ثم من أين لك بالدعوى التافهة التى تزعم أن المتدينين يعتقدون بأن الشعر "ضلال مبين" كما رَدَّدْتَ على لسان مصطفى نور الدين أيضا (ص220)؟ أقول لك الحق؟ الواقع أنه لو كان شعرا سخيفا كالنثر الذى تكتبه فى رواياتك البائسة لوافقتك بالثلاثة على أنه فعلا ضلال مبين! أما الشعر الجميل الذى أدرّسه للطلاب فى الجامعة من عصور الأدب العربى المختلفة، وليس لأمير الشعراء العرب فى النصف الثانى من القرن العشرين الذى يبدو أنك لا تعرف إلا إياه ولا تحفظ له إلا الـ"كَمْ كلمة" التى أوردتَها على لسان مهرة، وهذا إن كان أميرا أو حتى خفيرا، وهو ما لا يشغلنا الآن، أقول: أما ذلك الشعر الجميل فكلا وحاشا، على الأقل: من باب أنه "سبوبة" للحصول على لقمة عيشى أنا وأولادى. أم تريد لى بعد هذا العمر الطويل أن أُفْصَل من الجامعة وأجد نفسى مرميا على الرصيف ما دام الشعر ضلالا مبينا لا يصح قوله ولا حفظه فضلا عن تدريسه حسب فتواك، وأمد يدى لمن يساوى ومن لا يساوى وأنا أصيح: "عشاء الغلابى عليك يا رب!"، وحولى زوجتى وأولادى فى الأسمال البالية يتضورون جوعا ويرتجفون من البرد؟ فأل الله ولا فألك يا شيخ!
ومُضِيًّا مع سخافات القعيد التى لا تنتهى أسوق الآن ما أَنْطَقَ به مهرةَ من أن العين السحرية التى فى أبواب الشقق هى من اختراعات أمريكا أرسلها لنا الصليبيون كجزء من المؤامرة (ص221). وبطبيعة الحال يريد سيدنا الانتهاكى أن يسخر من المتدينين رغم أنه لا يوجد مسلم على وجه الأرض ولا حتى فى باطنها يقول بهذا السخف الذى برع فيه القعيد ولا يمل من كتابته. ولم لا، ومن الواضح أنه فاضٍ أمامه الوقت الذى فى الدنيا كلها لا يدرى ماذا يعمل به؟ إن القعيد يصور لنا ناسا لا أدرى من أين استجلبهم ليمثلوا دور الأبطال فى روايته، وواضح أنهم أبطال معاتيه لا يأتون من الأفعال ولا ينطقون من الأقوال إلا بكل سمج مرذول. ولم يبق إلا أن يقول إنهم لم يكونوا يركبون الحافلات أو السيارات فى تنقلاتهم، وإنما يمتطون ظهور الحمير، ثم إذا ترجَّلوا عنها ربطوها من خِطَامها فى واحد من شبابيك المكان الذى يقصدونه، حتى إذا انتهَوْا من قضاء حاجاتهم وعادوا أَلْفَوْها فى مكانها لم تشرد منهم. ترى بالله عليكم ماذا فى العين السحرية مما يناقض الإسلام أو يشكل مؤامرة صليبية على المسلمين؟ ليست العبرة بالعين السحرية ولا بأى شىء آخر مما ننقله عن الغرب بل بطبيعة استعمالنا له. فالقلم والورق مثلا لا يخطر على البال عادة أن يكونا جزءا من المؤامرة لأننا لم نأخذهما عن الغربيين، ومع هذا فمن الممكن أن يكونا جزءا من المؤامرة فعلا كما هو الحال حين يكتب أحدهم مثلا ممن لا هو فى العير ولا فى النفير كتابا حسب الطلب ينال فيه من الإسلام والمسلمين ويعطونه فيه عشرات الآلاف من الجنيهات المسروقة من أموال الشعب المغيب عن وعيه والذاهل عن حقوقه، وهو كله بعضه على بعض، ومعه عاهراته اللاتى كان يؤجر لهن ولزبائنهن أَسِرّة المستشفى الذى يعمل فيه كى يمارسوا عليها الرذيلة، لا يساوى مليما أحمر!
ومثل هذا فى الكذب والتنطع الزعم على لسان مهرة بأن الجماعة الإسلامية قد أَفْتَوْا بأن نشر الغسيل فى الشرفة حرام. لماذا؟ لأنه قد تقع عليه عين رجل غريب، وكل الرجال غرباء بالنسبة لها، وقد يكون كذلك فى الغسيل بعض الملابس الداخلية (ص76). لقد كان الناس فى قريتنا يقولون لثقيل الظل إن دمه يشبه دم البق. لكن الأمر هنا قد تجاوز دم البق ذاته. ثم إن المؤلف الهمام لم يحاول أن يشرح لنا كيف تتغلب مهرة وأمثالها من المتنطسات أو المضحوك عليهن من الجماعات الإسلامية على هذه المشكلة، إذ لا بد لهن مع ذلك من نشر غسيلهن حتى يجف، فماذا يا ترى يفعلن؟ أم عليهن أن يغسلن الملابس على أجسادهن وأجساد أزواجهن وأولادهن وبناتهن ثم يتمشَّوْن بها فى الشوارع جيئة وذهابا، وذهابا وجيئة، إلى أن تجف وهى فوقهم، ولا من شاف الكلوتات والسوتيانات ولا من درى. لقد كان هناك شخص رقيع يزعم أن الإسلاميين يحرمون على النساء أكل الخيار والكوسة، وها هو ذا يوسف القعيد يدعى عليهم القول بأن نشر الغسيل فى الشرفات حرام. ليس ذلك فقط، بل لقد قالت الجماعات الإسلامية أيضا لمهرة إن المرايا باب من أبواب الفتنة. إلا أنها هذه المرة لم تنصع لفتواهم فأبقت على المرايا تتملى فيها نفسها وهى عارية كما ولدتها أمها بتعبير الكاتب الانتهاكى، فضلا عن أنها لم تكن تستطيع أن تتخيل الحياة بدون مرايا (ص242). الحمد لله أنها طلعت "عاقلة" مَرّة!
ومما تحاول الرواية أيضا أن تسىء به إلى المسلمين تسريبها، بخبث شديد على لسان مرام أم ماجد، أن عدد الأقباط هو اثنا عشر مليونا. الله أكبر! ووجه الخبث أن مرام قد ذكرت ذلك عرضا، أى فى سياق لا يوحى أبدا أنها تقصد الكذب بل تقول شيئا مفروغا منه لا يقبل نقضا ولا إبراما ولا يعتريه شك، بل الكل متفقون عليه. وفوق ذلك فهى قبطية عادية، أى ليست شحصية كنسية أو سياسية، ومن ثم لا يخطر على البال أنها إنما تقول ذلك من باب التعصب. قالت تعتب فيما بينها وبين نفسها على زوجها، الذى تركها هى وماجد وراءه فى مصر دون أن يهتم بالمجىء لأخذهما أو استقدامهما بعدما أوهمها عند رحيله أنه لن يتوانى عن ذلك حالما يرتب أوضاعه هناك: "سافر على وعد أنه سيعود إلينا ليأخذنا أو يرسل إلينا لنذهب إليه ويجتمع شملنا من جديد وأن الأمر لن يستغرق أكثر من الفترة التى يرتب فيها أموره لاستقبالنا. مرت أيام وأسابيع وشهور وسنوات، ولم ينته من ترتيب أحواله! يضحك على من؟ حتى لو كان يستعد لاستقبال أقباط مصر جميعا الاثنى عشر مليون قبطى، الذين يعيشون فى البر ما احتاج إلى كل هذا الوقت" (ص127).
إننا كثيرا ما نسمع من بعض الشخصيات النصرانية المصرية هذه الأيام، هنا وفى المهجر، أن نصارى المحروسة يبلغون عشرين مليونا أو أكثر رغم ما يعرفونه هم قبل غيرهم من أنهم لا يزيدون عن ستة بالمائة على أكثر تقدير، وهو ما تقوله كل المصادر والمراجع حتى الغربى منها ككتاب إدوار
د وليم لين عن المصريين المحدثين وعاداتهم وتقاليدهم: "An Account of the Manners and Customs of the Modern Egyptians"، أو كتاب مسز بوتشر عن تاريخ الأمة القبطية، الذى ترجمه النصارى أنفسهم ونشروه فى بداية القرن الماضى، أو كتاب "Égypte depuis la conquète des Arabes jusqu'à la domination de Méhémet Aly" لعدد من المؤلفين الفرنسيين، حسبما بينتُ فى بعض دراساتى السابقة، وكذلك المؤسسة الأمريكية التى أعلنت هذه النسبة منذ وقت غير بعيد، ودعنا من إحصاءات السكان التى كانت تقوم بها دولة الاحتلال البريطانى. ومع هذا لم يَرْعَوِ من يكذبون ويبالغون فى تلك النسبة مبالغة لا تدخل العقل ولا تراعى الذوق، ويتخذون من ذلك مسوغا للتوسع غير المفهوم ولا المقبول فى بناء الكنائس التى لا يؤمها أحد لا لشىء سوى التحرش بالمسلمين واستفزازهم، فضلا عن هتافهم، جهارا نهارا ومن قلب الكاتدرائية ذاتها، بقادة الصهاينة الأوباش المجرمين أن يأتوا ويحتلوا مصر، فى الوقت الذى لا يقول المسلمون المصريون أبدا رغم الأغلبية الكاسحة الماسحة التى يتمتعون بها إنه ينبغى اقتلاع النصرانية أو ترحيل أتباعها من البلاد.
وأنقل الآن السطور التالية من مقال للهيثم زعفان بجريدة "المصريون" الضوئية يتناول فيه موضوع التعداد السكانى للأقباط: "يقول د.نبيل لوقا بباوي في كتابه: "مشاكل الأقباط قي مصر وحلولها": على مر الإحصاءات التاريخية المصرية للتعدادات السكانية كانت تقدَّر نسبة المسلمين بمتوسط 94% ونسبة المسيحيين بمتوسط 6%". وعليه فإذا كان عدد سكان مصر الآن هو 80 مليون نسمة فإن عدد النصارى سيكون 8,4 مليون نصراني في مصر. وبحسب المعهد الوطني للدراسات الديموغرافية بفرنسا فإن نسبة النصارى في مصر (أرثوذكس، كاثوليك، بروتستانت) 5,6% أي حوالي 2,5 مليون نصراني. أما منتدى "بيو" للدين والحياة العامة، التابع لمركز بيو الأمريكي للأبحاث، فيوضح أن الأقليات الدينية في مصر تشكل 4,5 في المائة من الشعب المصري، أي حوالي 3,4 مليون نصراني. وهذه الأرقام تتوافق مع ما كشف عنه الفاتيكان في مطلع هذا العام من أن عدد المسيحيين في مصر لا يتعدى رقم الـ5,4 مليون مسيحي. وعلى المستوى المذهبي وبحسب الكنيسة الكاثوليكية فإن بمصر 350 ألف كاثوليكي تضمهم سبع طوائف. أما البروتستانت فقد كذَّب الدكتور القس أندريه زكى، نائب رئيس الطائفة الإنجيلية، ما ذكره القمص بواس عويضة، كاهن كنيسة العذراء بوادى حوف بحلوان، بأن عدد البروتستانت ٤٠٠ ألف، وقال: "نحن نزيد على المليون شخص، ولدينا ١٢٠٠ كنيسة بروتستانتية معترف بها ومرخصة". وذلك باعتبار التبشير الممتد للبروتستانت في صفوف الأرثوذكس، وتحول كثير من الأرثوذكس للبروتستانتية. وباعتماد الأرقام السابقة سيكون نصيب الأرثوذكس في مصر حوالي ثلاثة ملايين نصراني منتشرين في ربوع الوطن، أكثر من نصفهم من الأطفال فاقدي الأهلية، تواجه كنيستهم مشكلة تحول بعضهم للبروتستانتية لحل مشكلاتهم الأسرية التي يعقّدها صاحب البيت الزجاجي، ومن ناحية أخرى هداية الآلاف منهم ولو سرا إلى الإسلام بعدما ينور الله سبحانه وتعالى بصيرتهم للدين الحق والصراط المستقيم".
وفى ذات الموضوع يكتب فى نفس الجريدة عوض الغنام بتاريخ 26/ 12/ 2006، فيقول: "زادت الميزانية التي خصصتها الحكومة لإجراء التعداد السكاني لهذا العام عن 4 مليارات جنيه، في وقت أظهرت فيه المؤشرات الأولية زيادة في عدد المصريين بمقدار مليون نسمة كل 10 شهور، وهو ما يعني وصول عدد سكان مصر إلى ما يزيد عن 80 مليون نسمة مع حلول عام 2010م. يأتي ذلك فيما عكست نتائج إحصائية مماثلة تمت بالتنسيق بين الأجهزة والمراكز الإحصائية الرسمية وغير الرسمية دلالات خطيرة. وأظهرت الإحصائية الممنوعة من النشر أن عدد الأقباط في مصر لا يزيد عن 8,6% من تعداد الشعب المصري على عكس ادعاءات الكنيسة. وتتركز النسبة الأكبر من الأقباط في منطقة وسط الصعيد حيث أسيوط والمنيا، وبعض الأحياء القديمة في القاهرة، بينما تقل النسبة بالوجه البحري، وترتفع في بعض أحياء الإسكندرية حسب الإحصائية. ويكشف التقرير عن مفاجأة أخرى مرتبطة بمستقبل عدد السكان الأقباط في مصر، حيث تؤكد الأرقام أن الوجود القبطي في مصر معرض للاختفاء خلال نصف قرن، لافتًا النظر إلى هجرة من الأسر القبطية في مصر دون توضيح الأسباب الحقيقية".
إن رواية السيد القعيد قد أخذت على عاتقها أن تشوه المسلمين بكل سبيل، وما من مسلم إلا وعُرِضَت صورته فى أسوإ الأوضاع وأكثرها شناعة. وسوف نأخذ مثالا على هذا وَصْف مهرة لصاحب شركة توظيف الأموال الذى ذهبت تقابله للاتفاق على استثمار مالها عنده والذى كانت صديقتها الوسيطة بينهما قد رسمت له صورة الرجل الطيب والأب الحنون. لقد كان يعيش فى قصر ليس فيه زوجة ولا أولاد بل حراس ومدافع وبنادق آلية وبَخُورٌ جعل عقلها يتيه. ثم جاءت كلابه قبله فى منظر أوقف الدم فى عروق مهرة. ثم جاء هو ممسكا بمِقْوَد أكبرها، فقالت فى نفسها: ألا ينقض الكلب الوضوء؟ لتقوم بالرد على نفسها قائلة: ومن الذى قال إن مولانا يتوضأ؟ وكانت لحيته تغطى صدره وتستريح على كرشه. وكان يلبس الزى القومى الموحد: الجلباب الأبيض، والطاقية المغزولة من الصوف الملون، والبلغة البيضاء. ومن تحت الجلباب رأت الكلسون الذى يلبسه (الحمد لله أن أشعة إكس التى كانت كامنة فى عينيها لم تتغلغل إلى أبعد من ذلك! والله فيك الخير يا عم قعيد!). وحين وضعت كفها الصغيرة فى راحته الكبيرة غرقت يدها فى ثنايا لحم كفه. وكان طويلا عريضا ضخما شحيما لحيما مثل النساء اللاتى عاصرن مُرَبَّى (كتبها بسلامته: "مربة") خرز البقر، ورأسه يكاد يصل إلى السقف، فذكرها منظره براسبوتين. وقد استبقى يدها فى يده وقتا أطول من زميلتها وابنتها، ثم غمز بعينه وضغط بيده على يدها، ووضع يده اليسرى فوق يدها، التى تاهت بين اليدين. وكانت نظراته إليها غير مريحة، إذ كانت دعوة إلى علاقة أكثر منها مسألة إيداع فلوس واتفاق على عائد. وعندما قدمتها زميلتها إليه شعرت أنها ليست صديقة بل قوادة. ثم عرفت أنها زوجة عرفية له، وأنها ذهبت بها إليه بناء على إلحاح منه. و كان هناك بَخُور مخدِّر فى المكان، وصوت فائق الجمال يغنى: أسلمتُ وجهى للذى أحيانى. هو الذى من طينه سَوَّانِى (ص101- 102).
وحكاية البخور هذه مستوحاة من تجربة مر بها القعيد ذاته فى طفولته، إذ كان أبوه قد أخذه إلى شيخ فى قرية مجاورة ليصنع له حجابا يقيه من خطر الموت، الذى كان يُودِى بحياة إخوته السابقين واحدا واحدا. قال فى مقال له بعنوان
"كيـف أمسكت بالقلم؟ كُتَّــــــاب سَيَّدنـَـــــا"، وهو منشور فى باب
"التكوين"، الذى صار يشكل بابا ثابتا من أبواب مجلة "الهلال" المصرية يجده القارئ فى نهاية كل عدد من أعدادها الشهرية: "كل ما أذكره من رحلة قَسْطا هذه أننا فى طريق العودة كان معنا حجاب ربطه لى الشيخ المبروك تحت أبطى الأيمن بقطعة من القماش مبرومة على شكل حبل، ووضع يده على رأسى وتمتم بما لم أسمعه بعد أن أغمض عينيه. وتهت لأن كثافة وحضوررائحة البخور التى انطلقت من جو الغرفة أفقدنى القدرة على التركيز".
لكن كل ما مر فى الإساءة إلى المسلمين كوم، وما سأقوله الآن كوم آخر وحده. لقد تابت مهرة وأنابت بل تنطست وتشددت، وإن كانت صورتها غير متسقة العناصر على ما سوف نبين لاحقا. وكانت تسلم ماجد بن عبود بانتظامٍ المبلغ الذى يرسله إليه أبوه عن طريقها كل شهر دون أية مشاكل. إلا أنها فى هذه المرة لم تستطع الحفاظ على المبلغ فأنفقته على حاجاتها ولم تستطع أن تدبره مرة أخرى حين هَلَّ ميعاد حضور الابن لأخذه، فاستملهلته إلى الغد، ليأتى الولد دون أن تقدر على تدبير المبلغ بعدما حاولت عبثا استدانته من زوجها وطليقها وعشيقها السابق. وعندما جاء الولد فى الميعاد لقبض النقود وللفرجة على شريط الفلم الإباحى الذى كان قد سلمه لها فى اليوم السابق على أساس أن يتفرج عليه حين يأتى فى الغد، وهو أمر فى منتهى الغرابة والشذوذ، إذ لم يكن بينهما من العلاقة ما يسمح له أن يفكر فى عرض هذا الأمر عليها مجرد تفكير ولا أن تسكت هى على تلك الوقاحة غير المسوغة من طالب نصرانى فقير بائس لا يعرف من الدنيا شيئا ويرتدى ملابس مرقعة غير مكوية يذهب بها إلى الجامعة، وهى فوق ذلك تحتقره وتضيق به وتراه شيئا نجسا، أقول: لـمّا جاء الولد كانت هى قد دبرت بعقلها الباطن أمرا، إذ أخذت تغريه بشتى الإغراءات أثناء مشاهدتهما الفلم الإباحى، إلى أن كان ما لا بد أن يكون، فقضى الولد فى أحضانها ليلة لا تحسب من العمر عَلَّمَتْه أثناءها، وهو الغِرّ العبيط، من فنون الجنس ألوانا وألوانا حتى مطلع الصباح، فكَفَّا عن الفعل غير المباح. وظنت بسلامتها أن المسألة انتهت عند هذا الحد، إلا أن الولد كان له منطق آخر. لقد أصر على أن يبقى عندها إلى الأبد (ليس إلى الأبد بالضبط، بل إلى أن تموت هو أو تموت هى أو ربنا يأخذهما معا ويريحنا منهما ومن الكاتب السخيف الذى اختلقهما)، لكنها بعد أن احتارت قليلا فى هذه المشكلة التى لم تتخيلها ولم تتوقعها استطاعت بالحزم أن تدفعه إلى الخروج والعودة لأمه (تصفيق حاد وزغاريد!):
"طلبتْ منه الخروج بأقصى سرعة. كان طلبها حازما. خرج. كانت مهرة تبحث عن حجابها. وكان ماجد يبحث عن أوراقه التى ما عاد يتذكر أين وضعها. لم يبحث عن صليبه لأنه باعه فى أيام الضيق. وأى الأيام أتت من دون أن يكون ضيقها مثل خرم إبرة؟ كبس عليه ذهول عندما اكتشف أنه نسى موضوع المبلغ. حاول منع خياله من التسلل إلى تذكر أمه، وحاول أن... وحاولت هى أن... و... و...". وتوتة توتة فرغت الحدوتة. ترى هل يحتاج القارئ إلى أن أوضح له المغزى الرمزى الذى قصده الكاتب؟ إن الرواية كلها من بدايتها إلى نهايتها بكل ما فيها من تنطع وسماجة وتفكك وتكلف وتفاهة إنما صيغت من أجل الفصل الأخير الذى ينتهى بهذه الفقرة. إن الرواية تدور على أن فى مصر مواجهة بين الإسلام والنصرانية، بين الإسلام العدوانى الهمجى الباطش المنافق آكل الحقوق متمثلا فى مهرة، وبين النصرانية الوديعة المسكينة التى لا حول لها ولا طول متمثلة فى ماجد الفقير العاجز، لتنتهى المواجهة وماجد راكبٌ مهرة. أليست المهرة قد خلقت للركوب؟ ثم لا ينبغى أن ننسى غياب الصليب من هذا المشهد الفاحش (فالصليب طاهر لا ينبغى أن يظهر فى مثل تلك المواقف النجسة. وعلى كل حال فقد باعه الولد الفقير المرفوع عنه الحجاب. لقد كان يشم على ظهر يده!)، أما الحجاب فكانت مهرة تبحث عنه لترتديه مرة أخرى رغم كل ما صنعته مع الولد الغر المسكين (يا لها من منافقة! أليست مسلمة؟). ومرة أخرى اشربوا يا مسلمون من كيعانكم ما دمتم لا تفيقون من الخنوع والذل الذى أنتم فيه. إن زكريا بطرس وأمثاله ليسوا وحدهم الذين يلاعبونكم لعبتهم القذرة، بل هناك لاعبون آخرون يحملون أسماء إسلامية يكرهونكم ويكرهون دينكم رغم أسمائهم الإسلامية كراهية العمى!
أما الناقد الانتهاكى إياه فيقول عن خاتمة الرواية: "وتصب الفصول الأخيرة للرواية في مغامرة طائشة محسوبة تُغْوِي فيها مهرةُ الصبيَّ المراهقَ ماجد لتلهيه عن تقاضي حقه، منتهزة فرصة استعارته لأحد الأفلام الإباحية كي يراها عندها، فتعود إليها طبيعة الأنثى المولعة بفتنة العشاق وتمزيق أقنعة الطهارة المصطنعة، وتُضْحِي حُمَّى الجنس اللاهبة نقطة الختام في رواية تفجّر أسئلة المستقبل وهي تحفر في ألغام الحاضر". وإذا كان الشىء بالشىء يذكر فقد تذكرتُ الآن ناقدا ذهبت إليه إحدى طالباته البريئات تعرض عليه محاولاتها الأدبية الأولى وهى تظن أنها ذاهبة للقاء أب لها آخر غير الذى تركته فى البيت، فإذا به ينصحها أن تترك الكتابة عن الموضوعات التقليدية إلى موضوعات جديدة، فسألته: مثل ماذا يا أستاذى؟ أجابها: مثل وصف مشاعرك وما يعترى جسدك من تغيرات حين يجيئك الحيض. فخرجت المسكينة من غرفة الأستاذ فزعة لا تصدق ما سمعته، ولم تعد إليها ولا إليه من يومها. وكان الأستاذ الناقد أزهرى الأصل ما زالت جبهته تحمل آثار حز العمامة، بيد أنه كان ممن سافر إلى الخارج مبتعَثا على كِبَر، ثم عاد وقد بهرته أضواء الحضارة الغربية، فكان كالذى لم ير اللبن، فحين شاف ثدى أمه انهبل!
وفى محاولة من القعيد لتسويغ هذا الانحياز إلى الكنيسة ورجالها وبغض كل ما هو إسلامى يقول إن والديه كانا يخوّفانه وهو صغير من دخول الكنيسة التى كانت فى قريتهم، وإلا خَطِفه القِسّيس وغطّسه فى البئر لينصّره. والإشارة هنا إلى عملية التعميد، وهى تتم بتغطيس الطفل فى الماء أو رَشّه به. ويعلق القعيد على ذلك بأن كل ممنوع مرغوب، ولهذا صار يحب الكنيسة ويتردد عليها. ولا أظن كلامه فى هذه النقطة صحيحا لأن القرية بطبيعتها جِدّ صغيرة، والناس يعرف بعضهم بعضا، وكانت العلاقة بين النصارى والمسلمين فى ذلك الوقت، أى قبل بداية سبعينات القرن الماضى بزمن طويل، طيبة يسودها المودة والمجاملات. كما كان النصارى يقفون عند حدودهم لا يتجاوزونها، على عكس ما صاروا ما يصنعون منذ التاريخ المذكور. فمن هنا لا يمكننى أن أفهم هذا الخوف الأبوى الذى يحاول القعيد أن يقنعنا به. كذلك لا أظن كلامه عن الممنوع المرغوب صحيحا، وإلا فلماذا لم يجر على هذه السُّنّة بالنسبة إلى الجماعات الإسلامية، التى يقول عنها الحكام المصريون من أيام عبد الناصر إلى أيام المخلوع، ومعهم الشيوعيون، إنهم إرهابيون قتلة ظلاميون يريدون تدمير البلاد وقتل العباد، وبخاصة أن الحكومات المتعاقبة كثيرا ما كانت تقبض عليهم وتضعهم فى المعتقلات؟ وإنى لأتصور أنها محاولة من القعيد لتسويغ انحيازه للكنيسة وكراهيته لكل ما هو إسلامى كما توضحه مثلا رواية "قسمة الغرماء".
يتبع ....