كتاب ( أدب الاختلاف في الإسلام ) للدكتور طه جابر فياض العلواني

آخـــر الـــمـــشـــاركــــات


مـواقـع شـقــيـقـة
شبكة الفرقان الإسلامية شبكة سبيل الإسلام شبكة كلمة سواء الدعوية منتديات حراس العقيدة
البشارة الإسلامية منتديات طريق الإيمان منتدى التوحيد مكتبة المهتدون
موقع الشيخ احمد ديدات تليفزيون الحقيقة شبكة برسوميات شبكة المسيح كلمة الله
غرفة الحوار الإسلامي المسيحي مكافح الشبهات شبكة الحقيقة الإسلامية موقع بشارة المسيح
شبكة البهائية فى الميزان شبكة الأحمدية فى الميزان مركز براهين شبكة ضد الإلحاد

يرجى عدم تناول موضوعات سياسية حتى لا تتعرض العضوية للحظر

 

       

         

 

 

 

    

 

كتاب ( أدب الاختلاف في الإسلام ) للدكتور طه جابر فياض العلواني

صفحة 2 من 2 الأولىالأولى 1 2
النتائج 11 إلى 20 من 20

الموضوع: كتاب ( أدب الاختلاف في الإسلام ) للدكتور طه جابر فياض العلواني

  1. #11
    تاريخ التسجيل
    Apr 2005
    المشاركات
    153
    آخر نشاط
    07-05-2013
    على الساعة
    09:42 PM

    افتراضي

    أثر الخلاف السياسي في الاختلافات الاعتقادية والفقهية
    من الأمور التي لا بد أن نشير إليها أن ما ذكرناه من اختلافات كان شأن جماهير الأمة وغالبيتها العظمى، حيث لا تتعدى الاختلافات القضايا الفقهية التي تضمحل وتزول حين يُحتكم إلى النصوص التي تعلو الشبهات من كتاب وسنة فيذعن الجميع للحق في ظل أدب نبوي كريم، لأن سبب الخلاف لا يعدو أن يكون ـ كما قلنا ـ عَدَمَ وصول سنة في الأمر لأحدهم ووصولها للآخر، أو اختلافاً في فهم النص أو في لفظه، ولكن هناك أمراً آخر قد استجد وهو: الاختلافات السياسية التي أعقبت فتنة مقتل الخليفة الثالث عثمان رضي الله عنه، وانتقال الخلافة إلى الكوفة ثم إلى الشام، وما تخلل ذلك من أحداث جسام، فإن تلك الأحداث قد أدخلت إلى دائرة الاختلاف أموراً أخرى كانت خارجها، وساعدت على انطواء أهل كل بلد أو مصر على ما وصلهم من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم والنظر إلى ما لدى أهل الأمصار الأخرى نظرة مختلفة متحفظة كثيراً ما تؤثر فيها ظروف التأييد السياسي أو المعارضة، واتخذ العراق بمصريه العظيمين (الكوفة والبصرة ) بيئة خصبة لتفاعل الأفكار السياسية وتعقيدها وتصديرها إلى جهات مختلفة، ففيه نشأ التشيع (65) وظهرت الجهمية(66) والمعتزلة(67)، وانتشر الخوارج(68) وجملة من أهل الأهواء والبدع. . . وبدأ وضع الحديث، وتأليف القصص ذات المغزى السياسي، ووضع المنافرات على ألسنة الناس، حتى قال الإمام مالك في الكوفة: "إنها دار الضر " (69) وقال الزهري: "يخرج الحديث من عندنا شبراً فيعود في العراق ذراعا ً" (70).

    وهذه الأمور جعلت الفقهاء العراقيين أنفسهم يتخذون من الاحتياطات ويضعون من الشروط لقبول السنن والأخبار ما لم يكن من سبقهم يلتفت إليه، وذلك حرصاً منهم على ألاّ يدخل إلى فقههم من فكر أهل الأهواء والبدع والفرق المتصارعة ما يفسد عليهم دينهم، فما بالك بغير العراقيين الذين بلغ بهم الخوف من الأخذ عن العراقيين مداه، حتى كان أهل الحجاز يرون أن حديث العراقيين أو الشاميين لا يقبل إذا لم يكن له أصل عند الحجازيين(71).

    وقيل لأحد علماء الحجاز: حديث سفيان الثوري عن منصور المعتمر، عن إبراهيم النخعي، عن علقمة النخعي، عن عبد الله بن مسعود... أي: ما رأيك في إسناد هذه سلسلته، وهو أصح إسناد لدى العراقيين؟ قال: إن لم يكن له أصل في الحجاز فلا(72).

    واتخذ العباس من ربيعة بن أبي عبد الرحمن (73) وزيراً ومستشاراً وهو مدني فاستعفاه، وعاد إلى المدينة بعد فترة قصيرة، فقيل له: كيف رأيت العراق وأهلها؟ فقال: رأيت قوماً حلالنا حرامهم، وحرامنا حلالهم، وتركت بها أكثر من أربعين ألفاً يكيدون هذا الدين!!. . . ونقل عنه قوله: كأن النبي الذي أرسل إلينا غير النبي الذي أرسل إليهم(74).

    وهذه الأقوال وإن كان المقصود بها أهل الأهواء والبدع في العراق لا أهل السنة وجماهيرهم فيه، إلاّ أن لها دلالة واضحة على بعض الأمور ذات الآثار البعيدة المدى في الحركة الفقهية، ومواقف فقهاء البلدين وطرائقهم ومناهجهم في الاستنباط.

    فأهل الحجاز يعتقدون أنهم قد ضبطوا السنّة، فلم يشذ عنهم منها شيء، فالمدينة كان فيها عشرة آلاف من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، خَلَّفَهُمْ عليه الصلاة والسلام بعد غزوة حنين، عاشوا فيها إلى وفاته. وكان عمر بن عبد العزيز يكتب إلى أهل الأمصار يعلمهم السنن والفقه، ولكنه حين يكتب إلى المدينة فإنه يكتب إليهم يسألهم عمَّا مضى وأن يُعلموه بما عندهم من السنن ليرسل بها إلى الآخرين. وكان حامل السنة وفقه الصحابة وآثارهم في المدينة سعيد بن المسيب وأصحابه الذين أخذ عنهم بعد ذلك المالكية والشافعية والحنابلة والظاهرية وغيرهم، وكان علماء المدينة ـ من التابعين ـ يرون أن السنن والآثار التي بين أيديهم كافية لتلبية الحاجة الفقهية، وأنه لا شيء يدعوهم إلى الأخذ بالرأي بكل ضروبه، على حين كان يرى بعضهم خلاف ذلك، ويأخذ بالرأي حتى عرف به وحمله لقباً، مثل: ربيعة بن أبي عبد الرحمن، شيخ مالك الذي لقب بـ "ربيعة الرأي" ولكن الكثرة الغالبة كانت لعلماء السنن والأثر.

    أما العراقيون كإبراهيم النخعي (75) وأصحابه فكانوا يرون أن نصيبهم من السنن ليس بقليل، فقد عاش بينهم من الصحابة عدد وافر جاوز الثلاثمائة، وكان كثير منهم من الفقهاء وفي مقدمتهم عبد الله بن مسعود الذي كان من أفقه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بكتاب الله، كما كان بينهم علي رضي الله عنه مدة خلافته، ، وأبو موسى الأشعرى وعمار وغيرهم.

    وكان إبراهيم النخعي ومعه معظم علماء العراق يرون أن أحكام الشرع معقولة المعنى، مشتملة على ما فيه مصالح العباد، وأنها بنيت على أصول محكمة، وعلل ضابطة لتلك المصالح والحكماء، تفهم من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، وأن الأحكام الفرعية شرعت من أجل تلك العلل، وأن الفقيه هو ذلك الذي يبحث عن علل الأحكام التي شرعت لأجلها، ويتفهم غاياتها، ليجعل الأحكام مرتبطة بعللها وجوداً وعدماً، كما كان علماء العراق يرون أن النصوص الشرعية متناهية لكن الوقائع لا تتناهى، فالنصوص قد توقفت بوفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فما لم تلاحظ علل الأحكام التي شرعت بالكتاب والسنة فإن من غير الممكن مواجهة الحاجة التشريعية لدى الناس.

    عن الحسن بن عبيد الله النخعي، قال: قلت لإبراهيم النخعي: أكل ما أسمعك تفتي به سمعته؟ فقال: لا. قلت: تفتي بما لم تسمع؟ قال: سمعت وجاءني ما لم أسمع فقسته بالذي سمعت(76). تلك كانت سمة مدرسة العراق: الرأي إن غاب الأثر .

    أما سعيد بن المسيب وعلماء المدينة منهم فكانوا لا يأبهون بالعلل إلاّ حين يعييهم الوصول إلى نص أو أثر، وكيف يعييه ذلك وهو يقول: ما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أبو بكر ولا عمر ولا عثمان ولا علي قضاء إلاّ وقد علمته(77)!! كما أن بيئة المدينة لم يطرأ عليها ما طرأ على البيئة العراقية من تغيرات، ولم يحدث فيها من الوقائع ما حدث في العراق، ولذلك فإن الكثيرين من علماء المدينة كانوا إذا سئل أحدهم عن شيء لديه فيه أثر أجاب، وإلاّ اعتذر. . سئل مسروق عن مسألة فقال: لا أدري. فقيل له: فقس لنا برأيك. فقال: أخاف أن تزل قدمي(78).

    ومما يوضح تهيب أهل المدينة من القول بالرأي فيما لا أثر فيه ما قاله ابن وهب: قال مالك: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إمام المسلمين وسيد العالمين يُسأل عن الشيء فلا يجيب حتى يأتيه الوحي من السماء، فإذا كان رسول رب العالمين لا يجيب إلاّ بالوحي، فمن الجرأة العظيمة إجابة من أجاب برأيه، أو بقياس أو تقليد من يحسن به الظن، أو عرف أو عادة أو سياسة أو ذوق، أو كشف أو منام، أو استحسان أو خرص والله المستعان، وعليه التكلان(79).

    ومع أن الخلاف قد احتدم بين المدرستين وجرى تبادل النقد بين الفريقين، لم يتخل أي منهما عن أدب الاختلاف كما تبين لنا مما تقدم من المناظرات، إضافة إلى مناظرات أخرى كثيرة جرت بين رجال المدرستين لم يخرج أحد منهم فيها عن حدود أدب الاختلاف (80) فلا تكفير ولا تفسيق ولا اتهام بابتداع منكر ولا تبرؤ.

    عن ابن أبي شبرمة قال: دخلت أنا وأبو حنيفة على جعفر بن محمد بن الحنفية، فسلمت عليه، وكنت له صديقاً، ثم أقبلت على جعفر وقلت له: أمتع الله بك، هذا رجل من أهل العراق وله فقه وعقل. فقال لي جعفر: لعله الذي يقيس الدين برأيه؟ ثم قال: أهو النعمان؟ فقال أبو حنيفة: نعم أصلحك الله. فقال جعفر: اتق الله ولا تقس الدين برأيك، فإن أول من قاس إبليس، إذ أمره الله بالسجود لآدم، فقال: أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين... ثم قال لأبي حنيفة: أخبرني عن كلمة أولها شرك وآخرها إيمان؟ قال أبو حنيفة: لا أدري. قال جعفر: هي "لا إله إلاّ الله" فلو قال: "لا إله" ثم أمسك كان كافراً، فهذه كلمة أولها شرك وآخرها إيمان. ثم قال له: ويحك أيهما أعظم عند الله: قتل النفس التي حرم الله أو الزنا؟ قال: بل قتل النفس، فقال جعفر: إن الله قد قبل في قتل النفس شاهدين، ولم يقبل في الزنا إلا أربعة، فكيف يقوم لك قياس؟ ثم قال: أيهما أعظم عند الله الصوم أو الصلاة؟ قال: بل الصلاة. قال: فما بال المرأة إذا حاضت تقضي الصيام ولا تقضي الصلاة، اتق الله يا عبد الله ولا تقس، فإنا نقف غداً نحن وأنت بين يدي الله فنقول: قال الله عز وجل وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقول أنت وأصحابك: قسنا ورأينا، فيفعل الله بنا وبكم ما يشاء. . . (81).

    إن أسئلة الإمام جعفر لم تكن مما يعجز واحد مثل أبي حنيفة عن الإجابة عنها، ولكنه الأدب مع آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي جعله يسكت.

    نستوحي مما تقدم من المناظرات أن الأدب النبوي الرفيع كان معين المتناظرين، وأن الاختلاف لم يبنِ بين الإخوة حواجز تحول دون الالتقاء، وما تناقله المؤرخون لتلك الفترة من غلظة إنما كان يجري معظمه بين الفرق الكلامية التي امتدت خلافاتها إلى الأمور الاعتقادية، فسوَّغ بعضها لنفسه أن يرمي الآخرين بالكفر أو الفسق أو البدعة، وحتى بين هذه الفرق لم تعدم صفحات التاريخ أن تجد من أدب الاختلاف ما يمكن تسجيله. .

    مناظرة ابن عبَّاس للخوارج:

    عن عبد الله بن المبارك(82) قال: حدَّثنا عكرمة بن عمار، حدثنا سماك الحنفي قال: سمعت ابن عباس يقول: قال علي: لا تقاتلوهم (أي الخوارج) حتى يخرجوا فإنهم سيخرجون، قال: قلت: يا أمير المؤمنين أبرد بالصلاة فإني أريد أن أدخل عليه فأسمع من كلامهم وأكلمهم، فقال: أخشى عليك منهم، قال: (أي ابن عباس) وكنت رجلاً حسن الخلق لا أوذي أحداً. قال: فلبست أحسن ما يكون من الثياب اليمنية، وترجلت ثم دخلت عليهم وهم قائلون: فقالوا لي: ما هذا اللباس؟ فتلوت عليهم القرآن: ((قل مَنْ حرّم زينَة الله التي أخْرج لِعباده والطيِّبات مِنَ الرِّزْق)) [الأعراف:32] وقلت: ولقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبس أحسن ما يكون من اليمنية. فقالوا: لا بأس، فما جاء بك؟ فقلت: أتيتكم من عند صاحبي، وهو ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه، وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلم بالوحي منكم، وفيهم نزل القرآن، أبلغكم عنهم وأبلغهم عنكم، فما الذي نقمتم؟ فقال بعضهم ناهياً: إيَّاكم والكلام معه، إن قريشاً قوم خصمون، قال الله عز وجل: ((بَلْ هُمْ قَومُ خَصِمون)) [الزخرف:58). وقال بعضهم كلِّموه، فانتحى لي منهم رجلان أو ثلاثة، فقالوا: إن شئت تكلمت وإن شئت تكلمنا. فقلت: بل تكلموا. فقالوا: ثلاث نقمناهنّ عليه: جعل الحكم إلى الرجال وقال الله: ((إن الحُكْمُ إلاّ للهِ)) [ الأنعام:57] [يوسف:40-67] فقلت: قد جعل الله الحكم من أمره إلى الرجال في ربع درهم: في الأرنب(83)، وفي المرأة وزوجها ((فابْعثوا حَكماً مِنْ أهْلِهِ وحكماً مِنْ أهلِها)) [النساء:35].

    فالحكم في رجل وامرأته والعبد أفضل، أم الحكم في الأمة يرجع بها ويحقن دماؤها، ويلم شعثها؟ قالوا: نعم. قالوا: وأخرى مجانفة أن يكون أمير المؤمنين، فأمير الكافرين هو. فقلت لهم: أرأيتم إن قرأت من كتاب الله عليكم، وجئتكم به من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أترجعون؟ قالوا: نعم. قلت: قد سمعتم أو أراه قد بلغكم أنه لما كان يوم الحديبية جاء سهيل بن عمرو إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعلي: "اكتب. . هذا ما صالح عليه محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم " فقالوا: لو نعلم أنك رسول الله لم نقاتلك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي: "امح يا عليّ" أفخرجت من هذه؟ قالوا: نعم.

    قال: وأما قولكم: قتل ولم يسب، ولم يغنم (أي في معركة الجمل وصفين) أفتسبون أمكم، وتستحلون منها ما تستحلون من غيرها؟! فإن قلتم: نعم، فقد كفرتم بكتاب الله، وخرجتم من الإسلام، فأنتم بين ضلالتين. . .

    وكلما جئتهم بشيء من ذلك أقول: أفخرجت منها؟ فيقولون: نعم. قال: فرجع منهم ألفان وبقي ستة آلاف(84).

    فهؤلاء قوم أشهروا سيوفهم للقتال، واستحلوا دماء مخالفيهم، لكنهم مع ذلك حين جودلوا بالحق استجاب كثير منهم، وحينما ذكِّروا بالقرآن تذكروا، وحينما دعوا إلى الحوار استجابوا بقلوب مفتوحة، فأين المسلمون اليوم من هذا؟! .

  2. #12
    تاريخ التسجيل
    Apr 2005
    المشاركات
    153
    آخر نشاط
    07-05-2013
    على الساعة
    09:42 PM

    افتراضي

    اختلاف مناهج الأئمة في الاستنباط
    المذاهـب الفقهيـة:
    المذاهب الفقهية التي ظهرت بعد عصر الصحابة وكبار التابعين يعدها بعضهم ثلاثة عشر مذهباً، وينسب جميع أصحابها إلى مذهب "أهل السنّة " الذي كان وبقي مذهب جماهير المسلمين وعامتهم، ولكن لم ينل حظ التدوين سرى فقه ثمانية أو تسعة من هؤلاء الأئمة، وقد تباين ما دوِّن من فقههم فحظي بعضهم بتدين كل فقهه، على حين اقتصر على بعضه بالنسبة للآخرين، ومما دوِّن لهؤلاء وهؤلاء عرفت أصول مذاهبهم ومناهجهم الفقهية وهؤلاء هم:
    أولاً: الإمام أبو سعيد الحسن بن يسار البصري توفي سنة (110هـ ).
    ثانياً: الإمام أبو حنيفة النعمان بن ثابت بن زوطي توفي سنة (150هـ ).
    ثالثاً: الإمام الأوزاعي أبو عمرو عبد الرحمن بن عمرو بن محمد توفي سنة (157هـ ).
    رابعاً: الإمام سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري توفي سنة (160هـ ).
    خامسا: الإمام الليث بن سعد توفي سنة (175هـ ).
    سادساً: الإمام مالك بن أنس الأصبحي توفي سنة (179هـ ).
    سابعاً: الإمام سفيان بن عينة توفي سنة (198هـ ).
    ثامناً: الإمام محمد بن إدريس الشافعي توفي سنة (204هـ ).
    تاسعاً: الإمام أحمد بن محمد بن حنبل توفي سنة (241هـ ).
    وهناك الإمام داود بن على الأصبهاني البغدادي المشهور بالظاهري نسبة إلى الأخذ بظاهر ألفاظ الكتاب والسنة توفي سنة (270هـ ).
    وغير هؤلاء كثير أمثال: إسحاق بن راهويه المتوفى سنة (238هـ )، وأبي ثور
    إبراهيم بن خالد الكلبي المتفى سنة(240هـ ). وهناك آخرون لم تنتشر مذاهبهم،
    ولم يكثر أتباعهم، أو اعتبروا مقلّدين لأصحاب المذاهب المشهورة.
    أما الذين تأصلت مذاهبهم وبقيت إلى يومنا هذا، ولا يزال لها الكثير من المقلدين في ديار الإسلام كلها، ولا يزال فقههم وأصوله مدار التفقه والفتوى - عند الجمهور- أولئك هم الأئمة الربعة: أبو حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد.

    مناهج الأئمـة المشهورين:

    يعتبر الأئمة الثلاثة مالك والشافعي وأحمد، فقهاء حديث وأثر، فهم الذين تلقوا فقه أهل المدينة، وحملوا علومهم، أما الإمام أبو حنيفة فهو وارث فقه "أهل الرأي " ومقدّم مدرستهم في عصره.

    إن الاختلاف الذي كان بين مدرسة "سعيد بن المسيب" التي قامت على فقه الصحابة وآثارهم، وسار على نهجها المالكية والشافعية والحنابلة وبين مدرسة "إبراهيم النخعي " التي تعتمد الرأي إن غاب الأثر، هذا الاختلاف كان طبيعياً أن ينتقل إلى كل من أخذ بمنهج إحدى المدرستين، ولا ينكر أحد أن الخلاف قد خفت حدته كثيراً في هذا الطور، ذلك أنه بعد انتقال الخلافة إلى بني العباس، نقل العباسيون بعض كبار علماء الحجاز إلى العراق ليشر السنة هناك، منهم: ربيعة بن أبي عبد الرحمن، ويحيى بن سعيد (85) وهشام بن عروة(86) ومحمد بن إسحاق(87) وغيرهم، كما أن بعض العراقيين رحلوا إلى المدينة وتلقوا عن علمائها، كأبي يوسف يعقوب بن إبراهيم(88) ومحمد بن الحسن اللذين (89) أخذا عن مالك(90) كما انتقل كثير من آراء العراقيين وأفكارهم إلى الحجاز كانتقال أفكار الحجازيين إلى العراق، ومع ذلك فقد نجد الأئمة الثلاثة مالكاً والشافعي وأحمد يشكلون منهجاً متقارباً فيما بينهم وإن اختلفوا في بعض مناهج الاستنباط وطرائقه، على حين تميز الإمام أبو حنيفة عنهم في منهجه.

    1- منهج الإمـام أبى حنيفـة:

    بقي الإمام أبو حنيفة رمزاً لمنهج مختلف عن مناهج الأئمة الثلاثة ويشكل ظاهر، فقواعد مذهبه كما بينها هو تتلخص بقوله: "إني آخذ بكتاب الله إذا وجدته، فما لم أجده فيه أخذت بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم والآثار الصحاح عنه التي فشت في أيدي الثقات، فإذا لم أجد في كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذت بقول أصحابه، آخذ بقول من شئت، ثم لا أخرج عن قولهم إلى قول غيرهم. فإذا انتهى الأمر إلى إبراهيم والشعبي وابن المسيب (وعدّد رجالاً)، فلي أن أجتهد كما اجتهدوا ".

    هذه هي الأصول الكبرى لمذهب أبي حنيفة، وهناك أصول فرعية أو ثانوية مفرعة على هذه الأصول أو راجعة إليها، وهي التي يبدو فيها الخلاف ويظهر، كقولهم: "قطعية دلالة اللفظ العام كالخاص "(91) و"مذهب الصحابي على خلاف العموم مخصص له "(92)، و"كثرة الرواة لا تفيد الرجحان " و"عدم اعتبار مفهوم الشرط والصفة "(93) و"عدم قبول خبلا الواحد فيما تعم به البلوى "(94) و"مقتضى الأمر الوجوب قطعاً ما لم يرد صارف " و"إذا خالف الراوي القفيه روايته بأن عمل على خلافها: فالعمل بما رأى لا بما روى " و "تقديم القياس الجلي على خبر الواحد المعارض له " و"الأخذ بالاستحسان(95) وترك القياس عندما تظهر إلى ذلك حاجة " ولذلك نقلوا عن الإمام أبي حنيفة قوله: "علمنا هذا رأي وهو أحسن ما قدرنا عليه، ومن جاءنا بأحسن منه قبلناه ".

    2- منهج الإمـام مالـك:

    أما الإمام مالك رحمه الله فذو منهج مختلف، فهو يقول: "أفكلّما جاءنا رجل تركنا ما يزل به جبريل على محمد صلى الله عليه وسلم لجدله "(96) وقد مربنا أن مذهبه هو مذهب الحجازيين أصحاب مدرسة الإمام سعيد بن المسيب رحمه الله ، وتتلخص قواعد مذهب مالك بما يلي:

    · الأخذ بنص الكتاب العزيز.

    · ثم بظاهره وهو العموم.

    · ثم بدليله وهو مفهوم المخالفة.

    · ثم بمفهومه (ويريد مفهوم الموافقة ).

    · ثم تنبيهه، وهو التنبيه على العلة كقوله تعالى: ((فّإنَّهُ رِجْس أَوْ فِسْقاً )).

    وهذه أصول خمسة ومن السنة مثلها فتكون عشرة.

    · ثم الإجمـاع.

    · ثم القياس.

    · ثم عمل أهل المدينة.

    · ثم الاستحسان.

    · ثم الحكم بسد الذرائع.

    · ثم المصالح المرسلة(97).

    · ثم قول الصحابي (إن صح سنده وكان من الأعلام ).

    · ثم مراعاة الخلاف (إذا قوي دليل المخالف ).

    · ثم الاستصحاب.

    · ثم شرع من قبلنا.

    4- منهج الإمـام الشافعي:

    وأما قواعد وأصول مذهب الإمام الشافعي، رحمه الله، فهي ما أجمله في رسالته الأصولية "الرسالة " التي تعتبر أول كتاب أصولي جامع أُلِّف في الإسلام.

    قال رحمه الله: "الأصل قرآن وسنة، فإن لم يكن فقياس عليهما، وإذا اتصل الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وصح الإسناد به فهو المنتهى، والإجماع أكبر من الخبر المفرد، والحديث على ظاهره وإذا احتمل المعاني فما أشبه منها ظاهره أولاها به. وإذا تكافأت الأحاديث فأصحها إستاداً أولاها، وليس المنقطع بشيء ما عدا منقطع لتن المسيب، ولا يقاس أصل على أصل، ولا يقال للأصل لِمَ وكيف؟ وإنما يقال للفرع لِمَ؟ فإذا صح قياسه على الأصل صح وقامت به الحجة "(98).

    فالإمام الشافعي - إذن - يرى أن القرآن والسنة سواء في التشريع، فلا يشترط في الحديث شرطاً غير الصحة والاتصال لأنه أصل، والأصل لا يقال له: لِمَ وكيف؟ فلا يشترط شهرة الحديث(99) إذا ورد فيما تعم به البلوى - كما اشترط ذلك الإمام أبو حنيفة - ولم يشترط عدم مخالفة الحديث لعمل أهل المدينة - كما اشترط ذلك مالك - ولكنه لم يقبل من المراسيل(100) إلا مراسيل سعيد بن المسيب، لأن لها طرقاً متصلة عنده، وقد خالف في هذا مالكاً والثوري ومعاصريه - من أهل الحديث - الذين كانوا يحتجون بها(101) وأنكر الاحتجاج بـ"الاستحسان " مخالفاً في ذلك المالكيَّة والحنفيَّة معاً، وكتب في رد الاستحسان كتابه "إبطال الاستحسان " وقال قولته المشهورة: "من استحسن فقد شرع " كمارد "المصالح الرسلة " وأنكر حجيتها، وأنكِر الاحتجاج بقياس لا يقوم على علّة منضبطة ظاهرة، وأنكر الاحتجاج بعمل أهل المدينة، كما أنكر على الحنفية تركهم العمل بكثير من السنن لعدم توفر ما وضعوه فيها من الشروط كالشهرة ونحوها، كما أنه لم يقتصر - كمالك - على الأخذ بأحاديث الحجازيين.

    هذه هي أهم وأبرز أصول مذهب الإمام الشافعي إجمالاً، وفيها من المخالفة لأصول الحنفية والمالكيّة ما لا يخفى.

    4- منهج الإمـام أحمد بن حنبـل:

    وأما الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله فقواعد مذهبه شديدة القرب من قواعد مذهب الإمام الشافعي -التي تقدم ذكرها - فهو يأخذ:

    أولاً: بالنصوص من القرآن والسنة، فإذا وجدها لم يلتفت إلى سواها، ولا يقدم على الحديث الصحيح المرفوع شيئاً من "عمل أهل المدينة أو الرأي أو القياس، أو قول الصحابي، أو الإجماع القائم على عدم العلم بالمخالف ".

    ثانياً: فإن لم يجد في المسألة نصاً انتقل إلى فتوى الصحابة، فإذا وجد قولاً لصحابي لا يعلم له مخالفاً من الصحابة لم يقده إلى غيره، ولم يقدم عليه عملاً ولا رأياً ولا قياساً.

    ثالثاً: فإذا اختلف الصحابة تخير من أقوالهم أقربها إلى الكتاب والسنة ولم يخرج عن أقوالهم، فإن لم يتضح له الأقرب إلى الكتاب أو السنة حكى الخلاف ولم يحزم بقول منها.

    رابعاً: يأخذ بالحديث المرسل والضعيف إذا لم يجد أثراً يدفعه أو قول صحابي أو إجماعاً يخالفه، ويقدمه على القياس.

    خامساً: القياس عنده دليل ضرورة يُلْجأ إليها حين لا يجد واحداً من الأدلة المتقدمة.

    سادسا: يأخذ بسد الذرائع (102).

    5 - منهـج الإمام الظاهري:

    ولعل من المناسب التعرض إلى قواعد المذهب الظاهري وأصوله باختصار، ذلك لأن هذا المذهب من المذاهب الإسلامية ذات الأثر والتي لا يزال لهابين أهل السنة أتباع، وقد وقع أشد أنواع الخلاف بين الظاهرية وبين الحنفية ثم المالكية، ثم الحنابلة، ثم الشافعية، وقد كان داود يعترف للشافعي بكثير من الفضل.

    وأبرز أصول المذهب الظاهري: التمسك بظواهر آيات القرآن الكريمة والسنة وتقديمها على مراعاة المعاني والحكم والمصالح التي يظن لأجلها أنها شرعت. ولا يعمل بالقياس(103) عندهم ما لم تكن العلة منصوصة في المحل الأول (المقيس عليه) ومقطوعاً بوجودها في المحل الثاني (المقيس ) بحيث ينزل الحكم منزلة (تحقيق المناط )(104).

    كما يحرم العمل بالاستحسان، ويستدل بالإجماع الواقع في عصر الصحابة فقط؛ ولا يعمل بالمرسل والمنقطع خلافاً للمالكية والحنفية والحنابلة، ولا يعمل بشرع من قبلنا، ولا يحل لأحد العمل بالرأي لقوله تعالى: ((مَا فَرَّطْناَ فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ… )) (الأنعام :38) وتعدية الحكم المنصوص عليه إلى غيره تعد لحدود الله تعالى، ولا يحل لأحد القول بالمفهوم المخالف.

    والتقليد حرام على العامي كما هو حرام على العالم وعلى كل مكلف جهده الذي يقدر عليه من الاجتهاد (105) .

    ولنــا كلمــة:

    والحقيقة أن كثيراً الأصول التي نسبت إلى الأئمة المتبوعين هي أصول مخرّجة على أقوالهم، لا تصح بها الروايات عنهم، فالتشبث بها، والدفاع عنها، وتكلف إيراد الاعتراضات والإجابات عنها، والرد على ما يخالفها، والانشغال بكل ذلك عن كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ذلك كله من أبرز دواعي الاختلاف السيئ الذي لم يهدف إليه الأئمة أنفسهم رحمهم الله، وقد أبعد هذا المتأخرين من المسلمين عن معالي الأمور، وشغلهم بسفاسفها حتى تدنت الأمة إلى ذلك الدرك الهابط الذي تتمرغ فيه اليوم.

  3. #13
    تاريخ التسجيل
    Apr 2005
    المشاركات
    153
    آخر نشاط
    07-05-2013
    على الساعة
    09:42 PM

    افتراضي

    أسباب الاختلاف وتطوره
    أسباب الاختلاف من عهد النبوة حتى عهد الفقهاء:
    إذا سلمنا أن الاختلاف في القضايا الفكرية - التي منها القضايا الفقهية - أمر طبيعي، لما فطر عليه الناس من تباين في عقولهم وأفهامهم ومداركهم، وجب أن نقر بأن الاختلاف في عهد النبوة والخلافة الراشدة بين عديد من الصحابة كان أمراً واقعاً تشهد له جملة من الأحداث، وليس في نقيه ما يخدم هذا الدين، كما أننا لا نرى في بيانه مساساً بمثالية هذه الدعوة، وصدق نية أولئك الرجال الذين كانوا يختلفون، بل يمكن أن نقول: إن في ذكر هذه الاختلافات بياناً لواقعية هذا الدين، فهو يتعامل مع الناس على أنهم بشر، تتنازعهم عوامل مختلفة مما فطر الله تعالى خلقه عليه، ولكن الذي تطمئن إليه النفس المؤمنة أن ذلك الاختلاف لم ينشأ عن ضعف في العقيدة، أو شك في صدق ما يدعو إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بل كان تحري الحق والرغبة في إصابة قصد الشارع من الأحكام بغية جميع المختلفين.

    ولما كان الرسول صلى الله عليه وسلم مصدر تلك الأحكام لم يكن عمر الخلاف يمتد لأطول من الطريق المؤدية إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد رأينا من خلال الأحداث التي مرت أن أسباب الاختلاف في مجموعها، لم تكن تخرج عن تباين في فهم النص لأسباب لغوية أو اجتهادية، وذلك في تفسير ما بين أيديهم من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، ولم تكن هذه الأسباب لتخفي وراءها أية نوايا تحاول إنماء بذرة الخلاف التي كان المنافقون يحرصون على تعهدها.

    لذلك سرعان ما كانت هذه الاختلافات تضمحل بلقاء الرسول صلى الله عليه وسلم، أو الاحتكام إلى نص أدركه بعضهم وغاب عن الآخرين، لأن غاية ذي الفطرة السليمة نشدان الحق حيثما وجد.

    من الطبيعي أن تنتقل بعض الأسباب الموضوعية للاختلاف من عصر لآخر حيث يصعب وضع حواجز تحصر خلفها أسباب الاختلاف في كل عصر، ولكن هناك أموراً كانت تستجد على الساحة الإسلامية، نتجت عنها أسباب وعوامل تذكي روح الاختلاف.

    فمنذ مقتل الخليفة الثالث عثمان بن عفان رضي الله عنه تعرضت الأمصار الإسلامية لهزات عنيفة أفرزت بعض الأحداث التي أدخلت إلى دائرة الاختلاف أموراً كانت خارجها، ربما أدت إلى انطواء أهل كل بلد أو مصر على ما وصلهم من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم خوف الوضع والدس، كما أشرنا من قبل.

    وظهرت مدرستا الكوفة والبصرة كبيئة خصبة لتفاعل الأفكار السياسية وتعددت الفرق المختلفة، كالخوارج والشيعة والمرجئة(106)، وظهرت المعتزلة والجهمية وغيرهم من أهل الأهواء والبدع.

    وتعددت المناهج العقلية والفكرية بتعدد تلك الفرق، وأصبح لكل فرقة منطلقات وقواعد تنطلق منها في تعاملها مع نصوص الشارع، وفي تفسيرها للمصادر الشرعية، وفي مواقفها من القضايا المختلفة التي استجدت، وبدأت الحاجة تظهر إلى وضع الضوابط والقيود، وتحديد المناهج وطرق استنباط أحكام الوقائع من الوحي الإلهي، وتحديد ما يجوز الاختلاف فيه وما لا يجوز.

    ولعل من فضل الله تعالى أن جعل الجانب الفقهي في دائرة ما يجوز فيه الاختلاف، وذلك لأن "الفقه " عبارة عن معرفة الفقيه حكم الواقعة من دليل من الأدلة التفصيلية الجزئية التي نصبها الشارع للدلالة على أحكامه من آيات الكتاب، وأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد يصيب الفقيه حكم الشارع، أو يوافقه، وقد لا يوافق ذلك، ولكنه في الحالتين غير مطالب بأكثر من أن يبذل أقصى طاقته العقلية والذهنية للوصول إلى حكم، فإن لم يكن ما وصل إليه حكم الشارع فهو أقرب ما يكون إليه في حقيقته وغاياته وآثاره، ولذلك كان الاختلاف أمراً مشروعاً وذلك لتوفر أمرين فيه:

    الأول: أن لكل من المختلفين دليلاً يصح الاحتجاج به، فما لم يكن له دليل يحتج به سقط، ولم يعتبر أصلاً.

    الثاني: ألاّ يؤدي الأخذ بالمذهب المخالف إلى محال أو باطل، فإن كان ذلك بطل منذ البداية، ولم يسع لأحد القول به بحال، وبهذين الأمرين يغير "الاختلاف " "الخلاف ".

    فالاختلاف ما توافر فيه الشرطان المذكوران، وهو مظهر من مظاهر النظر

    العقلي والاجتهاد، وأسبابه منهجية موضوعية في الغالب.

    أما الخلاف فهو الذي يفقد الشرطين أو أحدهما، وهو مظهر من مظاهر

    التشنج والهوى والعناد، وليس له من سبب يمت إلى الموضوعية.

    أسباب الاختلافات الفقهية في عصر الفقهاء:

    حرص الفقهاء الذين أجمعت الأمة على الأخذ بمذاهبهم، على التزام الشرطين

    السابقين، وقد اختلف الناس في تحديد أسباب الاختلافات الفقهية في هذا العصر

    اختلافاً بيِّناً : فمن مكثر في ذكر هذه الأسباب إلى مقتصد فيها، ومع ذلك فإن من الممكن إعادة هذه الأسباب إلى الأمور التالية:

    1- أسبـاب تعود إلى اللغـة:

    وذلك كأن يرد في كلام الشارع لفظ مشترك، وهو ما وضع لمعان متعددة ومختلفة، كلفظة "عين " التي تستعمل في الباصرة والجارية، وفي الذهب الخالص، وفي الرقيب، وغيرها من المعاني.

    فإذا وردت في كلام الشارع مجردة عن القرينة، تساوت المعاني التي وضعت لها - في احتمال كون كل منها مراداً - فيختلف المجتهدون في حمل ذلك اللفظ على أي من معانيه التي وضع لها، أو عليها كلها.

    فقد اختلف الفقهاء في مراد الشارع من لفظ "القرء " في قوله تعالى: ((وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوَءٍ )) (البقرة : 228). فلفظ "القرء " مشترك بين الطهر والحيض، فاختلف الفقهاء في عدة المطلقة أتكون بالحيض أم بالأطهار؟ فذهب الحجازيون - منهم - إلى أن عدة المطلقة ثلاثة أطهار، وذهب العراقيون إلى أنها ثلاث حيض (107).

    وأحياناً يكون للفظ استعمالان: حقيقي، ومجازي، فيختلفون في أيهما استعمل اللفظ في ذلك النص من نصوص الشارع.

    وقد اختلف العلماء بادئ ذي بدء في جواز وقوع المجاز في لفظ الشارع، بأثبته الأكثرون، ونفاه الأقلون، كالأستاذ أبي إسحاق الإسفراييني وشيخ الإسلام ابن تيمية.

    والذين نفوه استدلوا بأن المجاز هو إطلاق اللفظ على غير ما وضع له - في الأصل - كإطلاق لفظ "الأسد " وإرادة الرجل الشجاع، ونصوص الشارع جاءت لبيان الأحكام الشرعية وإطلاق اللفظ وإرادة غير ما وضع له مناف للبيان المقصود، ولسنا بصدد مناقشة هذا الموضوع، فإن جماهير العلماء قد ذهبوا إلى ورود المجاز في لفظ الشارع، واعتبر ابن قدامة وغيره من الأصوليين إنكار وقوعه في نصوص الشارع نوعاً من المكابرة (108).

    وعلى هذا فقد يختلف العلماء في فهم المراد من كلام الشارع، إذا ورد بتركيب متردد بين الحقيقة والمجاز، أو ورد لفظ مفرد يحتمل الأمرين فيحمله بعضهم على المعنى الحقيقي، ويحمله آخرون على المعنى المجازي وذلك كلفظ :الميزان" فحقيقته تلك الأداة التي يزن الناس بها الأشياء.

    ويطلق على "العدل" مجازاً. قال تعالى:

    ((وَالسَّماءَ رَفَعَهَا ووَضَعَ الْمِيزَانَ، ألاّ تَطْغَوْا في الْمِيزَانِ، وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلاَ تُخْسِرُوا الْمِيزَان َ)) (الرحمن:7-9). فالميزان في الأولى والثانية استعمل في "العدل" كما في قوله تعالى: ((لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنَا بِالْبَيِّناَتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النّاسُ بِالْقِسْط ِ)) (الحديد:25)، وفي الثالثة أريد به المعنى الحسي، وهو الأداة التي توزن بها الأشياء(109). كما يقال للعروض "ميزان الشعر" وللنحو "ميزان الكلام " (110). ومثله لفظ "السلسلة " وغيرها. وأحياناً يكون المجاز في التركيب كما في قوله تعالى: ((يا تَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَساً يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشا ً)) (الأعراف: 26) فمن المعلوم أن اللباس لا ينزل من السماء وهو لباس، ولا الريش كذلك، ولكن الله تعالى أنزل المطر وأنبت النبات وخلق الحيوان وكساه الصوف والشعر والوبر، وأنبت القطن والكتان ليتخذ منه اللباس، فأسند إلى المسبب وهو اللباس بدلاً من السبب وهو الماء الذي جعل الله تعالى منه كل شيء حي. ومن المعروف أن صيغة "افعل " للأمر و"لا تفعل " للنهي، ومطلق الأمر يفيد الوجوب، ومطلق النهي يفيد التحريم، ذلك هو الاستعمال الحقيقي لكل من الصيغتين، ولكن قد ترد كل منهما لمعان غير المعنى الذي وضعت له أولاً.

    فقد يرد الأمر للندب مثل قوله تعالى: ((فَكَاتِبُوهُمْ إنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً )) (النور :33).

    والإرشاد نحو قوله تعالى:((وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ… )) أو قوله :

    ((إذا تَدَايِنْتُمْ بِدَيْنٍ إلى أَجَلٍ مُسمًّى فَاكْتُبُوه ُ)) (البقرة : 282) والتهديد نحو قوله تعالى:

    ((اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ )) (فصلت :40) وغير ذلك (111).

    وكذلك النهي قد يرد لغير التحريم، كالكراهة والتحقير في نحو قوله تعالى:

    ((لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إلى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْهُمْ )) (الحجر :88).

    والإرشاد كما في قوله تعالى:

    ((لا تسْأَلوُا عَنْ أشْياءَ إنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ )) (المائدة:101) وغيرها (112).

    كما أن الأمر قد يرد بصيغة الخبر، وكذلك النهي قد يرد أيضاَ بصيغة الخبر والنفي، وكل ذلك له آثار في اختلاف الفقهاء، وفي طرائقهم، وفي استنباط الأحكام الشرعية من النصوص؛ وأحياناً تختلف مذاهب العلماء في فهم النص لاختلاف أحوال كلمة واردة فيه، وإن لم يختلف معناها، كاختلافهم في قوله تعالى: ((ولا يُضاَرَّ كَاتِبُ وَلاَ شَهِيد ُ)) (البقرة:282 ) حيث ذهب بعضهم إلى أن المراد بها صدور الضرر من الكاتب والشهيد وذلك بأن يكتب الكاتب ما لم يُمْلَ عليه، ويشهد الشاهد بخلاف الواقع، ودليل هؤلاء قراءة ابن عباس رضي الله عنهما: ((ولا يُضاَرَّ كَاتِبُ وَلاَ شَهِيدُ )).

    وذهب آخرون إلى أن المراد وقوع الضرر عليهما، كأن يمنعا من أشغالهما، ويكلَّفا الكتابة والشهادة في وقت لا يلائمهما، ودليل من ذهب إلى هذا قراءة ابن مسعود رضي الله عنه: ((ولا يُضاَرَّ كَاتِبُ وَلاَ شَهِيد ُ)) فلما كانت اللفظة مدغمة في لغة تميم، احتمل بناء الفعل المعلوم، وبناؤه للمجهول، فحدث هذا الاختلاف، وإن كان فك الإدغام لغة أهل الحجاز(113).

    والمتتبع لهذا النوع من أسباب الاختلاف، يجد أمثلة كثيرة عليه في الكلمات المفردة، وفي التراكيب المختلفة وأنواعها، وما يعرض لها من عموم وخصوص، وإطلاق وتقييد، وإجمال وبيان، وغير ذلك… ولعل فيما ذكرنا ما ينبه إلى ما أغفلنا مما يمكن الاطلاع عليه في مظانه (114).

    2- اسباب تعود إلى رواية السنن:

    وهذا النوع من الأسباب متعدد الجوانب، مختلف الآثار، وإليه ترجع معظم الاختلافات الفقهية التي وقعت لعلماء السلف.

    فأحياناً لا يصل الحديث إلى مجتهد ما، فيفتي بمقتضى ظاهر آية أو حديث آخر، أو بقياس على مسألة سبق فيها من رسول الله صلى الله عليه وسلم قضاء، أو بمقتضى استصحاب للحال السابقة(115)، أو بمقتضى أن الأصل البراءة وعدم التكليف(116)، أو بموجب أي وجه معتبر من وجوه الاجتهاد.

    وقد يصل - في الواقعة موضع البحث - إلى مجتهد آخر حديث، فيفتي بمقتضاه فتختلف فتياهما.

    وأحياناً يصل الحديث إلى المجتهد، ولكنه يرى فيه علة تمنع من العمل بمقتضاه، كاعتقاده عدم صحة إسناده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لوجود مجهول أو متهم، أو سيئ الحفظ في سلسلة إسناده، أو لانقطاعه أو إرساله، أو لكونه يشترط في خبر الواحد العدل الحافظ شروطاً لا يشترطها غيره، فيعمل أحدهما بالحديث، لأن له طريقاً صحيحاً متصلاً عده، ولا يعمل الآخر بمقتضاه لعلَّة من العلل المذكورة، فتختلف الأقوال.

    وقد تختلف أقوال العلماء لاختلاف آرائهم في معاني الحديث ودلالته، وذلك كاختلاف أقوالهم في مسائل: "المزابنة " (117) و"المخابرة "(118) و "المحاقلة " (119) و "الملامسة "(120)و"المنابذة "(121) و "الغرر "(122) لاختلافهم في تفسيرها.

    وقد يصل الحديث لبعضهم من طريق بلفظ، ويصل لمجتهد آخر بلفظ مغير وذلك كأن يُسقط أحدهما من الحديث لفظاً لا يتم المعنى إلا به، أو يتغير معنى الحديث بسقوطه.

    وقد يصل الحديث إلى أحد المجتهدين مقترناً بسبب وروده، فيحسن فهم المراد منه، ويصل إلى آخر من غير سبب وروده، فيختلف فهمه له.

    وقد يسمع راو بعض الحديث، ويسمع الآخر الحديث كاملاً. وقد ينقل الحديث من كتاب بلفظ مصحّف أو متغير، ويبني عليه، وينقله آخر بلفظ لم يدخله شيء من ذلك فتختلف الأقوال بناء على ذلك، وقد يصح الحديث عند المجتهد ولكنه يعتقد أنه معارض بما هو أصح منه أو أقوى، فيرجح الأقوى، أو لا يتضح له أقوى الدليلين، فيتوقف عن الأخذ بكل منهما، حتى يظهر له مرجح.

    وقد يعثر مجتهد على ناسخ للحديث، أو مخصص لعامه، أو مقيد لمطلقه ولا يطلع مجتهد آخر على شيء من ذلك، فتختلف مذاهبهما (123).

    3- أسبـاب تعـود إلى القواعـد الأصولية وضوابط الاستنباط:

    علم أصول الفقه هو: "معرفة أدلة الفقه على سبيل الإجمال، وكيفية الاستفادة منها، وحال المستفيد ".

    فهذا العلم عبارة عن: مجموع القواعد والضوابط التي وضعها المجتهدون لضبط عملية الاجتهاد واستنباط الأحكام الشرعية الفرعية من الأدلة التفصيلية؛ فيحدد المجتهدون في مناهجهم الأصولية الأدلة التي تستقى منها الأحكام، ويستدلون لحجية كل منها، ويبيِّنون جميع العوارض الذاتية لتلك الأدلة لتتضح طرائق استفادة الأحكام منها، ويحددون طرق استفادة الحكم الشرعي من كل دليل من تلك الأدلة، والخطوات التي يسلكونها منذ البداية حتى الوصول إلى الحكم الشرعي.

    وهذه القواعد والضوابط اختلفت مذاهب المجتهدين فيها: فنجم عن الاختلاف فيها اختلاف في المذاهب الفقهية التي يذهب كل منهم إليها، فبعض الأئمة يذهب إلى أن فتوى الصحابي إذا اشتهرت ولم يكن لها مخالف - من الصحابة أنفسهم - حجة، لأن الثقة بعدالة الصحابة تشعر بأن الصحابي ما أفتى بما أفتى به إلاّ بناءً على دليل، أو فهم في دليل، أو سماع من رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يشتهر ولم يصل إلينا.

    وبعضهم لا يرى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا فيما يراه، فتختلف مذاهب الفقهاء بناء على ذلك.

    وبعض المجتهدين يأخذ بـ"المصالح المرسلة " أي: تلك الأمور التي لم يوجد في الشرع ما يدل على اعتبارها بذاتها، كما لم يوجد فيه ما يدل على إلغائها بذاتها، فهي مرسلة مطلقة عن الإلغاء والاعتبار، فإذا أدرك المجتهد في تلك الأمور ما يحقق مصلحة، قال بمقتضى تلك المصلحة باعتبار أن الشارع ما شرع الأحكام إلاّ لتحقيق مصالح العباد.

    وهناك أمور أخرى - من هذا النوع - اختلف المجتهدون فيها، وتعرف في كتب أصول الفقه بـ"الأدلة المختلف فيها " كـ"سد الذرائع " و"الاستحسان " و "الاستصحاب " و " الأخذ بالأحوط " و "الأخذ بالأثقل " و "العرف " و "العادة " وغيرها.

    كما أن هناك اختلافاً في بعض الأمور المتعلقة بدلالات النصوص، وطرق تلك الدلالات، وما يحتج به منها، وعن كل ذلك نشأت اختلافات فقهية في كثير من الفروع.

    تلك هي أهم وأبرز الأسباب التي ترجع إليها الاختلافات الفقهية نبهنا إليها بإيجاز، ومن أراد الاستقصاء ومعرفة كل تلك الأسباب، أو جلها مع أمثلتها، فليرجع إلى الكتب التي أُلِّفت لمعالجة هذا الأمر قديماً وحديثاً(124).

  4. #14
    تاريخ التسجيل
    Apr 2005
    المشاركات
    153
    آخر نشاط
    07-05-2013
    على الساعة
    09:42 PM

    افتراضي

    في معالم الاختلاف بين الأئمة وآدابه
    لقد اختلف الأئمة في كثير من الأمور الاجتهادية، كما اختلف الصحابة والتابعون قبلهم؛ وهم جميعاً على الهدى ما دام الاختلاف لم ينجم عن هوى أو شهوة أورغبة في الشقاق، فقد كان الواحد منهم يبذل جهده وما في وسعه ولا هدف له إلاّ إصابة الحق وإرضاء الله جل شأنه، ولذلك فإن أهل العلم في سائر الأعصار كانوا يقبلون فتاوى المفتين في المسائل الاجتهادية ما داموا مؤهلين، فيصوبون المصيب، ويستغفرون للمخطئ، ويحسنون الظن بالجميع، ويسلمون بقضاء القضاة على أي مذهب كانوا، ويعمل القضاة بخلاف مذاهبهم عند الحاجة من غير إحساس بالحرج أو انطواء على قول بعينه، فالكل يستقي من ذلك النبع وإن اختلفت الدلائل، وكثيراً ما يصدّون اختياراتهم بنحو قولهم: "هذا أحوط " أو "أحسن " أو "هذا ما ينبغي " أو "نكره هذا " أو "لا يعجبني " فلا تضييق ولا اتهام، ولا حجر على رأي له من النص مستند، بل يسر وسهولة وانفتاح على الناس لتيسير أمورهم.

    لقد كان في الصحابة والتابعين رضوان الله عليهم ومن بعدهم من يقرأ البسملة، ومنهم من لا يقرأها، ومنهم من يجهر بها، ومنهم من يسر، وكان منهم من يقنت في الفجر، ومنهم من لا يقنت فيها، ومنهم من يتوضأ من الرعاف والقيء، والحجامة، ومنهم من لا يتوضأ من ذلك، ومنهم من يرى في مس المرأة نقضاً للوضوء، ومنهم من لا يرى ذلك، ومنهم من يتوضأ من أكل لحم الإبل أو ما مسته النار مساً مباشراً، ومنهم من لا يرى في ذلك بأساً.

    إن هذا كله لم يمنع من أن يصلي بعضهم خلف بعض، كما كان أبو حنيفة وأصحابه والشافعي وأئمة آخرون يصلون خلف أئمة المدينة من المالكية وغيرهم ولو لم يلتزموا بقراءة البسملة لا سراً ولا جهراً، وصلى الرشيد إماماً وقد احتجم فصار الإمام أبو يوسف خلقه ولم يعد الصلاة مع أن الحجامة عنده تنقض الوضوء.

    وكان الإمام أحمد بن حنبل يرى الوضوء من الرعاف والحجامة، فقيل له: فإن كان الإمام قد خرج منه الدم ولم يتوضأ هل يصلى خلفه؟ فقال : "كيف لا أصلي خلف الإمام مالك وسعيد بن المسيب "(125). وصلى الشافعي رحمه الله الصبح قريباً من مقبرة أبي حنيفة رحمه الله فلم يقنت - والقنوت عنده سنة مؤكدة - فقيل له في ذلك، فقال: "أخالفه وأنا في حضرته " وقال أيضاً: "ربما انحدرنا إلى مذهب أهل العراق "(126).

    وكان مالك رحمه الله أثبت الأئمة في حديث المدنيين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأوثقهم إسناداً، وأعلمهم بقضايا عمر وأقاويل عبد الله بن عمر وعائشة وأصحابهم من الفقهاء السبعة رضوان الله عليهم أجمعين، وبه وبأمثاله قام علم الرواية والفتوى، وقد حدّث وأفتى رضي الله عنه ، وألّف كتابه "الموطأ" الذي توخى فيه إيراد القوي من حديث أهل الحجاز، كما نقل ما ثبت لديه من أقوال الصحابة وفتاوى التابعين، وبوّبه على أبواب الفقه فأحسن ترتيبه وأجاد، وقد اعتبر "الموطأ " ثمرة جهد الإمام مالك لمدة أربعين عاماً، وهو أول كتاب في الحديث والفقه طهر في الإسلام ، وقد وافقه على ما فيه سبعون عالماً من معاصريه من علماء الحجاز، ومع ذلك فحين أراد المنصور كتابة عدة نسخ منه، وتوزيعها على الأمصار، وحمْل الناس على الفقه الذي فيه حسماً للخلاف كان الإمام مالك أول من رفض ذلك، فقد روي عنه أنه قال: "يا أمير المؤمنين، لا تفعل هذا، فإن الناس قد سبقت لهم أقاويل، وسمعوا أحاديث، ورووا روايات، وأخذ كل قوم بما سبق إليهم، وأتوا به من اختلاف الناس فدع الناس وما اختار أهل كل بلد منهم لأنفسهم… فقال الخليفة: وفقك الله يا أبا عبد الله " (127).

    فأي رجل هذا الإمام الجليل الذي يأبى أن يحمل الناس على الكتاب الذي أودع فيه أحسن ما سمع من السنة، وأقوى ما حفظ وأدرك من العلم الذي لا اختلاف فيه عند أهل المدينة وذلك الحشد من علماء عصره.

    رسالة الليث بن سعد إلى الإمام مالك:

    ولعل من أفضل وأحسن أمثلة أدب الاختلاف تلك الرسالة العلمية الرائعة التي بعث بها فقيه مصر وإمامها وعالمها الليث بن سعد إلى الإمام مالك، يعرض عليه فيها وجهة نظره في أدب جم رفيع حول كثير مما كان الإمام مالك يذهب إليه ويخالفه فيه الليث بن سعد، ونظراً لطول الرسالة نقتطف منها ما يشير إلى ذلك الأدب الرفيع الذي اختلف في ظله سلف هذه الأمة، وكرام علمائها، يقول الليث بن سعد:

    "… سلام عليك، فإني أحمد الله الذي لا إله إلاّ هو أما بعد: عافانا الله وإيّاك، وأحسن لنا العاقبة في الدنيا والآخرة، قد بلغني كتابك تذكر فيه من صلاح حالكم الذي يسرني، فأدام الله ذلك لكم، وأتمه بالعون على شكره والزيادة من إحسانه … ثم يقول: وإنه بلغك أني أفتي الناس بأشياء مخالفة لما عليه الناس عندكم، وأني يحق عليَّ الخوف على نفسي لاعتماد من قبلي على ما أفتيهم به، وأن الناس تبع لأهل المدينة التي كانت إليها الهجرة، وبها نزل القرآن، وقد أصبت بالذي كتبت به من ذلك - إن شاء الله تعالى - ووقع مني بالموقع الذي نحب، وما أجد أحداً ينسب إليه العلم أكره لشواذ الفتيا، ولا أشد تفضيلاً لعلماء أهل المدينة الذين مضوا، ولا آخذ لفتياهم فيما اتفقوا عليه مني والحمد لله رب العالمين لا شريك له ".

    ثم يمضي الإمام الليث بن سعد في رسالته مورداً أوجه الاختلاف بينه وبين الإمام مالك رحمهما الله تعالى حول حجية عمل أهل المدينة مبيناً أن كثيراً من السابقين الأولين الذين تخرجوا في مدرسة النبوة حملوا إلى مشارق الأرض ومغاربها، وهم يجاهدون، ما تعلموه من كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ، وبيّن أن التابعين قد اختلفوا في أشياء وكذلك من أتى بعدهم من أمثال: ربيعة بن أبي عبد الرحمن حيث يذكر بعض مآخذه عليه، ثم يقول: "ومع ذلك - حمد الله - عند ربيعة خير كثير، وعقل أصيل، ولسان بليغ، وفضل مستبين، وطريقة حسنة في الإسلام، ومودة صادقة لإخوانه عامة، ولنا خاصة، رحمة الله وغفر له وزاه بأحسن ما عمله " ثم يذكر من أمثلة الاختلاف بينه وبين الإمام مالك قضايا عديدة مثل: الجمع ليلة المطر - والقضاء بشاهد ويمين - ومؤخر الصداق لا يقبض إلاّ عند الفراق - وتقديم الصلاة على الخطبة في الاستسقاء… وقضايا خلافية أخرى، ثم قال في نهاية الرسالة "… وقد تركت أشياء كثيرة من أشابه هذا، وأنا أحب توفيق الله إيّاك، وطول بقائك، لما أرجو للناس في ذلك من المنفعة، وما أخاف من الضيعة إذا ذهب مثلك، مع استئناسي بمكانك وإن نأت الدار، فهذه منزلتك عندي ورأيي فيك فاستيقنه، ولا تترك الكتاب إليّ بخبرك وحالك وحال ولدك وأهلك، وحاجة إن كانت لك، أو لأحد يوصل بك فإني أسر بذلك، كتبت إليك ونحن معافون والحمد لله، ونسأل الله أن يرزقنا وإياكم شكر ما أولانا، وتمام ما أنعم به علينا، والسلام عليكم ورحمة الله " (128).

    إن هناك كثيراً من المناظرات العلمية الدقيقة المليئة بأدب الاختلاف حفلت بها تب التراجم والتاريخ والمناظرات ونحوها، ولا يكاد المرء يفتقد "أدب الاختلاف " بين أهل العلم إلاّ بعد شيوع التقليد وما رافقه من تعصب وتعثر في سلوك أهل العلم، نظراتهم إلى العلم نفسه، ولا سيما بعد أن خلت الساحة من أمثال العلماء الذين يقول فيهم الإمام الغزالي: "وكان قد بق من علماء التابعين من هو مستمر على الطراز الأول، وملازم صفو الدين، ومواظب على سمت علماء السلف، فكانوا إذا طُلبوا هربوا وأعرضوا " فاضطر الخلفاء إلى الإلحاح في طلبهم لتولية القضاء والحكومات، وحل محل هذا الرعيل المبارك طلاب الدنيا بالدين، وحل الذي هو أدنى مكان الذي خير، وفي ذلك يقول الإمام الغزالي: "فرأى أهل تلك الأعصار عز العلماء وإقبال الأئمة والولاة عليهم مع إعراضهم عنهم، فاشر أبوا بطلب العلم توصلاً إلى نيل العز، ودرك الجاه من قبل الولاة، فأكبّوا على علم الفتاوى وعرضوا أنفسهم على الولاة، وتعرفوا إليهم، وطلبوا الولايات والصلات منهم، فمنهم من أنجح، والمنجح لم يخل من ذل الطلب ومهانة الابتذال فأصبح الفقهاء بعد أن كانوا مطلوبين طالبين، وبعد أن كانوا أعزة بالإعراض عن السلاطين أذلة بالإقبال عليهم إلاّ من وفقه الله تعالى في كل عصر من علماء دين الله "(129).

    لقد صوّر الإمام الغزالي رحمه الله واقع العلماء بعد أن غدت الدنيا مطلبهم، وصار الدين الطريق الوحيد الموصل إلى أبواب الولاة، كما أصبحت الرغبة في كسب ودّهم هي التي تدفع فئات ممن تزيوا بزي العلماء إلى طلب العلم.

    إن الإمام مالكاً عليه رحمة الله يقول: "لا يؤخذ هذا العلم من أربعة، ويؤخذ ممن سواهم: لا يؤخذ من سفيه، ولا يؤخذ من صاحب هوى يدعو إلى بدعته، ولا من كذّاب يكذب في أحاديث الناس وإن كان لا يتهم على حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا من رجل له فضل وصلاح وعبادة إذا كان لا يعرف ما يحمل ويحدث به " (130). وقال أيضاَ: "إن هذا العلم دين، فانظروا عمن تأخذون دينكم، لقد أدركت سبعين ممن يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عند هذه الأساطين (وأشار إلى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم) فما أخذت عنهم شيئاً، وإن أحدهم لو اؤ تمن على بيت مال كان أميناً، إلاَّ أنهم لم يكونوا من أهل هذا الشأن، وقدم علينا ابن شهاب فكنا نزدحم على بابه " (131) .

    ورجال تلك صفاتهم لم يكن ليقع بينهم كبير اختلاف، وإن وقع فمن أجل الحق، ولن يدس الهوى أنفه في خلاف لا يدعو إليه غير الحق… وحتى نؤصل الآداب التي سار على نهجها كرام علمائنا، فنجعل منهم لنا القدوة الصالحة، وتكون خلالهم الكريمة تلك مثلاً نحتذي به، نقدم نماذج من أدب الاختلاف بين كبار الأئمة من السلف الصالح رضوا الله عليهم.

    أبو حنيفـة ومالـك:

    مرّ معنا في استعراضنا لمذهب الأئمة الاختلاف الكبير بين أبي حنيفة ومالك رحمهما الله، وتباين الأسس التي يعتمدها كل منهما فيما يخص مذهبه؛ ولكن هذا لم يمنع، رغم فارق السن التي بينهما، أن يجلّ الواحد منهما صاحبه، وأن يكون معه على جانب كبير من الأدب مع اختلاف مناحيهما في الفقه… أخرج القاضي عياض في "المدارك " قال: قال الليث بن سعد: لقيت مالكاً في المدينة، فقلت له: إني أراك تمسح العرق عن جبينك. قال: عرقت مع أبي حنيفة، إنه لفقيه يا مصري. قال الليث: ثم لقيت أبا حنيفة، وقلت له: ما أحسن قول هذا الرجل فيك (يشير إلى مالك ) فقال أبو حنيفة: ما رأيت أسرع منه بجواب صادق، ونقد تام..(132).

    محمد بن الحسـن ومالـك:

    يعتبر محمد بن الحسن من أبرز أصحاب أبي حنيفة، وهو مدوِّن مذهبه، رحل إلى مالك ولازمه ثلاث سنين، وسمع منه الموطأ، ويتذاكر الإمامان محمد بن الحسن والشافعي يوماً، فيقول محمد: صاحبنا (يريد أبا حنيفة ) أعلم من صاحبكم (أي مالك ) وما كان لصاحبنا أن يسكت وما كان لصاحبكم أن يتكلم - كأنه يستثير الإمام الشافعي بذلك - فيقول الإمام الشافعي:

    نشدتك الله من كان أعلم بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم : مالك أو أبو حنيفة؟ فيقول محمد: مالك، ولكن صاحبنا أقيس. يقول الشافعي: قلت نعم، ومالك أعلم بكتاب الله من أبي حنيفة، فمن كان أعلم بكتاب الله وسنة رسوله كان أولى بالكلام، فيسكت الإمام محمد بن الحسن (133).

    الشـافعي ومحمد بن الحسـن:

    يقول الإمام الشافعي: ذاكرت محمد بن الحسن يوماً، فدار بيني وبينه كلام واختلاف، حتى جعلت أنظر إلى أوداجه تدر، وتتقطع أزراره.. (134).

    ويقول محمد بن الحسن: إن كان أحد يخالفنا فيثبت خلافه علينا فالشافعي، فقيل له: فلم؟ قال: لبيانه وتثبته في السؤال والجواب والاستماع… (135).

    تلك هي بعض نماذج أدب الاختلاف، من آداب علماء الأمة، نستنبط منها: أن خلف الأمة في قرون الخير كان يسير حذو السلف، والكل ستقي من أدب النبوة، ولم يكن أدب السلف الصالح يقتصر على تجنب التجريح والتشنيع، بل كان من الآداب الشائعة في ذلك الجيل من العلماء التثبت في أخذ العلم واجتناب الخوض فيما لا علم لهم به، والحرص على تجنب الفتيا خوفاً من الوقوع في الخطأ. قال صاحب القوت: وروينا عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: أدركت في هذا المسجد (مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ) مائة وعشرين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ما منهم أحد يسأل عن حديث أو فتيا إلاّ ودّ أن أخاه كفاه ذلك. وفي لفظ آخر: كانت المسألة تعرض على أحدهم فيردها إلى الآخر، ويردها الآخر حتى ترجع إلى الذي سأل عنها أول مرة… (136).

    وقد ارتفع هؤلاء الرجال فوق مشاعر الإحساس بالغضاضة، فقد يتوقف أحدهم أمام مسألة، وذكر أن قومه أرسلوه يسأله عنها من مسيرة ستة أشهر، قال مالك: فأخبر الذي أرسلك أني لا علم لي بها. قال الرجل: ومن يعلمها؟ قال مالك: من علّمه الله، قالت الملائكة:

    ((لا عِلْمَ إلاّ ماَ عَلَّمْتَنَا )) (البقرة: 32).

    وروي عن مالك أيضاً أنه سئل عن ثمان وأربعين مسألة، فقال في اثنتين وثلاثين منها: "لا أدري ".

    وعن خالد بن خداش قال: قدمت على مالك من العراق بأربعين مسألة فسألته عنها فما أجابني منها إلاّ في خمس مسائل.

    وكان لبن عجلان يقول: إذا أخطأ العالم قول (لا أدري ) أصيبت مقاتله.

    وروي عن مالك، عن عبد الله بن يزيد بن هرمز قال: ينبغي للعالم أن يورث جلساءه قول (لا أدري ) حتى يكون ذلك في أيديهم أصلاً يفزعون إليه، فإذا سئل أحد عما لا يدري قال: لا أدري.

    وقال أبو عمر بن عبد البر (توفي سنة 463 ): صح عن أبي الدرداء أنه قال: لا أدري نصف العلم.

    مـالك وابن عيينـة:

    كان ابن عيينة (137) قرين مالك ونداً له، يقول الإمام الشافعي: "ومالك وابن عيينة القرينان، ولولا مالك وابن عيينة لذهب علم الحجاز (138)" ومع ذلك فقد روي: أن ابن عيينة ذكر مرة حديثاً فقيل له: إن مالكاً يخالفك في هذا الحديث، فقال القائل، أتقرنني بمالك؟ ما أنا ومالك إلاّ كما قال جرير:

    ولبن اللبون إذا ما لزّ في قرن

    لم يستطع صولة البزل القناعيس

    ويروى لسفيان بن عيينة قول رسول الله صلى الله عليه وسلم:

    (يوشك أن يضرب الناس أكباد الإبل في طلب العلم فلا يوجد عالم أعلم من عالم المدينة ) فيقال لسفيان: من هو؟ فيقول: إنه مالك بن أنس. ويقول: "كان لا يبلغ من الحديث إلاّ صحيحاً، ولا يحمل الحديث إلاّ عن ثقاة الناس، وما أرى المدينة إلاّ ستخرب بعد موت مالك بن أنس " (139).

    مالـك والشـافعي:

    يقول الإمام الشافعي: مالك بن أنس معلمي، وعنه أخذت العلم، وإذا ذكر العلماء فمالك النجم، وما أحد آمن علي من مالك بن أنس… (140) وكان يقول: إذا جاءك الحديث من مالك فشد به يديك، كان مالك بن أنس إذا شك في الحديث طرحه كله (141).

    أحمـد بن حنبل ومالـك:

    عن أبي زرعة الدمشقي قال: سمعت أحمد بن حنبل يُسأل عن سفيان ومالك إذا اختلفا في الرواية، فقال: مالك أكبر في قلتي. قال: قلت فمالك والأوزاعي إذا اختلفا؟ فقال: مالك أحب إليّ، وإن كان الأوزاعي من الأئمة، قيل له: وإبراهيم (أي النخعي ) فكأنه كان يرى أن إبراهيم لا ينبغي أن يقرن بمالك لأنه ليس من أهل الحديث، فقال: هذا ضعه مع أهل زمانه. وسئل عن رجل يريد أن يحفظ حديث رجل واحد - بعينه- قيل له: حديث من ترى له؟ قال: يحفظ حديث مالك(141).

    آراء بعض العلماء في أبي حنيفة:

    كان شعبة بن الحجاج أميراً للمؤمنين في الحديث(142)، وأبو حنيفة من أهل الرأي بالمكانة التي عرفنا، ورغم تباين منهجيهما فقد كان شعبة كثير التقدير لأبن حنيفة، تجمع بينهما مودة ومراسلة، وكان يوثِّق أبا حنيفة، ويطلب إليه أن يحدِّث، ولما بلغه نبأ موته قال: لقد ذهب معه فقه الكوفة تفضل الله عليه وعلينا برحمته (143).

    وسأل رجل يحيى بن سعيد القطان عن أبي حنيفة فقال: ما يتزين عند الله بغير ما يعلمه الله عز وجل ، فإنا - والله - إذا استحسنا من قوله الشيء أخذنا به.

    وهكذا لم يكن الاختلاف وتباين الآراء يمنع أحداً من الأخذ بما يراه حسناً عند صاحبه، وذكر فضله في هذا ونسبة قوله إليه.

    وعن عبد الله بن المبارك روايات كثيرة في الثناء على أبي حنيفة: فقد كان يذكر عنه كل خير، ويزكيه، ويأخذ من قوله، ويثني عليه، ولا يسمح لأحد أن ينال منه في مسجده، وحاول بعض جلسائه يوماً أن يغمز أبا حنيفة فقال له: اسكت، والله لو رأيت أبا حنيفة لرأيت عقلاً ونبلاً.

    ونقل عن الشافعي أنه قال: سئل مالك يوماً عن عثمان البتيِّ، فقال: كان رجلاً مقارباً، وسئل عن ابن أبي شبرمة فقال: كان رجلاً مقارباً، قيل: فأبو حنيفة: قال: لو جاء إلى أساطينكم هذه (يعني سواري المسجد ) فقايسكم على أنها خشب، لظننتم أنها خشب (144) إشارة إلى براعته في القياس،أما الإمام الشافعي فما أكثر ما روي عنه قوله: … الناس في الفقه عيال على أبي حنيفة (145).

    ولم تكن مجالس هؤلاء الرجال ليذكر فيها إلاّ الخير، ومن حاول تجاوز الآداب التي تجب مراعاتها مع أئمة هذه الأئمة هذه الأمة رد إلى الصواب، وحيل بينه وبين مس أحد بما يكره، فقد سئل الفضل بن موسى السيناني(146): ما تقول في هؤلاء الذين يقعون في أبي حنيفة؟ قال: إن أبا حنيفة جاءهم بما يعقلونه وبما لا يعقلونه من العلم، ولم يترك لهم شيئاً فحسدوه (147).

    هذه بعض الأقوال التي نقلت عي أئمة في الحديث كانوا مخالفين للإمام أبي حنيفة في معظم ما ذهب إليه، ولكن مخالفتهم له لم تمنعهم من الإشادة به، والثناء عليه، وذكره بما هو أهل له من الخير، ذلك لثقتهم بأن الخلاف بينهم وبينه لم يك وليد الهوى، ولا الرغبة في الاستعلاء، بل كان نشدان الحق ضالة الجميع رحمهم الله، ولولا هذه الأخلاق الكريمة والآداب الفاضلة لاندثر فقه الكثير من علماء سلفنا الصالح، وما كانوا يذبون عن أحد إلاّ لعلمهم أن في ذلك صوناً لفقه هذه الأمة التي لا تستقيم حياتها إلاّ لعلمهم أن في ذلك صوناً لفقه هذه الأمة التي لا تستقيم حياتها إلاّ في ظله.

    آراء بعض العلمـاء في الشافعي:

    كان ابن عيينة - وهو من هو في مكانته - إذا جاءه شيء من التفسير والفتيا التفت إلى الشافعي وقال: سلوا هذا . وكثيراً ما كان يقول إذا رآه: هذا أفضل فتيان زمانه. وحين بلغه نبأ وفاة الشافعي قال: إن مات محمد بن إدريس فقد مات أفضل أهل زمانه.

    وكان يحيى بن سعيد القطان يقول: أنا أدعو الله للشافعي حتى في صلاتي. وكان عبد الله بن عبد الحكم وولده على مذهب الإمام مالك، ولكن هذا لم يمنع عبد الله بن الحكم من أن يوصي ولده محمداً بلزوم الإمام الشافعي حيث قال له: الزم هذا الشيخ (يعني الشافعي ) فما رأيت أحداً أبصر بأصول العلم - أو قال: أصول الفقه - منه. ويبدو أن الولد قد أخذ بنصيحة أبيه حيث يقول: لولا الشافعي ما عرفت كيف أرد على أحد، وبه عرفت ما عرفت، وهو الذي علمني القياس رحمه الله فقد كان صاحب سنة وأثر، وفضل وخير، مع لسان فصيح، وعقل صحيح رصين (148).

    بين الإمام أحمـد والشـافعي:

    عن عبد الله بن الإمام أحمد قال، قلت لأبي: أي رجل كان الشافعي، فإني أسمعك تكثر الدعاء له؟ فقال: يا بني: كان الشافعي رحمه الله كالشمس للدنيا، وكالعافية للناس، فانظر هل لهذين من خلف أو عوض؟ . وعن صالح بن الإمام أحمد قال: لقيني يحيى بن معين فقال: أما يستحيي أبوك مما يفعل؟ فقلت: وما يفعل؟ قال: رأيته مع الشافعي والشافعي راكب، وهو راجل آخذ بزمام دابته. فقلت لأبي ذلك، فقال: إن لقيته فقل: يقول لك أبي: إذا أردت أن تتفقه فتعال فخذ بركابه من الجانب الآخر (149).

    وعن أبي حميد بن أحمد البصري قال: كنت عند أحمد بن حنبل نتذاكر في مسألة، فقال رجل لأحمد: يا أبا عبد الله لا يصح فيه حديث. فقال: إن لم يصح فيه حديث ففيه يقول الشافعي وحجته أثبت شيء فيه. (ثم قال: أي أحمد ) قلت للشافعي: ما تقول في مسألة كذا وكذا فأجاب فيها، فقلت: من أين قلت؟ هل فيه حديث أو كتاب؟ قال: بلى فنزع في ذلك حديثاً للنبي صلى الله عليه وسلم وهو حديث نص (150).

    وكان أحمد رحمه الله يقول: إذا سئلت في مسألة لا أعرف فيها خبراً فلت فيها: يقول الشافعي، لأنه إمام عالم من قريش (151).

    وعن داود بن علي الأصبهاني قال: سمعت إسحاق بن راهويه يقول: لقيني أحمد بن حنبل بمكة فقال: تعل حتى أريك رجلاً لم تر عيناك مثله… فأراني الشافعي .

    كان ذلك رأي أحمد بن حنبل في الشافعي، ولا غرو في أن يكون التلميذ معجباً بأستاذه معترفاً له بالفضل، ولكن الشافعي نفسه لم يمنع تتلمذ أحمد عليه من أن يعترف له بالفضل والعلم بالسنة فيقول له: أما تتلمذ أحمد عليه من أن يعترف له بالفضل والعلم بالسنة فيقول له: أما أنتم فأعلم بالحديث والرجال مني، فإذا كان الحديث صحيحاً فأعلموني إن يكن كوفياً أو بصرياً أو شامياً، أذهب إليه إذا كان صحيحا ً(152).

    وكان الشافعي حين يحدث عن أحمد لا يسميه (تعظيماً له ) بل يقول: "حدثنا الثقة من أصحابنا أو أنبأنا الثقة أو أخبرنا الثقة " (153).

    وبعد ك فتلك لمحات خاطفة (154) توضح لنا بعض ما كان عليه أسلافنا من أدب جم، وخلق عال لا ينال منه الاختلاف، ولا يؤثر فيه تباين الاجتهادات، وتلك آداب الرجال الذين تخرجوا في المدرسة المحمدية، فما عاد للهوى عليهم من سلطان؛ وكتب التراجم والطبقات والمناقب والتاريخ حافلة بما لا يحصى من المواقف النبيلة، والمناظرات الطريفة بين كبا الأئمة والتي كان الأدب سداها، والخلق الإسلامي الرفيع لحمتها، وحري بنا ونحن نعيش الشتات في كل أمورنا أن نعود إلى فيء تلك الدوحة المباركة، ونلتقي على الآداب الكريمة التي خلفها لنا سلفنا الصالح إن كنّا جادين في السعي لاستئناف الحياة الإسلامية الفاضلة.

    ونحن لا ننكر أن هناك مواقف لم تلتزم فيها هذه الآداب، أو خلت من تلك السمات الخيرة التي ذكرناها، ولكنها كانت مواقف من أولئك المقلدين أو المتأخرين الذين أشربوا روح التعصب، ومردوا على التقليد، ولم يدركوا حقيقة الروح العلمية العالية الكامنة وراء أسباب اختلاف الفقهاء، ولم يلهموا تلك الآداب الرفيعة التي كانت وليدة النية الصادقة في تحري الحق، وإصابة الهدف الذي رمى إليه الشارع الحكيم، ويبدو أنهم كانوا من أولئك الذين قال فيهم الإمام الغزالي:

    فأصبح الفقهاء بعد أن كانوا مطلوبين طالبين، وبعد أن كانوا أعزّة بالإعراض عن السلاطين أذلّة بالإقبال عليهم .

    والمطلوب سيد نفسه لا ينزع إلا عن الحق، والطالب باع نفسه فلا يشدو إلاّ بما يطيب لشاريه، فحولوا الاختلاف الذي كان نعمة أثرت الفقه الإسلامي وأثبتت واقعية هذا الدين ورعايته لمصالح الناس إلى عذاب أليم، وصار عاملاً من أخطر عوامل الفرقة والتناحر بين المسلمين.. بل تحول إلى نقمة بددت الكثير من طاقات الأمة فيما لا جدوى منه، وشغلتها بما لا ينبغي أن تنشغل به.

    والاختلاف الذي تعرضنا لبعض جوانبه في الصفحات السابقة وألمحنا إلى ما كان في رجاله من آداب رفيعة هو الاختلاف الذي وضع فيه الكاتبون كتبهم في "أسباب اختلاف الفقهاء " قديماً وحديثاً، أما الخلاف الذي تلا تلك القرون الخيرة فهو خلاف من نوع آخر، كما أن له أسباباً أخرى مختلفة.

  5. #15
    تاريخ التسجيل
    Apr 2005
    المشاركات
    153
    آخر نشاط
    07-05-2013
    على الساعة
    09:42 PM

    افتراضي

    الخلاف بعد القرون الخيرة وآدابه
    منذ القرن الرابع الهجري انتهى الاجتهاد، وغربت شمسه، وغدا التقليد شائعاً، فالكتب والمدونات محدثة، والقول بمقالات الناس والفتيا على مذهب الواحد من المجتهدين، واتخاذ قوله، والحكاية عنه، والتفقه على مذهبه لم يكن شيء من ذلك موجوداً في القرنين الأول والثاني(155). وأما القرن الثالث فقد كان الاجتهاد ولا يزال هو الشائع فيه، وربما عمد بعض العلماء إلى التخريج على قواعد وأصول من سبقهم من أهل العلم ولكن دون تقليدهم والتشبث بأقوالهم.

    وأما أهل المائة الرابعة، فقد كان فيهم العلماء والعامة، فأما العامة من الناس فقد كانوا يتلقون من أهل العلم ما يروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسائل التي لا خلاف فيها من جمهور المجتهدين، كمسائل الطهارة والصلاة والصيام والزكاة ونحوها، فيعملون بحسب ما روي لهم فيها، وإذا وقعت لهم أمور فيها من الدقة ما يحتاجون معه إلى الاستفتاء، استفتوا أهل العلم في ذلك دونما نظر إلى المذهب الذي يتمذهب به ذلك العالم.

    وأما خاصة الناس وأهل العلم منهم، فقد كانوا يشتغلون بالحديث، ويتلقون من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وآثار أصحابه ما لا يحتاجون معه إلى شيء آخر في المسألة من حديث مستفيض أو أقوال متظاهرة لجمهور الصحابة والتابعين، فإن لم يجد أحدهم في المسألة ما يطمئن إليه قلبه لتعارض النقل وعدم وضوح الترجيح ونحو ذلك رجع إلى كلام من سبقه من الفقهاء، فإن وجد قولين اختار أوثقهما سواء كان من أهل المدينة أو الكوفة.

    وكان أهل التخريج منهم يخرجون فيما لا يجدونه مصرحاً به ويجتهدون في المذاهب، وينسبون إلى المذهب الذي يخرجون عليه، فيقال: فلان شافعي وفلان حنفي، دون أن يكون هنالك التزام بالمذهب كما صارت إليه الحال فيما بعد. وأصحاب الحديث منهم ينسبون إلى المذاهب لشيوع التوافق، فالنسائي أو البيهقي أو الخطابي كانوا ينسبون إلى الشافعي مثلاً، وكان لا يتولى القضاء إلاّ مجتهد، ولا يسمى العالم فقيهاً إلاّ إذا كان مجتهداً.

    الحالة بعد القرن الرابع:

    أما بعد القرن الرابع فقد تغيرت الحال ولندع حجة الإسلام الغزالي (توفي: 505هـ ) يصف لنا ذلك حيث يقول: "اعلم أن الخلافة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم تولاها الخلفاء الراشدون المهديون، وكانوا أئمة علماء بالله تعالى، فقهاء في أحكامه، وكانوا مشتغلين بالفتاوى في الأقضية، فكانوا لا يستعينون بالفقهاء إلاّ نادراً في وقائع لا يستغني فيها عن المشاورة، فتفرغ العلماء لعلم الآخرة، وتجردوا لها وكانوا يتدافعون الفتاوى وما يتعلق بأحكام الخلق من الدنيا، وأقبلوا على الله تعالى بكنه اجتهادهم كما نقل من سيرهم، فلما أفضت الخلافة من بعدهم (أي الخلفاء) إلى قوم تولوها بغير استحقاق ولا استقلال بعلم الفتاوى والأحكام اضطروا إلى الاستعانة بالفقهاء، وإلى استصحابهم في جميع أحوالهم لاستفتائهم في مجاري أحكامهم، وكان قد بقي من علماء التابعين من هو مستمر على الطراز الأول، وملازم صفو الدين، ومواظب على سمت علماء السلف، فكانوا إذا طلبوا هربوا وأعرضوا، فاضطر الخلفاء إلى الإلحاح في طلبهم لتولية القضاء والحكومات ، فرأى أهل تلك الأعصار عز العلماء، وإقبال الأئمة والولاة عليهم مع إعراضهم عنهم، فاشرأبّوا لطلب العلم توصلاً إلى نيل العز، ودرك الجاه من قبل الولاة، فأكبوا على الفتاوى، وعرضوا أنفسهم على الولاة، وتعرّفوا إليهم، وطلبوا الولايات والصلات منهم، فمنهم من حرم، ومنهم من أنجح، والمنجح لم يخل من ذل الطلب، ومهانة الابتذال، فأصبح الفقهاء بعد أن كانوا مطلوبين طلبين، وبعد أن كانوا أعزّة بالإعراض عن السلاطين أذلّة بالإقبال عليهم، إلاّ من وفقه الله تعالى في عصر من علماء دين الله، وقد كان أكثر الإقبال في تلك الأعصار على علم الفتاوى والأقضية لشدة الحاجات إليها في الولايات والحكومات . ثم صدر بعدهم من الصدور والأمراء من يسمع مقلات الناس في قواعد العقائد، والمجادلة في الكلام، فأكب الناس على علم الكلام(156)، وأكثروا فيه التصانيف، ورتبوا فيه طرق المجادلات، واستخرجوا فنون المناقضات في المقالات، وزعموا أن غرضهم الذب عن دين الله، والنضال عن السنّة وقمع المبتدعة، كما زعم من قبلهم أن غرضهم بالاشتغال بالفتاوى: الذين، وتقلد أحكام المسلمين إشفاقاً على خلق الله، ونصيحة لهم، ثم ظهر بعد ذلك من لم يستصوب الخوض في الكلام، وفتح باب المناظرة فيه، لما كان قد تولد من فتح بابه من التعصبات الفاحشة، والخصومات الفاشية المفضية إلى إهراق الدماء وتخريب البلاد، ومالت نفسه إلى المناظرة في الفقه وبيان الأولى من مذهب الشافعي وأبي حنيفة، رضي الله عنهما، على الخصوص، فترك الناس الكلام وفنون العلم وانثالوا على المسائل الخلافيّة بين الشافعي وأبي حنيفة على الخصوص، وتساهلوا في الخلاف مع مالك وسفيان وأحمد(157) رحمهم الله تعالى وغيرهم، وزعموا أن غرضهم استنباط دقائق الشرع، وتقرير علل المذهب، وتمهيد أصول الفتاوى، وأكثروا فيها التصانيف والاستنباطات ورتبوا فيها أنواع المجادلات والتصنيفات، وهم مستمرون عليه إلى الآن، وليس ندري ما الذي يُحدث الله فيما بعدنا من الأعصار، فهذا هو الباعث على الإكباب على الخلافيات والمناظرات لا غير، ولو مالت نفوس أرباب الدنيا إلى الخلاف مع إمام آخر من الأئمة وإلى علم آخر من العلوم لمالوا أيضاَ معهم ولم يسكتوا عن التعلل بأن ما اشتغلوا به هو علم الدين، وأن لا مطلب لهم سوى التقرب إلى رب العالمين (158)".

    ومن استقراء الأفكار في النص نجد أن:

    1 - الإمام الغزالي رحمه الله قد وضع يده هذه الكلمات على الداء الحقيقي الذي أصاب الأمة نتيجة ذلك الفصام النكد الذي وقع بعد الأئمة الراشدين بين القيادتين: الفكرية والسياسية، فدمغ تاريخنا بتلك السمة التي لم نزل نعاني منها، حيث وجدت ممارسات سياسية غير إسلامية، نجمت عن جهل الساسة بالسياسة الشرعية الإسلامية… لدينا فقه نظري افتراضي لا مساس له بقضايا الناس، ولا يعالج مشكلاتهم اليومية بالطريقة العملية نفسها التي كانت تعالج فيها تلك القضايا على عهد الصحابة والتابعين، فمعظم القضايا الفقهية، وكثير من المسائل الأصولية ليست إلاّ أموراً افتراضية ولدتها المناظرات والمجادلات والقضايا الخلافية.

    2 - تحول الفقه، بعد تلك الممارسات الخاطئة، من وسيلة لضبط حياة الناس ووقائعها بضوابط الشريعة إلى وسيلة لتبرير الواقع المطلوب، أياً كان ذلك الواقع، فأورث ذلك الحياة التشريعية لدى المسلمين نوعاً من القلق الغريب كثيراً ما جعل الأمر الواحد من الشخص الواحد في زمن واحد في زمن واحد ومكان واحد حلالاً عند هذا الأصول الفقهية، وباب واسع من أبواب الفقه عرف بباب "المخارج والحيل " (159) وأصبح إتقان هذا الباب والمهارة فيه دليلاً على سعة فقه الفقيه ونبوغه وتفوقه على سواه، وكلما تقدم الوقت وضعف سلطان الدين على أهله تفاقم هذا الأمر وتساهل الناس في أمر الشرع حتى وصل الأمر لدى بعض القائمين على الفتاوى أنهم أخذوا يفتون بما لا دليل عليه، ولا يعتقدون صحته زعماً منهم أن في ذلك تخفيفاً على الناس أو تشديداً يضمن عدم تجاوز الحدود كأن يرخص بعضهم لبعض الحكام بما لا يرخص فيه لعموم الخلق (160).

    وقد يسال أحدهم عن الوضوء من لمس المرأة، ومس الذكر فيقول: لا ينتقض به الوضوء عند أبي حنيفة.

    وإذا سئل عن لعب الشطرنج وأكل لحوم الخيل قال: حلال عند الشافعي .

    وإذا سئل عن تعذيب المتهم، أو مجاوزة الحد في التعزيرات قال: أجاز ذلك مالك .

    وإذا أراد أن يحتال لأحد في بيع وقف إذا تخرب وتعطلت منفعته، ولم يكن لمتوليه ما يعمره به أفتاه بجواز ذلك على مذهب أحمد؛ حتى أصبحت أوقاف المسلمين تتحول من الوقف إلى الملك الخاص في كل مجموعة من السنين(161).

    وهكذا ضاعت مقاصد الشرع بضياع تقوى الله، وأهملت قواعده الكلية، حتى بلغ الأمر بسفهاء الشعراء وغواتهم ومجّانهم حد التندر بأحكام الله كأن يقول أبو نواس:

    أباح العراقي النبيـذ وشربه وقال حرامان المدامة والسكر

    وقال الحجازي الشرابان واحد فحلت لنا من بين قوليهما الخمر

    سآخذ من قوليهما طرفيهما وأشربها لأفارق الوازر الوزر

    لقد هان الرجال الذين يحمون بيضة الدين، فهان على الناس دينهم حتى غدا تجاوز الحدود أمراً يقبل عليه الناس بحجة التيسير، فصار ذلك شأن بعض المفتين من الذين هدموا جدار الهيبة وأباحوا لأنفسهم الإفتاء بما يستجيب لهوى النفوس، قابلهم فريق تصلب وتشدد، وحاول أن يبحث عن أغلظ الأقوال وأشدها ليفتي من يستفتيه، ظناً منه أنه في هذا يخدم الإسلام، ويرد الناس إلى الأخذ بعزائمه، ولكن الأمر ليس كذلك، النتيجة لم تكن - دائماً - كما توقعوا إذ كثيراً ما يحدث العكس فتنفر العامة من الشرع، وتأبى الانقياد له، وترى فيه العسر بدل اليسر، كما في قصة الملك الأندلسي الذي سال الفتي المالكي يحنى بن يحنى(162) عما يجب عليه أن يفعله كفارة لوقاعه في نهار رمضان، فأجابه بأن عليه صيام شهرين متتابعين لا يجزئه غيرهما. وكان عليه أن يفتيه بالعتق أولاً، ولما سئل عن ذلك قال: إنه يستطيع أن يعتق مئات الرقاب فلا بد من أخذه بالأشق وهو الصيام، ولو احتكامه استجابة ذاتيّة فطرية طوعية بلا عنت ولا مشقة، وفي الوقت نفسه لا يدع الناس أحراراً يمتطون مراكب الهوى، لو فعلنا ذلك لتبين لنا أن كلا الطرفين كان مخطئاً وأن كلاّ منهما قد تجاوز ما قصده الشارع الحكيم.

    إن مهمة العالم هي تبليغ رسالة الله تعالى للناس كما أنزلها الله في كتبه، وكما أرسل بها رسله، وليس له أمر التشديد أو التخفيف

    ((قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللهَ بِدِنِكُمْ… )) (الحجرات :16)

    ((… قل أأنْتُمْ أعْلمُ أمِ الله ُ)) (البقرة: 140) والعبرة بالاتباع فما جاوزه ابتداع سواء أكان في جانب التشديد أم التخفيف.

    التقليد وعواقبـه:

    رأينا فيما تقدم كيف آل أمر الاجتهاد إلى ما أل إليه، لقد خاف كثير من الصلحاء من أن يلج بابه من لا يصلح له، فقد تصدى الفتيا رجال صنعوا على أعين السلطان فأصبحوا يلوون أعناق النصوص إلى حيث مالت بهم رياح الهوى، وتفاوت العلماء بين مرخص ومتشدد، وخشي صلحاء الأمة على مصيرها ومصير دينها وبدؤوا يبحثون عن العلاج فلم يجدوا منفذاً للخلاص إلاّ في إلزام الأمة يا تقليد، ويا لها من أزمة يكون المخرج منها درك التقليد.

    إن تزاحم الفقهاء وتجادلهم فيما بينهم، واستمرار مناقضاتهم ومعارضاتهم وممانعاتهم جعل المخرج الوحيد من الجدل هو الرجوع إلى أقوال المتقدمين في المسائل الخلافية، كما أن الناس فقدوا الثقة بكثير من القضاة لتقربهم من السلطان وإقبالهم على الدنيا وجورهم في كثير من القضايا، فأصبحوا لا يثقون بقضاء القاضي إلاّ إذا كان قضاؤه موافقاً لقول أحد الأئمة الأربعة.

    وهكذا اعتبر تقليد الأئمة الأربعة عند جماهير المسلمين، والتزام أقوالهم في كل ما قالوا به، والتخريج عليها فيما لم يقولوا به ضمانة واقية من الاجتهادات المنحرفة التي قد تصدر عن غير أهل الورع من حملة العلوم الشرعية خدمة للأغراض، وتحقيقاً للرغبات، فقد ادعى إمام الحرمين (توفي 478هـ ) انعقاد إجماع المحققين على منع تقليد أعيان الصحابة، بل عليهم أن يتبعوا مذاهب الأئمة الذي سبروا ونظروا وبوبوا الأبواب وذكروا أوضاع المسائل، وتعرضوا لمذاهب الأولين، ثم أكد ذلك وخلص إلى ذلك الحكم الغريب بكون العامي مأموراً باتباع مذاهب السابرين (163).

    وعلى قول إمام الحرمين هذا، وعلى ادعائه إجماع المحققين، بنى لبن الصلاح (643هـ ) دعواه بوجوب تقليد الأئمة الأربعة لانضباط مذاهبهم وتدوينها، وتحرير شروطها، ونحو ذلك مما لم يتوفر لمذاهب سواهم من الصحابة والتابعين(164) وتناقله عنه - بعد ذلك - المتأخرون(165). ومن هنا بدأ إهمال الناس للكتاب الكريم وعلومه، وإعراضهم عن السنة وفنونها، وقنعوا من العم بنقل الأقوال والمذاهب وتقعيدها وتأصيلها والجدال عنها، والتفريع عليها، والتخريج منها في أحسن الأحوال.

    واستمر الانحدار واشتد الخلاف وتعمق ونشأت بعد ذلك قرون على التقليد المحض، فركدت حركة الفكر، وذوت شجرة الاجتهاد، وانتشرت الفتن وعم الجهل، وأصبح الفقيه العالم - في نظر الناس - هو ذلك الذي حفظ جملة من أقوال الفقهاء وتزود بعدد من الآراء، دون تمييز بين قويها وضعيفها، وصار المحدث من حفظ جملة من الأحاديث. صحيحها وسقيمها.

    وليت الأمر توقف عند هذه الحدود، فقد نزل الحال عن هذا الدرك الهابط إلى ما هو أشد هبوطاً منه، كأن شمس العلوم غابت عن دنيا المسلمين وعقم الفكر، فراجت سوق البدع، ونفقت بضاعة الانحراف، وشاعت الخرافات فاتخذت أشكالاً مختلفة، مما أفسح أمام الغزاة الطريق ليكتسحوا الحضارة الإسلامية ويستبيحوا ديار الإسلام.

    حالة الأمة في الأحقاب الأخيرة:

    كانت تلك حالة الأمة التي غفت في أحضان التقليد، ونامت على أحلام ماض مجيد، فمنذ وقوع الفصام النكد بين أولي الأمر ومصادر التشريع لهذه الأمة والناس حيارى تتقاذفهم الأهواء، وعلماء الأمة في شغل عنهم، كل بما يشغله ويرى أنه الأسلم، حتى إن من يطلع على تراث الأمة يكاد لا يصدق أن هذا الخلف الجامد المتحجر من ذلك السلف الحي المستنير؛ ولما قامت النهضة الأوروبية الحديثة، والأمة على تلك الحال، وجد الأوروبيون أمامهم أمة لم يبق من مقوماتها الحقيقية شيء يذكر:

    فالعقيدة خاملة، وإيمان الكثيرين مزعزع، واليقين لم يعد يقيناً، والسلوك منحرف، والاستقامة معدومة، والفكر جامد، والاجتهاد معطل، والفقه مفقود، والبدع قائمة، والسنة نائمة، والوعي غائب، حتى لكأن الأمة ليست هي، وحالة كهذه قد أغرت الذين كانوا يتربصون بالأمة، فاهتبل الغربيون هذه الفرصة واحتلوا البلاد وامتلكوا أزمة العباد، وقضوا على البقية الباقية من مقومات شخصية الأمة حتى وصل الحال إلى ما نحن فيه اليوم، من هوان واستكانة، وغدت مقاليد أمورنا بأيدي أعدائنا يقررون مصائرنا، فنلتمس عندهم الحل لمشاكل أوجدناها بأنفسنا، وشكلناها بأيدينا.

    وخلال ذلك حاولت الأمة بما بقي لها من صبابة الحياة أن تنهض من كبوتها، وتستقيل من عثرتها، فباءت كل محاولاتها بفشل ذريع، لأنها أخطأت السبل المؤدية إلى النجاح وخالفت سنة الله، فقد قامت تلك المحاولات من منطلق تقليد الأجنبي والتبعية للمحتل حتى ازدادت أحوالها سوءاً وبدأ الجيل الجديد من الأمة يتطلع إلى الحل السليم، ويبحث عن البلسم الشافي، فبدأت فئات لا بأس بها من أبناء الأمة تدرك "أن آخر هذه الأمة لن يصلح إلاّ بما صلح بها أولها" فاتجهوا نحو الإسلام ينهلون من عذب معينه، وظهر ما اصطلح على تسميته "الصحوة الإسلامية" وما كان لأعداء الإسلام على اختلاف نحلهم إن يخلوا الساحة لهذه الدعوة المباركة، وما أكثر الأسلحة التي يستخدمونها المحاربتنا - وبعض أبناء جلدتنا الذين يعيشون بين ظهرانينا من تلك الأسلحة - حيث لم ير بعضهم بأساً في أن يكونوا معاول هدم بأيدي أعداء الأمة، وقد تمثل ذلك في أجهزة كثيرة تحاول الكيد للعصبة المؤمنة، وتحول بينها وبين تميد السبيل لاستئناف الحياة الإسلامية، مستعملة شتى الأسلحة، ناصبة بوجه هذه الصحوة أخطر التحديات، فإذا بهذه الصحوة المباركة توجه التحدي المقيت "الاختلاف " فيما تواجه من تحديات هائلة، وكانت التحديات الأخرى كافية لاستنزاف جهد العاملين المخلصين بله "الاختلاف " وإذا بكثير من الجهود تتفتت على هذه الصخرة المقيتة، فبدأنا نرى شباباً ينتسبون إلى السلفية، وآخرون ينتسبون إلى أهل الحديث، وفريقاً ينتسبون إلى المذهبية، وآخرين يدعون اللا مذهبية، وبين هؤلاء وأولئك تتبادل الاتهامات المختلفة من التكفير والتفسيق والنسبة إلى البدعة والانحراف والعمالة والتجسس ونحو ذلك، مما لا يليق بمسلم أن ينسب أخاه إليه بحال، فضلاً عن أن يعلنه للناس بكل ما لديه من وسائل غافلين أو متغافلين عن أن ما يتعرض له الإسلام من محاولات استئصال أخطر على الأمة من تلك الاختلافات، وإذا كان للأزمة المجتهدين أسباب اختلاف تبرر اختلافهم، وتخفف منها، وتساعد على وضعها ضمن ضوابط الاختلاف، فإن أرباب الاختلاف من المعاصرين لا يملكون سبباً واحداً من أسباب الاختلاف المعقولة، فهم ليسوا بمجتهدين، وكلهم مقلدون بمن فيهم أولئك الذين فعون أصواتهم عالياً بنبذ التقليد ونفيه عن أنفسهم، وأنهم يأخذون الأحكام من الكتاب والسنة مباشرة دون تقليد، وهم في الحقيقة يعكفون على بعض كتب الحديث، ويقلدون كاتبيها في كل ما يقولون في الحديث ودرجته ورجاله ويتابعونهم في كل ما يستنبطونه من تلك الكتب أو ينقلونه من الفقهاء، وكثير منهم ينسب لنفسه العلم بالرجال ومعرفة مراتب الجرح والتعديل وتاريخ الرجال، وهو في ذلك لا يعدو أن يكون قد درس كتاباً من كتب القوم في هذا الموضوع أو ذاك فأباح لنفسه أن يعتلي منبر الاجتهاد، وحق له أن يتعالى على العباد، وحري بمن نال نصيباً من العلم أن ينهاه علمه أن يكون من الجاهلين، وأن يترفع عن توزيع الألقاب واتهام الناس، ويدرك خطورة ما تثعرض له عقيدة الأمة فيعمل على الذب عنها، ويحرص على جمع القلوب، وما دام الجميع يقلدون ويأخذون عن أئمتهم أقوالهم على اختلافهم - وإن زعموا غير ذلك - فلا أقل من أن يلتزموا بآداب الاختلاف التي عاش في كنفها كرام الأئمة من السلف.

    لقد كان المؤمنون المخلصون يؤملون أن تنطلق هذه الصحوة الخيرة لتردم ما أحدثته الأفكار الكافرة والملحدة، والعقائد الزائفة المنحرفة من هوة سحيقة في كيان هذه الأمة التي اجتالت الشياطين عقول وأفئدة الكثير من أبنائها، وتطهر قلوبهم من ذلك الزيغ لتحل محله العقيدة الإسلامية الصحيحة، ثم تنطلق برسالة الله إلى هذا العالم الفسيح فتعلو كلمة الله في الأرض، ولكن ما يحز في النفس أن يعمل بعض أبناء المسلمين ما يستحق من الأمور وما لا يستحق، الأمر الذي شغل المسلمين بأنفسهم، وبدد الكثير من طاقاتهم، وخلط أمامهم الأشياء خلطاً عجيباً جعلهم لا يفرقون بين الهنات الهيِّنات وعظائم الأمور، وبين يسيرها وجليلها، فكيف يمكن لقوم هذا شأنهم أن يعالجوا قضاياهم حسب أهميتها وأن يرتبوا الأمور بشكل يجعلهم قادرين على استئناف مسيرة الحياة الإسلامية؟!

    إن إثارة الخلاف بين المسلمين، أو تنمية أسبابه خيانة عظمى لأهداف الإسلام ، وتدمير لهذه الصحوة المعاصرة التي أحيت الأمل في النفوس، وتعويق لمسيرة الإسلام ، وتثتيت لجهود العاملين المخلصين لا يرضي الله جلّ شأنه، ولذلك فإن من أكثر وأهم واجبات المسلمين اليوم عامة - والدعاة منهم خاصة - بعد الإيمان بالله تعالى: العمل على توحيد فصائل حملة الإسلام ودعاته، والقضاء على كل عوامل الخلاف بينهم، فإن كان لا محالة فليكن في أضيق الحدود، وضمن آداب سلفنا الصالح، ولا يمنع اختلاف الآراء من التقاء القلوب لاستئناف الحياة الإسلامية الكريمة ما دامت النية خالصة لوجه الله تعالى، وعندها فلن يعدموا التوفيق والتأييد من الله.

  6. #16
    تاريخ التسجيل
    Apr 2005
    المشاركات
    153
    آخر نشاط
    07-05-2013
    على الساعة
    09:42 PM

    افتراضي

    أسباب الاختلاف اليوم
    من المسلم به أن أسباب الاختلاف تتباين بين الأعصار، وإن كان كل عصر يورث الأعصار التالية بعض أسبابه، وإن من أبرز وأهم أسباب الاختلاف اليوم بين المسلمين: الجهل بالإسلام، أو العلم الناقص به.

    كانت الحالة العلمية في بلاد المسلمين قبل دخول المستعمر الكافر إليها ما وصفنا، أما بعد دخوله ديار الإسلام فقد ازداد الأمر سوءاً، فقد عرف المحتلون أين يكمن فضل هذه الأمة، فوجهوا اهتمامهم إلى وضع برامج التعليم وبناء مؤسساته بالطريقة التي تضمن لهم عقول المسلمين وتغيير أفكارهم حتى تصبح مهيأة لقبول الأوضاع والأفكار العالمية الجديدة ومحاولة الانسجام معها، زعماً من المستعمرين الكفرة أن في تقبل المسلمين للواقع الجديد دفعاً لهم في مدارج الرقي والتقدم قياساً على البلاد الأوروبية التي لم تخط خطوتها الجادة نحو مدارج الحضارة إلاّ بعد أن تمردت على الأحكام الدينية، وتحررت من ربقة الكنيسة، وأن الدين - أي دين بزعمهم - ليس إلاّ قيداً يحول دون انطلاق الإنسان نحو النعيم المنتظر((كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إلاّ كَذِباً )) (الكهف :5) وإذا كانت هذه الادعاءات صحيحة بالنسبة لأديانهم المحرفة فما أبعد أن يصح ذلك بالنسبة للإسلام الذي شاء الله أن تسعد به البشرية وتحقق سائر طموحاتها وهي تتحرك بنور الله.

    وسعياً لقطع الأمة عن أسباب وجودها وحياتها الإسلامية وضع المستعمر الكافر كل العراقيل والعقبات أمام التعليم الإسلامي، وما يمكن منه وهو تعليم اللغة العربية، وتحقيقاً لهذا الهدف فقد أهمل الطلبة الذين ينحون منحى التعليم الإسلامي، وبث الأفكار التي تقلل من شأنهم وتستهين بدراساتهم التي لم تعد تؤهلهم لشغل أدنى المراتب والمناصب، وبالمقابل خص بالرعاية والعناية الطلبة الذين انخرطوا في المدارس الحديثة، وتلقوا تعليمهم فيها، وفتحت أمامهم أبواب المستقبل الزاهر، فأصبحت المواقع القيادية في الأمة وقفاً عليهم، وهكذا ضيق الخناق على أهل التعليم الإسلامي واللغة العربية وسدت جميع السبل المؤدية إليه، ولم يعد يقدم على سلوك سبيله إلاّ نزر يسير من الطلبة يتعرضون - عادة - إلى مضايقات كثيرة جداً قد تحملهم على التراجع في أي مرحلة من مراحل الطريق، ومن أصر على الاستمرار فإن أمامه -دائماً - ألواناً من التمييز بينه وبين لآخرين، كما قلنا، في الأعمال والوظائف والمرتبات والدرجات تجعله يشعر بالظلم وانتقاص القدرة، لذلك فإن التعليم الإسلامي، في معظم بلاد المسلمين، قد قلَّ طالبوه وتدنى مستواه، وصار معظم الذين يقبلون عليه كمن يزرع في أرض لا يرجو جني حصادها، وقد لا يدفعهم إلى هذا النوع من التعليم إلاّ ظروف معينة، لا يقوون على التحرر من ضغوطها حتى بعد التخرج حيث السبيل موصدة أمامهم، ولا قدرة لهم على ممارسة الدور الذي ينبغي العالم أن يقوم به في المجتمع وتحقيق الرسالة المنوطة به، وأمام الأبواب الموسدة يفقدون استقلالهم وتضمحل شخصياتهم ويُحْملون على الانخراط في مؤسسات دينية رسمية أعدت، من قبل، لخدمة أغراض مرسومة محددة لا يستطيعون تجاوزها، حيث يحال بينهم وبين تأدية دورهم في المجتمع، وفقد الناس ثقتهم بهم.

    وفي محاولة لتعميق الهوة بين هذه الأمة وعقيدتها، ورغبة في قطع الجذور التي تصلها بشريعتها، حاول المستعمر الكافر وضع التعليم الإسلامي وتعليم اللغة العربية في الظل، وأخلى الساحة لأفكار ومبادئ اختارها، وزين لشباب الأمة ورود حياضها، فلم يجن هذا الشباب إلاّ الشوك والقذى. ولم يذق غير مر العلقم، لقد جرّب الشباب المسلم كل ألوان الفكر الذي قدم له من شيوعية إلى اشتراكية إلى راديكالية وقومية وديمقراطية وغيرها مما زُيِّنَ له من الغثاء الذي زاد الأمة الإسلامية هواناً على هوان، وذلاً فاق ما كانت فيه، وأيقن أن الإسلام - وحده - القادر على معالجة مشكلات الأمة، والنهوض بها من كبوتها، والقضاء على أسباب تخلفها، فقرر أن يتجه - بعد أن تاهت به السبل - إلى الإسلام ، وأن يسلك السبيل إليه من غير رفيق سوء يخاف على دينه ونفسه، ولما واجهته مشكلة التفقه في الدين ومعرفة أحكامه لجأ إلى الكتب من غير دراسات منهجية أن أصبح هؤلاء الشباب يفهمون الإسلام من خلال الكتب التي قرؤوها فرؤوا جانباً محدوداً من الإسلام لا يعطيهم الفكرة الشاملة المتكاملة عنه، ولا يمكنهم معرفة مقاصده وكلياته، ولا يمنحهم الرؤية السليمة من خلال غاياته، فهم أشبه بمجموعة من المكفوفين مرت أياديهم على مواضع متفرقة من جسم الفيل واعتبر كل منهم ما لمسه هو الفيل، وهكذا حال المسلمين مع الإسلام وتركب عربة الهوى تطوف بها بين شرق وغرب حتى كأن لم يعد يربطها بالإسلام إلاّ أسماء ورثتها، ولولا بقية حياء لتبرأت منها. وأخرى تحن للعودة إلى دوحة الإسلام الوارفة ولكنها تتخذ إليها سبلاَ مختلفة فيفرق بينها الاختلاف، ويمكِّن منها الأعداء، وتلاحقها عصا السلطان تحت كل سماء تحاول أن تسد عليها كل منفذ، وتستأصل شأفتها قبل أن يستقيم عودها.

    سبيــل النجـاة:

    والآن وقد شخص الداء الذي تعاني الأمة منه، فلعل فيما يأتي شيئاً من علاج:

    أولاً:

    إن على المسلمين المخلصين الذين يعلمون في حقل الدعوة الإسلامية، ويعيشون واقع مأساة الأمة وحقيقتها أن يختاروا مجموعة من أذكى أبناء الأمة وأنبه شبابها، ويهيؤوا لهم أفضل السبل لدراسة علوم الشريعة الذين يجمعون بين العلم والقدوة الحسنة والتقوى والفكر السليم والإدراك القويم لغايات الإسلام ومقاصده وكلياته والفقه في علومه، وأن يتخذوا من أسلوب التربية النبوية منهجاً لهم، ويعضد هؤلاء الشباب فئة أخرى تمكنت من العلوم العصرية المختلفة ممن نرى فيهم أنهم على قدر كبير من الإخلاص والتقوى، اعل هؤلاء وأولئك بعد ذلك أن يوجهوا المسيرة ويرشدوا الصحوة ويسددوا خطاها، فتستعيد الأمة عافيتها، وتستأنف دورها القيادي للبشرية التي تدنو من الهاوية يوماً بعد يوم، ولا نجاة لها إلاّ في الإسلام.

    ثانيــاً:

    تعديل مسار الفكر لدى المسلمين، بحيث تعالج الأزمة الفكرية التي يعيشها المسلمون اليوم، ولا يدرك إلاّ القلائل أبعادها، هذه الأزمة التي تبرز بوضوح من خلال انهيار مؤسسات الأمة، وانعدام منظماتها وتدني مستوى الوعي والمعرفة والتربية في أبنائها، وتفكك علاقاتها وانحراف الكثرة الغالبة من قياداتها، وإحباط المحاولات الخيرة للنخبة الصالحة من أبنائها، كل ذلك لأن الإسلام أقصي عن حياة الأمة، وغدت الهوة عميقة بين مُثُلِ الإسلام وبين جماعات بشرية ترى الإسلام سابة في السماء لا تمطر ولا تحيي الموات، أو ماء على صخرة ملساء لا ينبت زرعاً ولا كلأ، حيث القلوب غلظت وعلاها الران، والعيون عمشت فما عادت تفرق بين خير وشر.

    إن المؤسسات التعليمية المختلفة قد أخفقت في أن تقدم للأمة الإنسان المسلم السوي، فالجامعات التي أقيمت على النمط الغربي في بلاد المسلمين، لم تر أن من مهمتها إعداد العالم المسلم في سائر فروع المعرفة والذي يقوى على أسلمة جميع المعارف والعلوم على يديه، بل رأت أن مهمتها: إعداد المتعلم المفتون بعلوم الغرب وفنونه، والذي سرعان ما يدير ظهره لعقيدة الأمة وأهدافها وغاياتها في الحياة. فخرجت تلك الجامعات أجيالاً ضعيفة في انتمائها، مرتبكة في علاقاتها، مضطربة في تفكيرها، عاجزة عن تسخير معارفها لخدمة الأمة.

    وأما المؤسسات التعليمية التي أضفيت عليها الصبغة الشرعية، كالأزهر والجامعات المماثلة له، أو الكليات والمعاهد المشابهة لكلياته ومعاهده فهي وإن نجحت بشكل محدود في أن تقدم للأمة بعض المتخصصين الجيدين في بعض العلوم الشرعية، إلاّ أنها عجزت عن أن تعدم للأمة علماء مسلمين قادة ومفكرين ومجددين يستطيعون أن يقدموا الإسلام للأمة من خلال كلياته وغاياته ومقاصده، ويواجهوا التحديات المعاصرة، وينتصروا عليها، ولذلك انحسر الفكر الإسلامي، ولم يعد هو المهيمن على حياة المسلمين وتفكيرهم، وانفتحت عقول المسلمين وقلوبهم لكل ألوان الفكر المغاير للإسلام، ووقف المسلمون عاجزين عن معالجة قضاياهم في مجالات السياسة والاقتصاد والتنظيم الاجتماعي وغيرها، ناقلين نقلاً مشوهاً كل ما يرونه لدى الآخرين، وفتكت الصراعات المختلفة بين المتعلمين من أبناء الأمة في سائر مقوماتها، هذه الصراعات التي كانت تحسم في الكثير الغالب لصالح الفريق المتأثر بالغرب، المفتون بثقافته، وبدلاً من أن توحد الطليعة المؤمنة صفوفها وتعمل على مواجهة هذه التحديات شغلت - للأسف - بصراعات وقضايا خلافية، وذلك لاختلاط الجزئيات بالكليات والمقاصد بالمبادئ في أذهان الكثيرين من أبنائها.

    إننا بحاجة ماسة إلى الفكر الإسلامي السليم القائم على فهم روح الإسلام وغاياته وقواعده الكلية، ومراتب أحكامه من خلال مصدريه العظيمين: الكتاب الكريم وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم . كما نحتاج إلى دراسة سبل السلف الصالح في تعامله مع هذه المصادر خلال القرون الخيِّرة وأساليب فهمهم لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، لنتمكن من إعادة طرح التصورات والحلول الإسلامية لما تعاني منه الأمة بشكل يجهلها على يقين تام ا، الإسلام هو السبيل الأوحد لإنقاذها وفيه الحل الأمثل لجميع مشكلاتها، هذا اليقين الذي يحمل الأمة على الالتفاف حول أسس الفكر الإسلامي بوعي وإدراك يحول بينها وبين الشياطين أن تجتالها، فإذا ثابت الأمة إلى رشدها، ووضعت يدها على الجرح، وعرفت موطن الداء لا بد لها بعد ذلك أن تتبين الخطوات التي يجب أن تملكها للوصول إلى الدواء وتحقيق الهدف، وما ذلك عنها ببعيد.

  7. #17
    تاريخ التسجيل
    Apr 2005
    المشاركات
    153
    آخر نشاط
    07-05-2013
    على الساعة
    09:42 PM

    افتراضي

    الخاتمـــــــــــــة
    وريثما يتم تحقيق الهدفين لا بد من وعي الطليعة المؤمنة الجملة من الأمور حتى تأمن على نفسها العثار منها:

    1 - أهمية إدراك الشباب المسلم أنه وإن كان الباري جلت قدرته قد يسر القرآن للذكر وهيأ لنا سبل الاطلاع الواسع على السنة من خلال كتبها الكثيرة المتوفرة فإن الأخذ عن تلك المصادر بمبادرات فردية فيه الكثير من المحاذير، فلا بد من الاستعداد السابق ثم التزود لذلك بأدواته التي فصلها أهل الاختصاص من معرفة ضوابط الاستنباط وقواعده، وإتقان العربية وأساليب التعبير فيها، ومعرفة علوم الكتاب والسنة والناسخ والمنسوخ، والعام والخاص، والعام المراد به الخصوص، والمطلق والمقيد من النصوص وغير ذلك من عوارضها، فإن أي قول يصدر عن المسلم من غير إحاطة ومعرفة بتلك الوسائل إنما هو قول في الدين بالتشهي والخرص والتخمين، من غير ولا هدى ولا علم، ومن فعل ذلك فقد ركب مركباً صعباً وأودى بنفسه والعياذ بالله، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قال في القرى، بغير علم فليتبوأ مقعده من النار "(166) وهذا النوع من المعرفة لا يمكن تحصيله من خلال قراءة كتاب أو كتابين، بل لا بد من دراسة منهجية متقية، تضع في يد الدارس مفاتيح تلك العلوم التي تهيء له سبيل الولوج إلى ساحة الفكر الإسلامي والعلوم الإسلامية، وحتى تؤتي تلك الدراسة أكلها لا بد أن تعتمد على البحث المتقصي الذي يقوده الأستاذ المتقي والموجِّه المجيد، والناقد البصير، في ظل من تقوى الله وابتغاء الأجر منه.

    2 - لا بد من التنبيه إلى أن هذه الشريعة أنزلت لتسعد الناس في الدارين: الدنيا والآخرة، ولتحقق لهم مصالحهم بما ينسجم وقدراتهم العقلية التي أنعم الله بها على عباده، فكرمهم سبحانه على صائر مخلوقاته، ولم تتضمن الشريعة السمحاء أمراً لا يطيق الناس إتيانه أبداً ولذلك قال الله تعالى: ((وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدّين مِنْ حَرَجٍ )) (الحج:78) وقد يسر سبحانه على عباده حتى يعملوا بهذا الدين في ظل المحبة لا القسر والإكراه، ويقول جلّت قدرته في ذلك: ((يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْر َ)) (البقرة: 185) و((يُرِيدُ اللهُ أنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ )) (النساء: 28).

    وكل الأحكام الشرعية حوت مصلحة العباد وحرصت على تحقيق النفع لهم، ولا شيء فيها يعود الله تعالى نفعه، ذلك لأنه تعالى هو الغني الحميد، ولذلك فإنه لا بد من فهم جزئيات الشريعة في ضوء تلك الكليات ونحوها، ومن لم يحط بكليات الشريعة، ويفهم مقاصدها، ويدرك قواعدها فإنه لن يستطيع أن يرد الفروع إلى الأصول والجزئيات إلى الكليات، يقول الإمام ابن برهان(167) : "… إن الشرائع سياسات يدبر بها الله عباده، والناس مختلفون في ذلك بحسب اختلاف الأزمنة، فلكل زمان نوع من التدبير، وحظ من اللطف والمصلحة تختص به، كما أن لكل أمة نوعاً من التدبير يصلحهم وإن كان ذلك مفسدة في حق غيرهم "(168).

    وقد اتفقت كلمة علماء الأمة على الأمة على أن أحكام الشريعة - كلها - معللة بمصالح العباد، ولأجلها شرعت، سواء منها ما هدانا الله لمعرفته بالنص عليه أو بالإيماء إليه؛ وما لم نهتد إليه فلحكمة يعلمها الله جلّ شأنه، ولذلك فإن كثيراً من الأحكام الاجتهادية تتغير بتغير الأزمنة، وقد تختلف باختلاف الأشخاص وطاقاتهم وقدراتهم وظروفهم.

    كذلك ينبغي أن ندرك أن نصوص الكتاب والسنة، منها ما هو قطعي في ثبوته، وهو القرآن العظيم والمتواتر من السنة.. وأن من السنة ما هو ظني في ثبوته، مثل: أخبار الآحاد. ودلالة النص قد تكون ظنية، وقد تكون قطعية كذلك، ومعرفة كل ذلك له أثره في الاستنباط والاجتهاد والفهم من النص، فليس لأحد أن ينكر على الآخرين ما قد يفهمونه من النص من فهم مخالف لفهمه، ما دام اللفظ يحتمله، والدليل يتسع له، ونصوص الشرع الأخرى لا تناقضه أو تعارضه، ومعظم الأحكام المتعلقة بالفروع والمتناولة للنواحي العملية هي من النوع الذي يثبت بالطرق الظنية رحمة من الله تعالى بعباده، ليتسع للناس مجال الاجتهاد فيها، وما دام الشارع الحكيم قد فتح باب اليسر للعباد، وجعل مصلحة الناس معتبرة فلا يليق بأحد أن ينسب مخالفاً له في أمر من هذه الأمور إلى كفر أو فسق أو بدعة، بل عليه، يلتمس لمخالفه من الأعذار ما يجعل حبل الود موصولاً بينهما، فيحظى بحبه وتقديره ويرعى أخوته ووداده.

    3 - إن من أهم الواجبات أن يدرك الجميع أن أخوة الإسلام ووحدة صفوف المسلمين المخلصين والحفاظ عليها ونبذ كل ما يسيء إليها أو يضعف من عراها من أنهم الفرائض وأخطرها، وعبادة من أهم العبادات، وقربة من أفضل القربات لأننا بتلك الأخوة نقوى على التصدي لكل العقبات التي تعيق استئناف الحياة الإسلامية على الصورة التي ترضي الله ورسول الله صلى الله عليه وسلم ، ويكفي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نفرنا من الفرقة بأن أهدر دم المفرق للجماعة، ولذلك فإن التفريط بالأخوة الإسلامية أو المساس بها لمجرد اختلاف في الرأي أمر لا يجوز لمسلم أن يفعله، أو أن يسقط في شراكه، ولا سيما في هذه الظروف التي تداعت فيها علينا الأمم، تريد أن تطفئ جذوة الإيمان التي بدأت تتقد في القلوب، وتبيد البذرة الطيبة التي بدأت تشق التربة رغم الأيدي العابثة التي تنهال عليها وتحاول اجتثاثها.

    إن الأخوة في الله ووحدة القلوب بين المسلمين تحتل المراتب الأولى للواجبات، بل هي في مقدمتها لأنها شقيقة التوحيد وقرينته، كما أن هناك مراتب للمنهيات يقع النيل من الأخوة في مقدمتها كذلك. ولذلك فإن علماء السلف كثيراً ما يفعلون المفضول ويتركون الأفضل منه مراعاة للائتلاف وخروجاً من الخلاف، وقد يتركون المندوب، في نظرهم، ويفعلون الجائز تحقيقاً لذلك.

    قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "المسلمون متفقون جواز صلاة بعضهم خلف بعض، كما كان الصحابة والتابعون ومن بعدهم من الأئمة الأربعة، يصلي بعضهم خلف بعض، ومن أنكر ذلك فهو مبتدع ضال مخالف للكتاب والسنة وإجماع المسلمين، وقد كان في الصحابة والتابعين ومن بعدهم من يقرأ بالبسملة، ومنهم من لا يقرأ بها، ومع هذا فقد كان بعضهم يصلي خلق بعض، مثل ما كان أبو حنيفة وأصحابه والشافعي وغيرهم يصلون خلف أئمة المدينة من المالكية وإن كانوا لا يقرؤون بالبسملة لا سراً ولا جهراً وصلى أبو يوسف خلف الرشيد وقد احتجم، وأفتاه مالك بعدم وجوب الوضوء فصلى خلفه أبو يوسف ولم يعد… وكان أحمد يرى الوضوء من الحجامة والرعاف فقيل له: فإن كان إمامي قد خرج منه الدم ولم يتوضأ أصلي خلفه؟ فقال: كيف لا تصلي خلف سعيد بن المسيب ومالك؟(169) ولا يجولن بفكر أحد أن حرصنا على الأخوة الإسلامية ووحدة صف المسلمين يعني التساهل في قضايا العقيدة الأساسية التي لا تحتمل التأويل ضمن حدود القواعد الثابتة في العقيدة، ذلك لأن الحرص على مجابهة أعداء الأمة لن يدفعنا إلى أن نضع أيدينا بأيدي الذين ليس لهم نصيب من الإسلام إلاّ الأسماء بحجة الحرص على الأخوة، فالقضايا الخلافية التي لا يجوز أن تفرقنا هي تلك التي اعترف بها كرام العلماء من أئمة السلف، وتعاملوا معها من خلال آداب فاضلة، وكان لديهم من الأدلة ما يجيز أكثر من وجه ".

    4 - كما أن الأمور المعروفة أن الباري سبحانه قد شرع للناس تأدية العبادات في كثير من الأمور على درجات تتنوع بين الأفضل والاختيار والجواز، وإن كانت الدرجات السابقة كلها تلتقي في زاوية القبول عند الله تعالى، لكنها تتفاوت في المراتب، فكثير من الفرائض والواجبات لها صور متعددة تدخل ضمن هذه الدرجات الثلاث، فيمكن أن تؤدى العبادة على أفضل صورها الشرعية فتقبل مع ثواب الفضل، كمن يصلي أول الوقت مع الجماعة ويؤدي سائر السنن المطلوبة للصلاة، وهناك الاختيار وهو تأدية العمل نفسه دون مرتبة الأفضل كمن يصلي في الوقت ولكن ليس في أوله، بل في وقت الاختيار منه، ثم المرتبة الثالثة: مرتبة الجواز وهي المرتبة التي إن قبل العبد لنفسه بأقل منها سلك في عداد المقصرين، وفي الثر (حسنات الأبرار سيئات المقربين ) فمن انتظر من جميع الناس على اختلاف ظروفهم وأوضاعهم تحقيق الصورة المثلى للإسلام، فقد أراد أمراً ليس من السهل إدراكه، ولولا تفاوت مراتب العبادات والطاعات لما تباينت درجات المؤمنين في الجنة، فطاقات الناس مختلفة وقدراتهم متباينة وكل ميسر لما خلق له.

    أخرج ابن جرير الطبري في تفسيره(170) أن أناساً لقوا عبد الله بن عمر بمصر فقالوا: نرى أشياء من كتاب الله أمر أن يُعمل بها ولا يُعمل بها فأردنا أن نلقى أمير المؤمنين في ذلك، فقدم وقدموا معه، فلقيه عمر رضي الله عنه ، فقال: متى قدمت؟ قال: كذا وكذا، قال: أبإذن قدمت؟ قال الحسن (راوي الحديث ): (فلا أدري كيف ردّ عليه ) فقال: يا أمير المؤمنين إن أناساً لقوني بمصر فقالوا: إنا نرى أشياء من كتاب الله تبارك وتعالى، أمر أن يُعمل بها ولا يعملون بها فأحبوا أن يلقوك في ذلك. فقال: اجمعهم لي، قال: فجمعتهم له… فأخذ أدناهم رجلاً فقال: أنشدك بالله وبحق الإسلام عليك أقرأت القرآن كله؟ قال: نعم. فهل أحصيته (أي عملت به كله ) في نفسك؟ قال: اللهم لا (ولو قال نعم لخصمه ) قال: فهل أحصيته في بصرك؟ هل أحصيته في لفظك؟ هل أحصيته في أثرك؟ قال: ثم تتبعهم حتى أتى على آخرهم، فقال: ثكلت عمر أمه أتكلفونه أن يقيم الناس على كتاب الله؟ قد علم ربنا أن تكون لنا سيئات. قال: وتلا قوله تعالى: ((إنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً )) (النساء::31) ثم قال: هل علم أهل المدينة؟ أو قال: هل علم أحد بما قدمتم؟ قالوا : لا. قال: لو علموا لوعظت بكم. أي: لنكَّل بهم ليجعلهم غبرة وموعظة لغيرهم.

    وفي هذا درس بليغ يوضح فيه سيدنا عمر رضي الله عنه أن الصورة المثلى التي رسمها القرآن العظيم للمسلم هي صورة أنموذجية ينبغي أن يحاول المسلم تحقيقها، ولكن حين يقصر عنها فعليه أن يدرك أن رحمة الله واسعة، وأنه حين تجتنب الكبائر فإن المسلم على خير كثير إي شاء الله، ولكن عليه أن يطمح دوماً إلى الصورة المثلى ولا يعجب بالأدنى فيقف عند حدوده.

    5 - والعل مما يساعد على التقليل من أسباب الاختلاف في الوقت الحاضر، ويبعث على التحلي بآدابه: معرفة أسباب اختلاف الفقهاء من السلف رضوان الله عليهم، وفهم تلك الأسباب ومدى موضوعيتها، ليكون ذلك من بواعث التمسك بـ"أدب الاختلاف ".

    فإنهم حين اختلفوا، إنما اختلفوا لأسباب موضوعية، وكانوا جميعاً مجتهدين، وكان كل واحد منهم في طلب الحق كناشد ضالة لا فرق لديه بين أن تظهر تلك الضالة على يديه أو على يدي سواه.

    6 - ولعل من الأمور المفيدة في حمل المسلمين على التمسك بآداب الاختلاف معرفة المخاطر الهائلة، والتحديات الخطيرة، والخطط الماكرة التي يعدها أعداء الإسلام للقضاء على الطليعة المؤمنة التي تحمل لواء هذه الدعوة، وليس في حساب الأعداء أبداً أن تفلت من يدها، إن استطاعت، فئة دون أخرى، فالمهم هو القضاء على العامل للإسلام على اختلاف مذاهبهم وتباين وجهات نظرهم، وهذا يجعل إثارة أي اختلاف بين المسلمين، أو تنمية أسبابه، أو تجاوز آدابه خيانة عظمى لأهداف الأمة، وجريمة كبرى في حقها لا يمكن تبريرها أو الاعتذار عنها بحال.

    7 - وقبل هذا وبعده لا مناص من التزام تقوى الله في السر والعن وابتغاء رضاه في حالتي الوفاق والخلاف، مع الحرص على فقه دين الله والتجرد عن الهوى والبعد عن نزغات الشيطان، ومعرفة سبل إبليس والحذر من شراكه، وحسب الأمة ما لقيت وعانت، سبل إبليس والحذر من شراكه، وحسب الأمة ما لقيت وعانت، وقد آن الأوان لتثوب إلى رشدها، وتستنير بكتاب ربها، وتعض على سنة نبيها صلى الله عليه وسلم بالنواجذ، ولعل الله يكتب إنقاذ الأمة على أيدي هذا الجيل من أبنائه البررة، إذا صدقت النية مع الله، واتخذت من السبل ما هو كفيل بقيادة الركب نحو شاطئ الأمان، بعد أن طال ليل التيه والضلال، ولا يبخلن الصالحون من الأمة بالدعاء للعصبة المؤمنة بالسداد والتوفيق، نسأله تعالى أن يعلمنا ما ينفعنا، وينفعنا بماعلمنا ويزيدنا علماً، ويجمع على الحق كلمتنا، ويلهمنا الرشد والسداد في أمورنا كلها، ويقينا شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، وألاّ يجعلنا كالتي نقضت غزلها بعد قوة أنكاثاً، إنه أهل ذلك سبحانه، والقادر عليه.. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

    تم بحمد الله





  8. #18
    تاريخ التسجيل
    Mar 2005
    المشاركات
    4,507
    الدين
    الإسلام
    آخر نشاط
    31-05-2016
    على الساعة
    01:33 AM

    افتراضي



    بارك الله فيكى يا أخت مسلمة ورزقكى الجنة و سقاكى المصطفى شربة هنية مرية لا تظمئى بعدها أبدا ً على هذا المجهود أنت وكل أعضاء المنتدى الأحبة.

  9. #19
    تاريخ التسجيل
    Mar 2005
    المشاركات
    14,298
    الدين
    الإسلام
    آخر نشاط
    07-06-2019
    على الساعة
    06:45 PM

    افتراضي

    شكراً لكِ اختي الكريمة على هذا الموضوع الرائع

  10. #20
    تاريخ التسجيل
    Jun 2008
    المشاركات
    11,737
    الدين
    الإسلام
    الجنس
    أنثى
    آخر نشاط
    17-05-2024
    على الساعة
    12:48 AM

    افتراضي

    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

    تحمَّلتُ وحديَ مـا لا أُطيـقْ من الإغترابِ وهَـمِّ الطريـقْ
    اللهم اني اسالك في هذه الساعة ان كانت جوليان في سرور فزدها في سرورها ومن نعيمك عليها . وان كانت جوليان في عذاب فنجها من عذابك وانت الغني الحميد برحمتك يا ارحم الراحمين

صفحة 2 من 2 الأولىالأولى 1 2

كتاب ( أدب الاختلاف في الإسلام ) للدكتور طه جابر فياض العلواني

معلومات الموضوع

الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع

الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)

المواضيع المتشابهه

  1. كتاب الأمراض الجنسية والتناسلية للدكتور محمود حجازي
    بواسطة دفاع في المنتدى منتدى الأسرة والمجتمع
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 30-06-2008, 09:11 PM
  2. عمر بن الخطاب للدكتور الصلابي كتاب الكتروني رائع
    بواسطة عادل محمد في المنتدى منتدى الكتب
    مشاركات: 1
    آخر مشاركة: 16-03-2007, 05:23 PM
  3. كتاب جديد للدكتور إبراهيم عوض
    بواسطة karam_144 في المنتدى منتدى الكتب
    مشاركات: 1
    آخر مشاركة: 09-11-2006, 07:21 PM
  4. من حرف الكتاب المقدس كتاب للدكتور شريف سالم
    بواسطة karam_144 في المنتدى منتدى الكتب
    مشاركات: 10
    آخر مشاركة: 08-03-2006, 01:38 PM
  5. عمر بن الخطاب للدكتور الصلابي كتاب الكتروني رائع
    بواسطة عادل محمد في المنتدى المنتدى الإسلامي
    مشاركات: 1
    آخر مشاركة: 01-01-1970, 03:00 AM

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

المفضلات

المفضلات

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •  

كتاب ( أدب الاختلاف في الإسلام ) للدكتور طه جابر فياض العلواني

كتاب ( أدب الاختلاف في الإسلام ) للدكتور  طه جابر فياض العلواني