الجزية في الإسلام :
لكن الإسلام كعادته لا يتوقف عند ممارسات البشر السابقة عليه، بل يترفع عن زلـلهم، ويضفي خصائصه الحضارية، فقد ارتفع الإسلام بالجزية ليجعلها، لا أتاوة يدفعها المغلوبون لغالبهم، بل لتكون عقداً مبرماً بين الأمة المسلمة والشعوب التي دخلت في رعويتها. عقد بين طرفين، ترعاه أوامر الله بالوفاء بالعهود واحترام العقود، ويوثقه وعيد النبي صلى الله عليه وسلم لمن أخل به ، وتجلى ذلك بظهور مصطلح أهل الذمة، الذمة التي يحرم نقضها ويجب الوفاء بها ورعايتها بأمر النبي صلى الله عليه وسلم.
وقد أمر الله بأخذ الجزية من المقاتلين دون غيرهم كما نصت الآية على ذلك { قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون } (سورة التوبة : 29) قال القرطبي: "قال علماؤنا: الذي دل عليه القرآن أن الجزية تؤخذ من المقاتلين... وهذا إجماع من العلماء على أن الجزية إنما توضع على جماجم الرجال الأحرار البالغين، وهم الذين يقاتلون دون النساء والذرية والعبيد والمجانين المغلوبين على عقولهم والشيخ الفاني".(الجامع لأحكام القرآن (8/72), وقد كتب عمر إلى أمراء الأجناد: (لا تضربوا الجزية على النساء والصبيان، ولا تضربوها إلا على من جرت عليه المواسي)( إرواء الغليل) أي ناهز الاحتلام.
ولم يكن المبلغ المدفوع للجزية كبيراً تعجز عن دفعه الرجال، بل كان ميسوراً ، لم يتجاوز على عهد النبي صلى الله عليه وسلم الدينار الواحد في كل سنة، فيما لم يتجاوز الأربعة دنانير سنوياً زمن الدولة الأموية.
فحين أرسل النبي معاذاً إلى اليمن أخذ من كل حالم منهم دينارا، يقول معاذ: (بعثني النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليمن، فأمرني أن آخذ من كل ثلاثين بقرة تبيعا، أو تبيعة، ومن كل أربعين مسنة (هذه زكاة على المسلمين منهم)، ومن كل حالم ديناراً، أو عدله مَعافر(للجزية)( 1) ، والمعافري: الثياب.
وفي عهد عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- ضرب الجزية على أهل الذهب: أربعة دنانير، وعلى أهل الورِق: أربعين درهما .(2)
ويقول صلى الله عليه وسلم في التحذير من ظلم أهل الذمة وانتقاص حقوقهم: (( من ظلم معاهداً أو انتقصه حقه أو كلفه فوق طاقته أو أخذ منه شيئاً بغير طيب نفس فأنا حجيجه يوم القيامة)(3) ، ويقول: ((من قتل معاهداً لم يرح رائحة الجنة ، وإن ريحها توجد من مسيرة أربعين عاماً )(4)
وحين أساء بعض المسلمين معاملة أهل الجزية كان موقف العلماء العارفين صارماً، فقد مرّ هشام بن حكيم بن حزام على أناس من الأنباط بالشام قد أقيموا في الشمس، فقال: ما شأنهم؟ قالوا: حبسوا في الجزية، فقال هشام: أشهد لسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن الله يعذب الذين يعذبون الناس في الدنيا)). قال: وأميرهم يومئذ عمير بن سعد على فلسطين، فدخل عليه، فحدثه، فأمر بهم فخُلوا. (5)
وأما الأمر بالصغار الوارد في قوله: { وهم صاغرون }، فهو معنى لا يمكن أن يتنافى مع ما رأيناه في أقوال النبي صلى الله عليه وسلم من وجوب البر والعدل، وحرمة الظلم والعنت، وهو ما فهمه علماء الإسلام ، ففسره الشافعي بأن تجري عليهم أحكام الإسلام، أي العامة منها، فالجزية علامة على خضوع الأمة المغلوبة للخصائص العامة للأمة الغالبة.
وفسره التابعي عكرمة مولى ابن عباس بصورة دفع الجزية للمسلمين، فقال: "أن يكونوا قياماً، والآخذ لها جلوساً"، إذ لما كانت اليد المعطية على العادة هي العالية، طلب منهم أن يشعروا العاطي للجزية بتفضلهم عليه، لا بفضله عليهم، يقول القرطبي في تفسيره: "فجعل يد المعطي في الصدقة عليا، وجعل يد المعطي في الجزية سفلى، ويد الآخذ عليا". (6)


----------------------------------

(1) رواه الترمذي في سننه ح (623)، وأبو داود في سننه ح (1576)، والنسائي في سننه (2450)، وصححه الألباني في مواضع متفرقة ، منها صحيح الترمذي (509)
(2) مشكاة المصابيح (3970)، وصححه الألباني
(3) رواه أبو داود في سننه ح (3052) في (3/170) ، وصححه الألباني (2626)، و نحوه في سنن النسائي ح (2749) في (8/25).
(4) رواه البخاري (2295)
(5) رواه مسلم (2613)
(6) الجامع لأحكام القرآن (8/115) ، وتفسير الماوردي (2/351-352)