(أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُواْ هَـذِهِ مِنْ عِندِ اللّهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُواْ هَـذِهِ مِنْ عِندِكَ قُلْ كُلًّ مِّنْ عِندِ اللّهِ فَمَا لِهَـؤُلاء الْقَوْمِ لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً () مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفَى بِاللّهِ شَهِيداً) (النساء :78 -79 )
زعم المستشرقون ومن يبحث عن زعزعه الإيمان للمسلم أن في القران تناقضا , إذ كيف يقول الله :( قُلْ كُلًّ مِّنْ عِندِ اللّهِ ) وفي نفس الوقت يقول تعالى:(مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ)
لابد لنا ان نعرف ان الحسنة إما حسنة كونيه بمعنى النعمة والخير والعطاء والصحة والعافية والنصر والعز والجاه, فهذه الحسنة من الله تعالى,
وإما حسنة شرعية: بمعنى الطاعة وفعل الخيرات فإنها تنسب الى الله عز وجل لأنه هو الذي بها أمر .
والسيئة سيتان: سيئة كونية وهي بمعنى النقمه والإبتلاء والشر والمرض والذل, فهذه من عند الله ايضا لأن الله عز وجل هو الذي يبلو العباد امتحانا وانتقاما حسب مقتضيات رحمته في تربية عباده وتدبير شؤنهم .قا ل تعالى: (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ) (الأنبياء : 35 )
وقال تعالى:(فَأَمَّا الْإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ()وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ() كَلَّا بَل لَّا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ) (الفجر : 17-15 )
كلا : أي لست عند العطاء مكرما ولا عند المنع ممتهنا, ولكنك مبتلى في كل من الحالتين, وهذا معنى قول ابن كثير الذي قال في تفسيره للآية:(يقول تعالى منكرا على الإنسان في اعتقاده إذا وسع الله تعالى عليه في الرزق ليختبره في ذلك فيعتقد أن ذلك من الله إكرام له وليس كذلك بل هو ابتلاء وامتحان كما قال تعالى ( أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون ) وكذلك في الجانب الآخر إذا ابتلاه وامتحنه وضيق عليه في الرزق يعتقد أن ذلك من الله إهانة له كما قال الله تعالى ( كلا ) أي ليس الأمر كما زعم لا في هذا ولا في هذا فإن الله تعالى يعطي المال من يحب ومن لا يحب ويضيق على من يحب ومن لا يحب وإنما المدار في ذلك على طاعة الله في كل من الحالين إذا كان غنيا بأن يشكر الله على ذلك وإذا كان فقيرا بأن يصبر)
السيئة الشرعية: التي هي بمعنى المعصية والمخالفة فهذه السيئة لا تنسب إلا الى العبد فاعلها , ولا تصح نسبتها الى الله تعالى أبدا لأن الله تعالى لم يشرعها ولم يأمر بها ولم يرغب فيها بل حرمها وتوعد عليها منفرا منها, فكيف تصح نسبتها الى الله تعالى؟ لا .
وهذا معنى قوله تعالى:(مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفَى بِاللّهِ شَهِيداً) (النساء : 79 )
وهذه الأيات نزلت ردا على المنافقين الذين كانوا ينسبون الحسنة بمعنى النعمة الى الله تعالى, وينسبون السيئة بمعنى النقمة والبلاء والشر الى الرسول ,فرد الله تعالى عليهم قولهم هذا وعابه عليهم ونسبهم الى سوء الفهم وقلة الإدراك, وأخبر مقررا أن كلا من هذين النوعين من الحسنة و السيئة هما من عند الله تعالى, وبهذا زال الإشكال الذي كان يقف عنده كثير من المؤمنين حيارى , وحاشا ان يكون في كتاب الله تعارض او تناقضا, (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ{}لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) (فصلت : 41-42 )
قال ابن كثير في تفسيره:(وقوله: {وإن تصبهم حسنة} أي خصب ورزق من ثمار وزروع وأولاد ونحو ذلك, هذا معنى قول ابن عباس وأبي العالية والسدي {يقولوا هذه من عند الله وإن تصبهم سيئة} أي قحط وجدب ونقص في الثمار والزروع أو موت أولاد أو إنتاج أو غير ذلك كما يقوله أبو العالية والسدي {يقولوا هذه من عندك} أي من قبلك وبسبب اتباعنا لك واقتدائنا بدينك, كما قال تعالى عن قوم فرعون {فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه, وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه} وكما قال تعالى: {ومن الناس من يعبد الله على حرف} الاَية, وهكذا قال هؤلاء المنافقون الذين دخلوا في الإسلام ظاهراً وهم كارهون له في نفس الأمر, ولهذا إذا أصابهم شر إنما يسندونه إلى اتباعهم النبي صلى الله عليه وسلم. وقال السدي: وإن تصبهم حسنة, قال: والحسنة الخصب, تنتج مواشيهم وخيولهم, ويحسن حالهم وتلد نساؤهم الغلمان, قالوا {هذه من عند الله وإن تصبهم سيئة} والسيئة الجدب والضرر في أموالهم, تشاءموا بمحمد صلى الله عليه وسلم وقالوا {هذه من عندك} يقولون: بتركنا ديننا واتباعنا محمداً أصابنا هذا البلاء, فأنزل الله عز وجل {قل كل من عند الله} فقوله: قل كل من عند الله, أي الجميع بقضاء الله وقدره, وهو نافذ في البر والفاجر والمؤمن والكافر. قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس, قل كل من عند الله, أي الحسنة والسيئة. وكذا قال الحسن البصري. ثم قال تعالى منكراً على هؤلاء القائلين هذه المقالة الصادرة عن شك وريب, وقلة فهم وعلم وكثرة جهل وظلم {فما لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثاً})