ولعل القارئ الكريم أدرك من خلال قراءته لمبدأ عدم التأكد أن التنبؤ الدقيق مستحيل في مستوى العنصر الذري ؛ لأن اللاتعيين الذي أظهرتنا عليه الفيزياء الجديدة لا بد أن يفضى بنا إلى قوانين احتمالية[1] ،ولم يعد باستطاعة الفيزيائيين أن يعطوا توصيفاً حتمياً للأحداث الذرية بل تنبؤات احتمالية ،وفي هذا كسر للغرور العلمي ،ورد مفحم على من يدعي أن المعرفة البشرية قادرة على التنبؤ الدقيق بمصير الكون من الذرة إلى المجرة فما أوتي البشر من العلم إلا القليل .

ولعل القارئ الكريم أدرك اللامنطقية عند الملاحدة هداهم الله عندما أدعوا بأن مبدأ عدم التأكد يلغي السببية فما دخل تحديد موقع الإلكترون وكمية حركته بدقة في نفس الوقت بالسببية ؟!! و ما دخل التنبؤ الدقيق بسلوك الإلكترون في المستقبل بالسببية ؟!!!!!

والملاحدة هداهم الله قد خلطوا بين السببية و الحتمية الصارمة المطلقة المتطرفة ،والسببية معناها أن أي نتيجة لها سبب لكن الحتمية الصارمة أو الحتمية المتطرفة معناها أن نفس السبب يؤدي حتما إلى نفس النتيجة ، ولا يمكن أن تتخلف هذه النتيجة ولو تكرر السبب آلاف المرات أي السبب المعين يؤدي حتما إلى نتيجة معينة لا يمكن أن تتخلف ولا يمكن أن يؤدي إلى نتيجة مختلفة ولو تكرر السبب آلاف المرات ،ولذلك فالحتمية المتطرفة مخالفة لجميع الشرائع السماوية و مخالفة للواقع ومخالفة للعلم .

و دعني أعطيك أمثلة من الواقع فأنت تعلم أن المذاكرة بجد سبب للنجاح لكن هناك من ذاكروا بجد و لم ينجحوا ،وتعلم أن حمل المرأة سببه وطء الرجل زوجته لكن كم من رجل وطء امرأته ولم يحدث حمل ،وتعلم أن الأكل سبب للشبع لكن هناك من يأكل و لا يشبع ،وتعلم أن شرب الماء سبب للارتواء لكن هناك من يشرب الماء ولا يرتوي ،وتعلم أن أخذ الدواء المعين سبب للشفاء من المرض المعين لكن هناك من يتناول الدواء المناسب لعلاج مرضه ولا يشفى .

وها هو مبدأ عدم التأكد يرفض الحتمية المتطرفة و التي ترفضها الشرائع السماوية فأصبح هذا المبدأ يرفض ما رفضته تعاليم الشرائع السماوية .

ويكفي أن يعلم القارئ الكريم أن السبب وإن كان صحيحاً وتاماً في نظرنا فليس من المحتم أن يستوجب مسببه أو نتيجته فقد توجد موانع تؤدي إلى تخلف النتيجة .

قال ابن تيمية – رحمه الله - : ( ومجرد الأسباب لا يوجب حصول المسبب؛ فإن المطر إذا نزل وبذر الحب لم يكن ذلك كافيا في حصول النبات بل لا بد من ريح مربية بإذن الله ولا بد من صرف الانتفاء عنه؛ فلا بد من تمام الشروط وزوال الموانع وكل ذلك بقضاء الله وقدره وكذلك الولد لا يولد بمجرد إنزال الماء في الفرج بل كم من أنزل ولم يولد له؛ بل لا بد من أن الله شاء خلقه فتحبل المرأة وتربيه في الرحم وسائر ما يتم به خلقه من الشروط وزوال الموانع )[2].

وليعلم القارئ الكريم أن نقض الحتمية الصارمة لا يستلزم نقض السببية ،و أن لكل حدث محدِث أو لكل فعل فاعل بل غاية ما في الأمر عدم القدرة على التنبؤ الدقيق بسلوك الجسيمات في العالم الذري وتحت الذري في المستقبل ،ولا نخلط بين السببية و التنبؤ بالنتيجة الناشئة عن السبب ،و لا نخلط بين سبب الظاهرة الطبيعية والتنبؤ بنتيجة الظاهرة و بعبارة أخرى لا نخلط بين الجزم بوجود فاعل للحدث و بين توقع وقوع الحدث على نحو معين .

والخطأ الذي وقع فيه الملاحدة أنهم خلطوا بين السببية والتنبؤ بالنتيجة الناشئة عن السبب فقرروا أن مادام التنبؤ احتمالي فالسببية احتمالية ،و لا يخفي على كل ذي عقل أن كون الذي يذاكر ينجح أو لا ينجح لا يمنع ذلك من القول بأن النجاح سببه المذاكرة ،وكون لقاء الرجل بزوجته قد ينتج عنه حمل وقد لا ينتج لا يمنع ذلك من القول بأن حمل المرأة سببه لقاء الرجل بزوجته ،وكون انتقال عدوى ميكروبية إلى شخص قد يمرضه و قد لا يمرضه لا يمنع ذلك من القول أن المرض المعدي سببه انتقال العدوي الميكروبية إلى الشخص المريض .

وليعلم القارئ أن احتمال أن يوجد هذا الحدث أو ذاك لا يمنع من وجود فاعل للحدث .

وكون الإلكترون وجد بعد أن لم يكن موجودا فلابد أن يكون له موجِد حسب مبدأ السببية ،وكون الإلكترون محكوم بقوانين ،وإن كانت حسب معطيات العلم الحديث قوانين احتمالية فلابد أن يكون لهذه القوانين مقنن ومسنن حسب مبدأ السببية .

هذا و الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات



[1] - مشكلة الحرية للدكتور زكريا إبراهيم ص 104 -105

[2] - مجموع الفتاوى لابن تيمية 8/70