك شيئاً ؟ قالوا : لا , فقال : فهل عليه دين ؟ قالوا : ثلاثة دنانير ، قال : صلوا علي صاحبكم ، قال أبو قتادة : صلِّ عليها يا رسول الله ، وعلي دينه ، فصلي عليه " ( 182 ) .

    وعن محمد بن جحش قال : كنا جلوساً عند رسول الله صلي الله عليه وسلم ، فرفع رأسه إلي السماء ثم وضع راحته علي جبهته ، ثم قال : سبحان الله ماذا نزل من التشديد ؟! فسكتنا وفزعنا ، فلما كان من الغد ،سألته يا رسول الله ، ما هذا التشديد الذي نزل ؟ فقال : "والذي نفسي بيده لو أن رجلاً قتل في سبيل الله ثم أحيي ثم قتل ،ثم أحيي ثم قتل وعليه دين ما دخل الجنة حتى يقضي عنه دينه " ( 183 ) .

    وعن أبي هريرة أن الرسول صلي الله عليه وسلم قال : نفس المؤمن معلقةٌ ما كان عليه دين " ( 148 ) .

    " وعن أبي قتادة أنه قال : جاء رجل إلي النبي صلي الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، إنْ قتلت في سبيل الله صابراً محتسباً مقبلاً غير مدبر ، أيكفر الله عني خطاياي ؟! فقال رسول الله صلي الله عليه وسلم : نعم ، فلما أدبر الرجل ناداه فقال له : كيف قلت ، فأعاد عليه قوله فقال له النبي صلي الله عليه وسلم : نعم إلا الدين ، كذلك قال لي جبريل " (185 )

    وعن أبي طلحة أنه قال : كنت أسمع رسول الله كثيراً يقول : اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن ،والعجز والكسل ،والجبن والبخل ، وضلع الدين وغلبة الرجال " ( 186 ) .

    وعن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله قال:" يُغفر للشهيد كل ذنب إلا الدين" ( 187 )
    وعن أبي سعيد الخدري قال : سمعت رسول الله صلي الله عليه وسلم يقول : " أعوذ بالله من الكفر والدين " ، قال رجل : يا رسول الله : أتعدل الدين بالكفر ؟! فقال رسول الله صلي الله عليه وسلم " نعم " ( 188 ) .

    وعن ثوبان مولي رسول الله صلي الله عليه وسلم أنه قال : " من فارق الروح الجسد وهو برئ من ثلاث دخل الجنة : من الكبر ، والغلول ، والدين " ( 189 ) .

    وعن عمر ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله صلي الله عليه وسلم : " من مات وعليه دينار أو درهم قُضي من حسناته ؛ ليس ثمَّ دينا أو درهم " ( 190 ) .

    وعن صُهيب الخير أن رسول الله قال : " أيما رجل يدين ديناً ، وهو مُجْمِعٌ علي ألا يوفيه إياه لقي الله سارقاً " ( 191 ) .

    وعن سعيد بن الطوال أن أخاه مات وترك ثلاثمائة درهم ، وترك عيالاً ، فأردت أن أنفقها علي عياله ، فقال النبي صلي الله عليه وسلم : " إن أخاك محتبس بدَيْنِه ،فاقض عنه " فقلت يا رسول الله قد أديت عنه إلا دينارين ادعتهما امرأة , وليس لها بينة , قال : فأعطها فإنها محقة " ( 192 ) .

    وعن عائشة أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أكثر ما يتعوذ من المأثم , والمغرم , قلت : يا رسول الله ما أكثر ما تتعوذ من المغرم ؟
    قال إنه من غرم حدَّث فكذب , ووعد فأخلف " ( 193 ) .
    وروى الطحاوي , وأبو جعفر , والحارث عن أسامة في مسنده عن عقبة بن عامر أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال : " لا تخيفا الأنفس بعد أمنها , قالوا : يا رسول الله وما ذاك ؟
    قال : الدَّيْن "

    وقال – صلى الله عليه وسلم - : الدَّيْن شِيْن " .

    ورُوي عنه أنه قال : " الدَّين هم بالليل ومذلة بالنهار " .

    قال علماؤنا : وإنما كان شيناً ومذلة لما فيه من شغل القلب والبال , والهم اللازم في قضائه , والتذلل للغريم عند انقضائه , وتحمل منّته بالتأخير على حين أوانه , وربما بعد من نفسه القضاء فيحلف , أو يُحدّث الغريم بسببه فيكذب , أو يحلف له فيحنث .....إلى غير ذلك . .
    ولهذا يتعوذ منه النبي – صلى الله عليه وسلم - , وكل هذه الأسباب مشائن في الدَّيْن ] ( 194)

    وعن عمر بن الخطاب أنه قال : " إياكم والدين ؛ فإن أوله هم , وآخره حرب " ( 195)

    وعن أبي موسى الأشعري , عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أنه قال : إن أعظم الذنوب عند الله تعالى أن يلقاه بها عبد – بعد الكبائر التي نهى الله عنها – أن يموت رجل وعليه دين لا يدع له قضاءً " ( 196 ) .

    وعن مالك بن يحيي بن سعيد أنه بلغه أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – كان يدعو فيقول : " اللهم فالق الإصباح , وجاعل الليل سكناً , والشمس والقمر حسباناً , اقض عني الدين , وأغنني من الفقر , وأمتعني بسمعي , وبصري ,وقوتي في سبيلك "( 197 )

    وعن أبي هريره رضي الله عنه , أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه , ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله " ( 198 )







    الخاتمة

    الحمد لله خير ما بدئ به الكلام وختم , سبحانه ! لا منتهى لعطاياه ومنحه , أحمده حمداً يقوم بالواجب من شكره , ويحسن به التخلص من هوى النفس , وتسلط الشياطين , إلى حسن الختام , وأصلي , وأسلم على خير الأنام – سيدنا محمد خير من دعا إلى الله على بصيرة , وتركنا على شريعة واضحة منيرة , وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له , الذي أحسن ابتداء خلقنا بصنعته , وشرع لنا ما ينفعنا بحكمته , وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله , وهدايته إلى خلقه ورحمته ....... أما بعد :
    فإن دارس العلم لا يعيش بمعزل عن مجتمعه , لأن العلم وُجد لينفع , ونعوذ بالله من علم لا ينفع ...
    وإن من شأن أي مجتمع كثير الأفراد , متعدد الطبقات أن يعج بالكثير من المشاكل , والأمراض الاجتماعية , وإن من أخطر هذه المشاكل – في نظري اليوم – قضية الديون , والقروض التي أحاطت بالناس – وبخاصة الشباب – فقد أريد لهؤلاء الفتية أن يقترضوا , وفتحت لهم الأبواب على مصراعيها قصدا لأخذ القروض ليس تيسيراً عليهم كما يُدَّعَى , ولكن لإدخالهم في دائرة لا يخرجون منها حتى تشيب منهم النواصي , والعلة الجاهزة للرد على المحذرين هي أن القرض شيء مباح في الإسلام , لذلك شمرت عن ساعد الجد في دراسة هذه الآية , لأن الأمر – في نظري – خرج من دائرة المعاملات إلى دائرة القضايا الاجتماعية التي تؤثر بالسلب على المجتمع , وتشيع فيه روح المذلة , والخضوع , والانشغال بالديون وسدادها عما يدور حولهم من مشكلات تنال من دينهم قبل أن تنال من وطنهم .
    ولقد أًصبح شبابنا اليوم أسيراً لهذا الغول الذي انتشر في المجتمع , ولا يكاد يخلو بيت منه .
    فإذا أضفنا إلى ذلك الربا الذي ألحق بهذه المعاملات , والتي تسمى فوائد القرض رأينا أنفسنا أمام مخطط لإلهاء الناس , وإخضاعهم , بل واستعمارهم , ومن لم يأخذ دينا وضعت أمامه كماليات الدنيا يحوذ منها ما يشاء مع تقسيط ثمنها على فترات متباعدة , وهذا ضرب من الديون الخفية التي لا يكاد يسلم منها أحد.
    وإذا تتبعت المشاكل اليومية , والقضايا المرفوعة أمام المحاكم لعلمت أن أكثرها يرجع إلى هذا الأمر , حتى تحللت عُرى المجتمع , وانتقض غزله , وذهبت قوته في خلافات ترجع كلها إلى الديون .
    لذلك كله , ولغيره أيضاً جعلت هذه القضية محل بحثي في ضوء آية الدين , وهي آية جامعة مانعة , فتناولتها من الوجهة اللاغية التحليلية , لبيان منهج الله تعالى في شأن الديون , وعلاقة ذلك بما يفعله الناس , ولقد وددت من خلال هذه الدراسة أن أصرخ في الناس لينتبهوا إلى خطورة ما هم واقعون فيه .
    ولقد تناولت في بحثي آية الدين من عدة محاور :
    أظهرت في البداية موضع الآية من خلال سورة البقرة , وأنها جاءت بعد تمهيد للنفوس بالإيمان ؛ لتتلقى الأوامر بالقبول .
    ثم أظهرت علاقة الآية بمقصود السورة الأعظم , وهو - كما تبين لي – الإيمان بالغيب فهو الباعث والمحرض على الالتزام والقبول بكل التكاليف .
    ثم تناولت السياق الخاص العام والخاص للآية , فالآية تدور في فلك الضوابط التي تحفظ المجتمع من الانهيار اقتصادياً, وتضمن له القوة الحامية للعقيدة الصافية .
    ثم تناولت وجه الطول لهذه الآية وكشفت عن أن هذا الطول ما هو إلا إشارة إلى المشاق التي تكتنف هذه المعاملات , لذلك مزجتْ الآية بين التكليف والباعث عليه :
    فالتكليف مثل : ( فاكتبوه _ واستشهدوا ) .
    والباعث والمحرض مثل : ( كما علمه الله - وليتق الله ربه ....إلخ ) .
    ثم قمت بتحليل الآية جملةً جملة , وكلمةً كلمة , ووضعت لكل جملة أو تركيب عنواناً يبرز أهم ما في التركيب من أسلوب بلاغي , وأظهرت من خلال هذا التحليل أن هناك خيطاً يسلك كل لفظة , وكل جملة , وكل أسلوب , ولا يضيع هذا الخيط من اليد أبداً بداية من أول الآية وحتى ختامها .
    وهذا الخيط هو
    التضييق , والتشديد , ووضع القيود على الديون لتنفير الناس منها , ووضعها في أضيق الحدود ؛ حتى لا تشيع في المجتمع المسلم .....
    ثم بعد هذا التحليل حاولت الوقوف على ما في الآية من نغمات , وبينت علاقة هذه النغمات بالغرض الذي تهدف إليه الآية , وأن هذه النغمات رافد مهم من روافد المعنى , وخيط بارز من خيوط النسيج داخل الآية .
    وبعد هذا التحليل أعدت النظر مرة أخرى إلى ما تم فكه من أساليب وألفاظ , وظهر من خلال ذلك أن أسلوب الأمر بالكتابة هو الأسلوب المهيمن على الآية إذ به يتم التوثيق , وتحفظ الحقوق , وأن الأساليب الأخرى تدور في فلكه وتساعده على إظهار المقصود .
    ثم أردفت هذا كله بذكر بعض الأحاديث النبوية التي لا تبعد عن مقصود الآية , بل تبرز خطورته على المسلم في حياته , وبعد مماته .
    ففي الحياة يدفعه الدين إلى الكذب وإخلاف الوعد , والهم , والذل ... إلخ
    وبعد الموت – إن مات وعليه دين – حجزه الدين عن الجنة .
    فالآية والأحاديث في الختام يرفعان إشارات التحذير لأمة غارقة في الديون ؛ لتعود إلى رشدها , وتسلك منهج ربها , إن أرادت لنفسها العزة والكرامة .


    هذا , وصلى الله علي سيدنا محمد , وعلى آله وصحبه أجمعين , والحمد لله رب العالمين .
    وكتبه :
    الفقير إلى عفو ربه
    سعيد أحمد جمعة
    28 من رجب 1426 هـ

صفحة 2 من 2 الأولىالأولى 1 2

البلاغة العالية في آية المداينة .....دكتور سعيد جمعة الأستاذ المساعد في جامعة الأزهر

معلومات الموضوع

الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع

الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)

المواضيع المتشابهه

  1. كيف نجعل قلوبنا بحراً من العطاء والأخلاق العالية
    بواسطة أمـــة الله في المنتدى منتدى الأسرة والمجتمع
    مشاركات: 5
    آخر مشاركة: 30-12-2008, 04:23 PM
  2. دكتور علم مقارنة الاديان في جامعة فلوريدا ستيت يعتنق الاسلام
    بواسطة فاضح النصارى في المنتدى منتدى قصص المسلمين الجدد
    مشاركات: 3
    آخر مشاركة: 20-08-2008, 06:52 AM
  3. مناظرة وسام مع الأنبا رفائيل الاسقف المساعد لوسط القاهرة هليوبوليس المساعد للبابا
    بواسطة دفاع في المنتدى منتديات محبي الشيخ وسام عبد الله
    مشاركات: 1
    آخر مشاركة: 16-04-2008, 03:16 AM
  4. اسمعوا نهج البلاغة !
    بواسطة ismael-y في المنتدى منتدى نصرانيات
    مشاركات: 3
    آخر مشاركة: 27-01-2007, 04:05 AM

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

المفضلات

المفضلات

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •  

البلاغة العالية في آية المداينة .....دكتور سعيد جمعة الأستاذ المساعد في جامعة الأزهر

البلاغة العالية في آية المداينة .....دكتور سعيد جمعة  الأستاذ المساعد في جامعة الأزهر