الإضطهاد ... مفهومه ! .. أسبابه ! .. وأهدافه !



إن الناظر الخبير إلى دعوى " الإضطهاد " الصادرة عن نصارى المهجر ومن شايعهم من نصارى مصر , يجد فيها مبالغة متعمدة لنيل مكاسب ومصالح مخطط لها من خلال دعوى " الإضطهاد " , فالنصارى يعتبرون أي فعل من شأنه إقامة الدولة وتنظيم الأحوال المدنية والشخصية بين أفراده من باب الإضطهاد !! فلقد نسوا ما هو الإضطهاد الذي ذاقوا مرارته على مر العصور , وذلك بعد أن تنعموا بأكسية الحرية والعدل والسماحة , في ظل الإسلام ودولته !!

يذكر الكاتب " ول ديورانت " في كتابه الموسوعي ( قصة الحضارة ) في كتاب " قيصر والمسيح ص 380 " نموذجاً من الأهوال التي تعرض لها المسيحيون على يد الإمبراطور دقلديانوس في عام 303م: ( ويؤكد لنا يوسبيوس , ولعله يفعل ذلك في ثورة الغضب , أن الناس كانوا يُجلدون حتى تنفصل لحومهم عن عظامهم , أو أن لحمهم كان يُقشر عن عظامهم بالأصداف وكان الملح أو الخل يُصب في جروحهم , ويُقطع لحمهم قطعة قطعة ويُرمى للحيوانات الواقفة في انتظارها , أو يشدون إلى الصلبان فتنهش لحومهم الوحوش الجياع قطعة قطعة , ودُقت عصا حادة الأطراف في أصابع بعض الضحايا تحت أصابعهم , وسُملت أعين بعضهم , وعُلق بعضهم من يده أو قدمه , وصُب الرصاص المصهور في حلوق البعض الآخر , وقُطعت رؤوس بعضهم أو صُلبوا , أو ضُربوا بالعصى الغليظة حتى فارقوا الحياة , ومُزقت أشلاء البعض بأن شدت أجسادهم إلى غصون أشجار ثُنيت ثنياً مؤقتاً , وقد وصل ذلك لنا كله عن المسيحيين أما الوثنيون فلم ينقلوا لنا شيء من هذا ) .

وتحدثنا لجنة التاريخ القبطي بالكنيسة المصرية الأورثوذكسية عن الإضطهادات التي وقعت بعد دقلديانوس : ( ... وقام القيصر مكسيميانوس بعد ديوكلتيانوس , فأذاق المسيحيين كؤوسًا مرة من الإضطهاد , حيث قتل منهم ألوفًا كثيرة وخرب كنائسهم ) ( خلاصة تاريخ المسيحية في مصر ص 76 ) .

وأقدم من هذا الإضطهاد , إضطهاد نيرون سنة 64م : ( وكان سببه أن نيرون بعد أن أحرق رومه اتهم المسيحيين بهذا الحريق , فكانت السنوات الأربع الأخيرة من حكم هذا الطاغية سنين أخطار ومهالك في كل أنحاء المملكة الرومانية , حيث تفننوا في تعذيب المسيحيين , فوضعوا بعضهم في جلود حيوانات برية , وطرحوهم للكلاب فنهشتهم , وصلبوا بعضهم ثيابًا مطلية بالقار وجعلوهم مشاعل يُستضاء بها ليلاً , وكان نيرون نفسه يسير على ضوء هذه المشاعل البشرية ) ( المصدر السابق ص 95 ) .

ويقول الدكتور/نبيل لوقا بباوي عن الإضطهادات التي مارستها الكنيسة الكاثوليكية الرومانية ضد نصارى مصر الأورثوذكس قبل الفتح الإسلامي للبلاد : ([COLOR="rgb(65, 105, 225)"] في عام 631م حاول هرقل إمبراطور الدولة البيزنطية أن يوحد العقيدة المسيحية مرة أخرى في جميع الولايات التابعة لإمبراطوريتة حسب المذهب الأريوسي ذي الطبيعتين للسيد المسيح , وأرسل حاكم جديد هو المقوقس الذي قام بإحراقهم أحياء - أي الأرثوذكس - وانتزاع أسنانهم , لدرجة أن شقيق الأنبا بنيامين بطريرك الأقباط الأرثوذكس في الإسكندرية قام الجنود الرومان بحرق أخيه متياس وأشعلوا فيه النار حيًا لرفضه الإعتراف بقرارات الإمبراطور هرقل الجديد , ويجمع جميع المؤرخين أن هذه الحماقات من جانب المقوقس جعلت الأقباط في مصر يكرهون حكم الدولة البيزنطية وكانوا يصلون أن ينجوا من شرور الجنود الرومان , ولشدة الإضطهاد من جنود الرومان هرب البطريرك الأنبا بنيامين وترك مدينة الإسكندرية وهرب للصعيد بعد أن رأى ما حدث لأخيه وللأقباط الأرثوذكس , وفي هذا الجو المأساوي الدموي حيث تذكر كتب التاريخ القبطي أن دماء الأقباط الأرثوذكس كانت تصل إلى ركب الخيول للجنود الرومان , وفي عام 639م أتى عمرو بن العاص بجيشه إلى مصر ومعه أربعة آلاف مقاتل , وفتح مصر في هذا الجو المأساوي الذي يعيش فيه الأقباط الأرثوذكس من ويلات القتل والعذاب على الجنود الرومان
) ( إنتشار الإسلام بحد السيف بين الحقيقة والإفتراء ص 157-158 ) .

وبعد عصر قسطنطين بقليل من الزمن أعد المسيحيون وثيقة مزيفة بإسمه – أي قسطنطين – أجيز فيها العنف مع الكفار والملاحدة , فقضوا خلال القرن التالي , تحت هذا الشعار , على أتباع الديانات الأخرى وكل من إختلف مع الكنيسة الكاثوليكية .

Rationalist encyclopedia, p442

وبعد أن انتهى المسيحيون " الأغلبية " من الكفار والملاحدة " الأقلية " , توجهوا إلى اليهود تحت شعار ثأر دم المسيح , وفي ظل هذه الذريعة قُتل اليهود وسُلبت ممتلكاتهم , وأجبروا على الخروج من بيوتهم , وقد قال البابا الشهير " هائيلد براند " مشجعًا الحكام المسيحيين على قتل الملحدين والكفار واليهود : " الذي يمنع سيفه من قتل هؤلاء فهو ملعون " !

Herbert Muller: use of the past pp.86-87; Cambridge modern history (1907), vol.10, p. 152; Rationalist encyclopedia, p.270

ومن الحيل التي إستغلها المسيحيون لإضطهاد المسلمين واليهود والذين إختلفوا مع الكنيسة الكاثوليكية هو ما عُرف بـ " محاكم التفتيش " . فباسم هذه الحيلة قتل كثير من الأبرياء الذين يصعب حصرهم من الرجال والنساء والأطفال ذبحًا وشنقًا وحرقًا , الأمر الذي يُعد صفحة مظلمة في تاريخ الإنسانية جمعاء !

وقد إضطر الباحثون في ضوء أمثلة الظلم والإضطهاد والتعذيب هذه إلى أن يقولوا :
" تمتاز المسيحية بين الديانات الأخرى , بأنها قتلت منكريها وشددت عليهم من حيث الكم والكيف لدرجة أنه لا يمكن أن تتنافس معها أي ديانة أخرى " .

Rationalist encyclopedia, p441

وهناك ما يعرف بـ " الإضطهاد الفكري " , والذي يتمثل في حرب فكرية ثقافية , تحجر على الفكر والإطلاع والعلم , كالذي مارسته الكنيسة الكاثوليكية ضد فلاسفتها ومفكريها وعلمائها في القرون الوسطى , إذ يعتبر عصر إزدهار المسيحية وإنتشارها ما يجمع المسيحيون كلهم تقريبًا على تسميته بـ " القرون المظلمة " . وما حادثة إضطهاد برونو وجاليليو منا ببعيد , وهم من أبرز علماء الفلك في القرون الوسطى , فالأول أحرق حيًا , والثاني لكبر سنه عُذب عذابًا شديدًا وأُكره على أن يبريء نفسه من أفكاره الكافرة, التي كان أبرزها أن الشمس تمثل مركزًا للنظام الشمسي بدلاً من الأرض , وهذا ما ثبت علميًا فيما بعد !

ولم يكن برونو وجاليليو ضحايا هذا العصر فحسب , بل إن باباوات الكنيسة وسعوا دائرة السخط على عامة الناس , فأحرقوا كل من أرادوا , زاعمين أنه " عراف " !

Rationalist encyclopedia, pp.622-623

وكذلك ما قامت به الكنيستان : الكاثوليكية والأرثوذكسية من خلال مجامع ومحاكمات كنسية لأكابر رجالها , كلما خرجوا على العالم المسيحي بأفكار وأراء تناقض الموروث العقدي لدى الكنيسة , فظهر مصطلح " الهراطقة " , ذلك المصطلح الذي كان كافيًا عند إطلاقه على أفراد أو جماعات , لحرقهم وحرق مؤلفاتهم وحذر نقلها أو تداولها , ومعاقبة كل من يمتلك هذا المؤلفات أو ينادي بما نادت به من أراء وأفكار بالقتل أو الحرق !

فمتى حدث مثل هذا للمسيحيين أو حتى عشره في ظل حكم الإسلام لهم ؟!

إن الذي نقلتُه – على سبيل المثال - عن لجنة التاريخ القبطي وكذا ول ديورانت ونبيل لوقا , هو بلا شك إبادة جماعية عرقية , يعبر عنها بلفظ يكافئها ويساويها , ألا وهو "الإضطهاد" , وما شهد به التاريخ المسيحي من إرهاب فكري , وقمع ثقافي , وحجر علمي , لا نجد حقيقة ما نصفه به إلا بـ " الإضطهاد الفكري " !

أما الذي نراه من خلال مزاعم النصارى بالإضطهاد الإسلامي لهم في ظل دولة الإسلام , فهو زعم سخيف يُعَبر عنه بطفلة مدللة لدى المتكفلين برعايتها , نسيت ما كانت تلاقيه من عقوق وشدة وإهانات نفسية وجسدية وسوء تربية على يد والدايها الأصليين , فكلما نصحها المتكفلون برعايتها ووجهوها لما فيه مصلتحها , وأرادوا منعها من الإستمرار في تطاولها وتعديها وبطشها عليهم , تزعم إضطهادهم لها !

فنحن إذا ما أخذنا من النصارى البالغين القادرين على حمل السلاح الجزية , جزاء حمايتهم وكفايتهم عدوا ذلك من الإضطهاد !! وهم الذين كانوا يدفعون الضرائب رغمًا عنهم , ودون أي إعفاء لكبير أو صغير من الجنسين , وليس من أجل الحماية والكفاية عنهم !!

وإذا ما قمنا بتغيير اللغة الرسمية للبلاد كما فعل عبد الله بن عبد الملك بن مروان في مصر شرفها الله , عدوا ذلك من باب الإضطهاد !! ولا ندري أي اضطهاد في ذلك , وقد صارت مصر دولة إسلامية يحكمها لسان عربي مبين , ممثل في كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم , واللذين ضمنا حرية العقيدة والتدين لأهل الذمة أنفسهم , كما أن هذا الأمر قد حدث مرارًا وتكرارًا كلما قامت حضارة جديدة أرادت الريادة لنفسها وإثبات ذاتها وصنع أمجادها , ولم يزعم أحد من جراء ذلك الفعل مزاعم " الإضطهاد " !

والناظر الخبير يعلم أن دعوى الإضطهاد في هذا الشأن يراد منها طمس مصادر التشريع الإسلامية . ونُذَكِر , أن عبد الله بن عبد الملك لم ينه عن التحدث باللغة العبرية أو القبطية أو اللاتينية أو اليونانية داخل الكنائس أو حين أداء الشعائر الدينية المسيحية أو اليهودية أو حتى فيما بين أهل الذمة , وما سمعنا عن مسيحي أو يهودي قُتل أو أُحرق بسبب تحدثه بغير العربية !

فعلى هذا تجري مزاعم الإضطهاد , إذ يراد منها تشويه صورة الإسلام , وسد منافذ تحكيمه مرة أخرى بصورة كاملة في شتى مناحي الحياة , والحصول على مكاسب لا يضمنها لهم دينهم ذاته بقدر ما يضمنها لهم تسامح دين الإسلام , ذلك التسامح الذي غر فئة من النصارى , تزداد أطماعهم يومًا بعد يوم , حتى يحصل لهم مرادهم النهائي , وهو تنصير المسلمين والقضاء على الإسلام العظيم , الذي لولاه لما صار لنصرانيتهم وجودًا !

إن " الإضطهاد " الذي يردده بعض النصارى في مصر والخارج , هو في حد ذاته إضطهاد للمسلمين , لأنهم يريدون من خلال هذه المزاعم الكاذبة أرهبة المسلمين داخل بلادهم , وزعزعة أمنهم وإستقرارهم , من خلال تشجيع المتعصبين على التدخل لوقف هذا الإضطهاد المزعوم !

والإسلام ما قهر النصارى - أو حتى اليهود - فكريًا أو حرمهم من عقيدتهم في يوم من الأيام , بل ترك الإسلام لهم المجال العقدي والفكري والثقافي , وكرم مثقافيهم وعلماءهم, وقلدهم أبرز المكانات العلمية والدينية , فيشهد التاريخ فرار كل باحث وطالب للعلم والثقافة من أوروبا إلى دولة الإسلام إبان الحكم الكنسي لأوروبا في القرون الوسطى المظلمة , فعج العالم الإسلامي بفلاسفة المسيحية ورجال الدين , كما ذكرنا سلفًا .

ورغم كل ما قيل , فنحن لا ندعي العصمة لأحد إلا لله ولرسله صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين , فأما الحكام وأولي الأمر , فهم ليسوا بمعصومين , ولكن من حكم فينا بشرع الله فهو العادل المقيم لحدود الله , ومن خالف الشرع أو أهمل في تطبيقه فهو الظالم لنفسه وأمته وشعبه على مختلف طوائفهم , فأي ظلم وقع على النصارى – على فرض وقوعه – بغير وجه حق على يد حاكم مسلم أو جماعة تزعم الإسلام وتحمل رايته , فالإسلام منهما بريء , ولا يُعد ذلك اضطهادًا بالمعنى المشهور عندهم – أي عند النصارى - , لكنها مشكلة عارضة خالف الحاكم أو المسلم تعاليم دينه ودستوره في معاملة غير المسلمين بل ومعاملة أهل ديانته من المسلمين , وقد نقلنا موقف الإسلام العظيم من أهل ذمته , وكيف أنه كفل لهم ما لم تكفله لهم أديانهم !

فهناك أمور ينبغي التنبه لها , فنحن لا نمنع أن يعمد أحد حكام المسلمين إلى "إضطهاد" فئة معينة في زمان من الأزمان , وهذا مخالف طبعـًا للإسلام وشريعته , ولا يتحمل الإسلام وزره ، لكنه قد يقع مع الأسف ، إذ لا نشهد لحكامنا - في أي عصر - بالعصمة مطلقــًا , فهذا من باب وضع النقط فوق الحروف !

وكما ذكرنا أيضًا , أنه لم يعرف تاريخ المسلمين ظلمًا وقع على أهل الذمة واستمر طويلاً , فقد كان الرأي العام – وأهل العلم معه – دائمًا ضد الظلمة والمنحرفين , وسرعان ما يعود الحق إلى نصابه , وقد ذكرنا أمثلة ذلك .

ونحن لا نقول أيضًا بعصمة الدولة الإسلامية كدولة حاكمة , بل أصابها القصور والضعف ونال رعاياها على مختلف انتماءاتهم الدينية بعض الجور والظلم في بعض الأزمنة والأحقاب , خاصة الأغلبية المسلمة , لكننا نقول بعصمة مصادر التشريع في الدولة الإسلامية , القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة والإجماع والقياس ... إلخ , فأيَّما زمان إحتكم المسلمون إلى هذه المصادر , حصل الرخاء والعدل لهم ولأهل ذمتهم ولكل حي عاش في كنفهم , والتاريخ يشهد على ذلك في أوضح شهادة , والتراخي عن تحكيم هذه المصادر في حكم الدولة وإن حملت شعار الإسلام , هو سبب القصور والضعف الذي كان يصيبها في بعض أزمانها , ولا تزال سنة الله في خلقه قائمة , فبمقدار التمسك بهذه المصادر والإحتكام إليها يحصل الخير والعدل والرقي والتقدم , وعلى نقيض ذلك ترى الخلل والفشل مستوليًا وفاشيًا في أرجاء الدولة , وهذه ليست شعارات نزعمها كغيرنا , بل كل كلمة نزعمها لها واقع عملي تاريخي يشهد لها ويؤيدها , ولا تزال سنة الله في خلقه قائمة !

ولا ننسى أيضًا أن الأمر منوط بإلتزام النصارى بالعهد والميثاق المأخوذ عليهم , وعدم الخروج على حكم الإسلام , الذي ضمن لهم – بلا أدنى شك – حقهم في العيش والكسب وحرية العبادة , وعدم التطاول على المسلمين وأذيتهم والتعدي عليهم أو المكر بهم أوتسليم رقابهم لعدوهم !

فليس لهم المساس بشيء من قواعد الإسلام ومقدساته من قرآن أو سنة نبوية وعقيدة وعبادة وأخلاق ، ومسلّمات تاريخية ، وليس لهم شيء من السبّ والشتم والتهكم أو السخرية ، أو إثارة الفتنة الدينية ، أو الطعن بقيم الإسلام وتاريخه وحضارته ، أو الإعتداء على الأعراض والكرامات !

ولعل هذا , أحد أهم الأسباب في وقوع الإضطرابات بين المسلمين والمسيحيين , خاصة في عصور دولة الإسلام , وقد شهد بهذا العديد من المؤرخين المسيحيين , ونقلت هذه الشهادة المجملة - بطريق غير مباشر - , أحد أبرز الكُتَاب الحاقدين على الإسلام والمسلمين , وهى السيدة العنصرية " أ.ل.بتشر الإنكليزية " في مؤلفها " تاريخ الأمة القبطية وكنيستها " , إذ تقول :

( إن الوقائع التاريخية التي جرت في غصون الجيل الثامن للهجرة الموافق الجيل الرابع عشر للمسيحيين هى أعظم شاهد صادق يدلنا على عظم الإضطهاد الشديد الذي عاناه الأقباط على يد الحكام المسلمين الذين تعاقبوا حكم مصر في ذلك الجيل ...
ولو أن المؤرخين المسلمين قد أثبتوا وأكدوا أن تلك الإضطهادات قد جلبها الأقباط على أنفسهم - أي أنهم كانوا السبب في وقوعها عليهم - , وقد جارى المؤرخون المسيحيون إخوانهم في إثبات ذلك بلا بحث في الحوادث والوقائع للحصول على الحقائق التاريخية , كما هى عادة أغلب المؤرخين الإفرنج فقد كانوا يستعملون كلمات نييل المؤرخ الفرنساوي : " حدث بسبب خطأهم " – أي الأقباط – إلا أني قد فحصت تلك الوقائع التاريخية فحصًا دقيقًا في تاريخ المقريزي الذي يُعتبر أصدق مؤرخ مسلم وبعض كتب تاريخية إسلامية أخرى توجه التهم إلى الأقباط فاتضح لي بعد التمعن أن أولئك المؤرخين لم يكونوا على ثقة تامة من إثباتها ...
) ( تاريخ الأمة القبطية وكنيستها 4/1 ) .

فيكفينا ما ذكرته هذه المرأة العنصرية من إجماع المؤرخين المسيحيين والمسلمين على أسباب النزاعات التي قامت أنذاك , وليت شعري إذا كان الأمر على النحو الذي ذكرته هذه المرأة , فما الذي دفع المؤرخين المسيحيين لمجارة المؤرخين المسلمين حسب زعمها ؟! ألا يستحي هؤلاء حين يطعنون في ذمم أسلافهم ؟!

ولك أن ترجع عزيزي القاريء إلى تاريخ المقريزي , لتعلم كذب هذه المرأة وتزويرها , وأن دعوى فحصها الدقيق هو من باب ذر التراب في العيون لخداع القاريء الغربي , فالمقريزي ما ذكر خبرًا من أخبار القوم أصابتهم فيه مصيبة إلا وذكر أن ذلك بما كسبته أيديهم – كما جاء بيان ذلك سلفًا – , حتى قال رحمه الله : ( ولا يخفى أمرهم - أيالنصارى - على من نور الله قلبه , فإنه يظهر من آثارهم القبيحة إذا تمكنوا من الإسلام وأهله ما يعرف به الفطن سوء أصلهم , وقديم معادة أسلافهم للدين وحملته !) ( الخطط 3/285 , والقول الإبريزي ص 65 ) .

وهذه المرآة العنصرية جاء كل كلامها في مؤلفها سالف الذكر بلا دليل واحد يثبت صدق مزاعمها , بل أخذت تبث سمومها وأحقادها طاعنة في شهادات من سبقها بمئات السنين من المؤرخين المسيحيين دون دليل أو سند أو مرجعية توثيقية لما تزعمه , وكل ذلك تم في مؤلفها تحت عنوان خادع , إلا هو : " البحث والفحص الدقيق " !! فتزعم الزعم الموافق لما تريد الترويج له من حقد بغض , ثم تدعي أن هذا ما وقفت عليه بعد البحث الدقيق !! ولم تخبرنا هذه العنصرية : أين هى أدلة بحثها ؟! وما هى مصادر فحصها ؟! وما هو سند دليلها – إن وُجد الدليل أصلاً – ؟!

بل إنك لتعجب من عدم وجود مرجع واحد تتكأ عليه في مؤلفها في معظم الأخبار المسطرة فيه , فهى تورد الأخبار دون الإشارة إلى مصدر أو مرجع معين للإحالة إليه , وهى تريدنا أن نأخذ كلامها المرسل هذا على وجه التسليم والقبول المقطوع بصحته نقلاً وعقلاً !

أما ما تنسبه هذه المرأة لمرجع أو مصدر معين - وهو قليل جدًا - , تجد خلافه قطعًا عند الرجوع إلى هذا المصدر , وهذا حال جميع المؤلفات العنصرية الحاقدة , إذ تجد الكذب والتزوير فيها وقد عجزت الشياطين عن الإتيان بمثله !

والأعجب من هذا , أن العديد من قساوسة النصارى اليوم يميلون إلى هذه المؤلفات حين الإستدلال , ومعلوم أن هذه المؤلفات عجت صدور أصحابها بالحقد والتعصب الصليببي على الإسلام وشريعته , وعلى المسلمين ومقدراتهم , تاركين – عن عمد – أهم المراجع التاريخية المسيحية في هذا الباب , والتي يُعد بعضها أقدم من مراجع الحاقدين بمئات السنين, ومن الناحية التوثيقية لا غبار عليها – عندهم لا عندنا – , بل حسبك أن كاتبيها كانوا للأحداث أقرب , فضلاً عن أرثوذكسية إنتماءاتهم وعربية لسانهم !

يقول الأستاذ / أحمد عبد الله في إحدى دراساته حول هذا الأمر : ( ... عندما رجعت إلى إثنين وثمانين حادثًا , هى كل ما حدث من مواجهات بين المسلمين والنصارى في مصر على مدى التاريخ , وجدت أن وراء هذه الفتنة دائمًا , رجلاً نصرانيًا جاء لكرسي الكنيسة , أو رجلاً مسلمًا جاء لكرسي الحكم , يريد أن يعبث بحقده وغله , محتكمًا إلى هواه ومزاجه الخاص , المخالف للكتب الإلهية , محاولاً قطع أوصال التفاعل التاريخي الإنساني الفكري الثقافي الصامد والصامت والممتد , حتى أصبح وشيجة من وشائج جسد الأمة , تصرخ له كلها إن جرح , وتتألم له إن أوذي , تلك الصرخات وآهات الألم التي تصيب الجسد المارد بذلك الداء الذي أسموه بـ " الفتنة الطائفية " ) (أبو إسلام أحمد عبد الله - الحضارة الغائبة , تاريخ النصرانية في مصر ص 7 ) .

أعود فأقول : إن القوم لا يفرقون بين كل هذه الأمور عند إطلاق دعوى " الإضطهاد " , فهم يريدون التمكين ولو على حساب رقاب المسلمين , فإذا ما أوقفنا تعديهم وتطاولهم , خرجوا على العالم بمزاعم " الإضطهاد " !
[/COLOR]