الفصل الثاني : الارثوذكس
المبحث الاول : الخلقة الجديدة للإنسانفي الإيمان المسيحي - الأب متى المسكين
مطلب اول : نظرية الاب متي
من كتاب الخلقة الجديدة للإنسان
1- قولنا إن المسيح قد وُلِد، هذا يعني لاهوتياً أن الكلمة ابن الله أخذ جسداً لنفسه من العذراء القديسة مريم. ولكن شخص الكلمة ابن الله غير محدود، بل هو مطلق وطبيعته لانهائية. لذلك لمَّا أخذ جسده من العذراء واتَّحد به، نال الجسد صفات ابن الله في اللامحدودية. إذ حُسِبَ أنه جسد يضم ويجمع في ذاته البشرية كلها.
2 - إن كان واحد قد مات لأجل الجميع، فالجميع إذاً ماتوا. «(2كو 14:5).فأصبح كل مَنْ يؤمن بالمسيح يكون قد مات معه وقام، أي استوفى عقوبة آدم وتبرَّأ من الخطية، أحيانا مع المسيح... وأقامنا معه. «(أف 5:2و6)
3- فنحن الذين حُسِبنا أمواتاً موتاً أبدياً بمقتضى الذنوب والخطايا، صرنا بالإيمان الذي هو عطية الله وليس من أعمالنا، أحياءً الآن مع المسيح حياة أبدية وبحال القيامة كخليقة جديدة داست معه الموت والخطية.
مسألة : الخليقة الاولي والثانية
1- النفس أو الروح في الإنسان هي التي خُلِقت على صورة الله كشبهه. ومن البديهي أنها كانت كذلك يوم خُلِقت، ولكن بعد أن أوقع الله العقوبة على الإنسان وأخذ اللعنة، تمزَّقت الصورة واختفى الشبه، هذا بالنسبة للنفس أو الروح.
2- تغيَّرت طبعة الجسد وتشوَّهت الصورة جداً حتى أصبح لا يُرى في صورة الجسد للإنسان أية ملامح من عند الله، خصوصاً لو ارتقينا بمعنى الصورة من حيث البهاء والمجد والحكمة والهيبة والقداسة.
3- ولهذا انقطعت مع الله وشائج المحبة والأُلفة والصداقة والطاعة المطلقة ومعها الحكمة والقداسة والبرارة.
4- فلما سقط آدم وطُرد من أمام وجه الله وعاد إلى الأرض التي منها أُخذ جسده صمَّم الله أن ينفِّذ خطة خلقته الأولى للإنسان وبدأ يعمل على إعادة خلقته (الميلاد الثاني)
5- ولكن على الأساس الذي لا يمكن أن يخطئ فيه الإنسان للموت أو يعصاه أو يموت أو يفترق عنه. فهذه المرة صمَّم أن يخلقه، لا على صورته كشبهه فقط، بل من روحه وجسد ابنه بحال قيامته من بين الأموات خَلَقَه وليس من تراب الأرض
6- أن هذه الخلقة الروحية التي قصدها الله أن تكون من طبيعة ابنه بحال قيامته من بين الأموات كانت قائمة في تدبير الله قبل أن يخلق الإنسان من تراب الأرض، بل وقبل أن يؤسِّس العالم المادي؛ 7- وأن خلقة الإنسان من تراب الأرض لم تأتِ كخطأ في حسابات الله، بل كدرجة أولى في الخلق يتدرَّج فيها الإنسان من خليقة مادية إلى خليقة روحانية
8- مبارك الله أبو ربنا يسوع المسيح، الذي باركنا بكل بركة روحية في السماويَّات في المسيح. كما اختارنا فيه قبل تأسيس العالم، لنكون قديسين وبلا لوم قدَّامه في المحبة، إذ سبق فعيَّننا للتبنِّي بيسوع المسيح لنفسه، حسب مسرَّة مشيئته، لمدح مجد نعمته التي أنعم بها علينا في المحبوب. «(أف 3:1-6)
9- فنحن خُلِقنا، في تدبير الله، قبل تأسيس العالم، لنكون أبناءً لله في الابن الوحيد وعلى صورة الابن في البر وقداسة الحق!! وعلى شبهه في المجد والبهاء » سبق فعيَّنهم ليكونوا مُشابهين صورة ابنه «(رو 29:8)!!
10- إذن، إن أراد الله أن يعود الإنسان إليه ويسلِّم له إرادته وينفتح وعيه وبصيرته الروحية لمعرفة الله والحق، فيتحتَّم أن يعيد الله صياغة أو خلقة الإنسان الذي تشوَّهت صورة الله وشبهه فيه ليصير على صورة الله من جديد وعلى شبهه. 11- لكي يعيد الله خلقة روح الإنسان ليكون على صورته وشبهه كان يلزم أولاً أن يرفع عنه العقوبة بالموت الأبدي واللعنة التي أوقعته تحت غضب الله
12- هذا استلزم من الابن الوحيد أن يتجسَّد بجسد إنسان، إنما بدون خطية. فيأخذ جسداً من العذراء القديسة مريم ومن الروح القدس، أي جسداً طاهراً قدوساً، ثم يضع عليه خطايا البشرية،
13- بموت المسيح بجسد الإنسان، وبقيامته به مبرَّءًا ومبرَّراً، خلق للإنسان فيه جسداً روحياً جديداً لا يخطئ ولا يستطيع أن يخطئ، كما يقول القديس يوحنا في رسالته الأولى (9:3)، لأنه من طبيعته وليس من التراب بعد.
14- على أن الجسد الذي قام به المسيح من بين الأموات جسد روحاني له كل ما لجسد الإنسان من الخواص الإنسانية الطبيعية ما عدا الخطية، وبالتالي عدم قابلية الموت لأنه جسد القيامة من الموت الذي وُهِبَ لنا بسر المعمودية: » لأن كُلَّكم الذين اعتمدتم بالمسيح قد لبستم المسيح «(غل 27:3).
15- وهكذا بالمعمودية استطاع المسيح أن يورِّثنا طبيعة جسده المُقام من الموت، غالباً الخطية ودائساً الموت » إذ خلعتم الإنسان العتيق مع أعماله، ولبستم الجديد الذي يتجدَّد للمعرفة حسب صورة خالقه. «(كو 9:3و10).
16- كل مَنْ هو مولود من الله (بسر المعمودية) لا يفعل خطية، لأن زرعه يثبُتُ فيه (متَّحد بالمسيح)، ولا يستطيع أن يُخطئ لأنه مولود من الله (من طبيعة المسيح القائمة من بين الأموات). «(1يو 9:3)
مسألة : الصراع بين الجسد والروح
1- وهكذا صار الإنسان مكوَّناً من عنصرين: الإنسان القديم الخاطئ الترابي المحكوم عليه بالموت والقابل للخطية؛ والإنسان الجديد الثاني الروحي من السماء على صورة المسيح ومن طبيعته القائمة من بين الأموات، والذي لا يسود عليه الموت، وهو ليس تحت ناموس الخطية
2- ويؤكِّد القديس يوحنا كل مَنْ هو مولود من الله لا يفعل خطية، لأن زرعه يثبت فيه، ولا يستطيع أن يُخطئ لأنه مولود من الله. (1يو 9:3)
3- وهنا نشأ التصارع فينا لأن الجسد يشتهي ضد الروح والروح ضد الجسد، وهذان يُقاوِم أحدهما الآخر، حتى تفعلون ما لا تريدون. «(غل 17:5)
وإنما أقول: اسلكوا بالروح فلا تكمِّلوا شهوة الجسد. «(غل 16:5)ولكن إذا انقدتم بالروح فلستم تحت الناموس. «(غل 18:5)
إن عشتم حسب الجسد فستموتون، ولكن إن كنتم بالروح تُميتون أعمال الجسد فستحيون. لأن كل الذين ينقادون بروح الله، فأولئك هم أبناء الله. «(رو 13:8و14)
4- وهذا لا ينفي أن تكون لنا خطايا بالجسد، ولكن يؤكِّد لنا القديس يوحنا ودم يسوع المسيح ابنه يُطهِّرنا من كل خطية. إن قلنا إنه ليس لنا خطية نُضِلُّ أنفسنا وليس الحقُّ فينا. إن اعترفنا بخطايانا فهو أمين وعادل، حتى يغفر لنا خطايانا ويُطهِّرنا من كل إثم. «(1يو 7:1و8و9)
5- سبق أن قلنا إن الجسد لا يُحسب - بحد ذاته كلحم وعظام - أنه مصدر الخطية أو الشر فهو خليقة الله، والله منزَّه عن أن يخلق الشر.
6- ولكن طبيعة الخطية التي ورثناها من آدم هي “الحرية الساقطة” من مصدرها الإلهي الذي كان يحفظها ويدبِّرها، وما يتبعها من إرادة ومشيئة مسيبة لا ضابط لها، ثم معرفة مفصولة عن الله منحطَّة. هذه كلها صارت لعبة في يد الشيطان.
7- وبناءً على ذلك أصبح لا نفع للجسد ولا منفعة فيه طالما هو مسيَّر تحت هذه القوى المسيبة.
8- أن الصراع بين الجسد العتيق والجسد الجديد الروحاني ليس في طبيعة كل منهما، ولكن في الإرادة والمعرفة. فالجسد العتيق تتحكَّم فيه شهوات التراب التي خضع لها آدم أبوه، ودائرة معرفة الجسد العتيق مربوطة في الماديات وحدودها العقل. فكل ما هو غير معقول أو فائق مثل الروحيات، جهالة عنده. وعند العامة يقولون إن الله عُرف بالعقل. هذا غش وكذب، فالله لا يُعرف إلاَّ بالإيمان، والإيمان يكون بالوعي الروحي في الإنسان.
9- فالصراع، في الواقع، على أشدّه بين العقل في الجسد العتيق، والوعي الروحي المفتوح في الإنسان الجديد المتَّصل بالله، ولا يمكن أن يتقابلا أو يتوافقا إلاَّ تحت سلطان الخضوع لله والتسليم له.
10- لذلك يتحاشى أهل الفطرة والبسطاء الدخول في المعارف الإلهية العالية التي لا يستوعبها إلاَّ الوعي المفتوح على الله، ويكتفون بالخضوع والتسليم بالمسلَّمات دون مناقشة.
11- طبيعة الإنسان الجديد هي من طبيعة المسيح القائم من بين الأموات، روحانية مبرَّرة مؤهَّلة لشركة الحياة الجديدة مع الآب ومع ابنه يسوع المسيح؛ وإذا تنشَّطت بالإنجيل والصلاة، فإنها تؤهَّل للانفتاح لإدراك أسرار الكلمة والإحساس بالحق ومعرفة أسرار الله ومقاصده.
12- وهي المؤهَّلة بالنعمة التي فيها أن تكون هيكلاً حقيقياً للروح القدس، يسكن فيها ويقودها ويرتاح فيها ويعلِّمها ويكشف لها حقائق المسيح حسب وعد المسيح. وهي مؤهَّلة للرؤى والمناظر والإعلانات عن غير استعداد منها ولا إعداد
13- لبنيان جسد المسيح، إلى أن ننتهي جميعنا إلى وحدانية الإيمان ومعرفة ابن الله. إلى إنسان كامل. إلى قياس قامة ملء المسيح. «(أف 12:4و13)
14- محبة الله أو محبة الآخرين بالجسد العتيق غش وادِّعاء كاذب، لأن المحبة الحقيقية هي وحدها التي تكون من طبيعة الله الذي هو المحبة الحقيقية، والجسد الجديد الروحاني وحده - وليس العتيق - هو الذي له طبيعة المحبة الحقيقية.
15- فإذا سألتني: ما هي علامة الإنسان المسيحي الروحي الحقيقي؟ أقول لك: إنه يحب أعداءه!!
16- ويقول أحد العلماء اللاهوتيين البارزين لدى الكاثوليك والبروتستانت، وهو العالِم الفرنسي أوجست ساباتييه (1839 - 1901م):
إن خلاصنا سيكتمل حينما تتخلَّص الروح (الإنسان الجديد) من قيود الجسد المادي
17- إذن، أصبح الإنسان المسيحي الذي يحيا بإيمانه وبحسب مواهب الإنسان الجديد في التعلُّق بالله والعبادة والصلاة ومحبة الآخرين بالقلب وبالروح؛ لن يدخل الدينونة، وهو من الآن محسوب أنه في المسيح يسوع، يعيش شركة الحياة الأبدية معه كالعربون، وله الرجاء أنه سيحيا معه إلى الأبد، وله ميراث الملكوت كابن لله في المسيح.