رسالة التوحيد

آخـــر الـــمـــشـــاركــــات


مـواقـع شـقــيـقـة
شبكة الفرقان الإسلامية شبكة سبيل الإسلام شبكة كلمة سواء الدعوية منتديات حراس العقيدة
البشارة الإسلامية منتديات طريق الإيمان منتدى التوحيد مكتبة المهتدون
موقع الشيخ احمد ديدات تليفزيون الحقيقة شبكة برسوميات شبكة المسيح كلمة الله
غرفة الحوار الإسلامي المسيحي مكافح الشبهات شبكة الحقيقة الإسلامية موقع بشارة المسيح
شبكة البهائية فى الميزان شبكة الأحمدية فى الميزان مركز براهين شبكة ضد الإلحاد

يرجى عدم تناول موضوعات سياسية حتى لا تتعرض العضوية للحظر

 

       

         

 

 

 

    

 

رسالة التوحيد

النتائج 1 إلى 10 من 11

الموضوع: رسالة التوحيد

العرض المتطور

  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Nov 2011
    المشاركات
    1,892
    الدين
    الإسلام
    الجنس
    ذكر
    آخر نشاط
    23-05-2024
    على الساعة
    09:12 PM

    افتراضي رسالة التوحيد

    بسم الله الرحمن الرحيم
    و به نستعين





    فإن توحيد الألوهيَّة جزءٌ مهمٌّ جدًّا من عقيدة المؤمن؛ إذ هو ثمرة توحيد الربوبيَّة والأسماء والصفات، وبدونه يَفقد توحيد الربوبيَّة والأسماء والصفات معناه، وتَنعدم فائدته.

    وإذا كان توحيد الربوبيَّة يدور على المعرفة بالله وربوبيَّته، ونَفْي الشَّريك فيها، كما أنَّ توحيد الأسماء والصفات يدور على إثبات أسماء الله تعالى وصفاته، ونَفْي الشريك في الأسماء، وعدم التمثيل والتعطيل في الصفات، فإن توحيد الألوهيَّة يقوم على إفراد الله بالعبادة، المُستلزِم لعبادة الله تعالى بكلِّ ما شرَع أن يُعبَد به من أعمال القلوب والجوارح، وألاَّ يُشرَك معه غيرُه في شيءٍ منها، مع عدم الاعتراف بعبادة غيره - عزَّ وجلَّ.

    وتوحيد الألوهيَّة أيضًا هو تعلُّق القلب بالربِّ تعالى؛ خوفًا ورجاءً، ورَهبةً وطمعًا، كما أنه إسلام الوجه لله تعالى، ووَقْف الحياة كلِّها عليه، فلا شيء للعبد هو لغير الله؛ بدليل قوله تعالى من سورة الأنعام: ﴿ قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ ﴾ [الأنعام: 162 - 163].

    بهذا أُمِر النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - أن يقولَ ويُجاهر به، وبمثله أُمِر إبراهيم - عليه السلام - إذ قال: ﴿ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ [الأنعام: 78 - 79].

    إن لهذا التوحيد - توحيد الإلهيَّة - شأنًا وخطرًا، ويُنبئ عن ذلك أنَّ كافة الرُّسل الذين بعَث الله تعالى بهم إلى الأُمم والشعوب، كان كلُّ واحدٍ منهم يبدَأ دعوته حينما يَبدؤها بقوله: ﴿ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ ﴾ [الأعراف: 59].

    وتوحيد الألوهيَّة كذلك هو مضمون كلمة: "لا إله إلا الله"، التي جاءَ بها خاتمُ النبيِّين والمُرسلين محمدٌ - صلى الله عليهم وسلم أجمعين - ودعا إليها قولاً واعتقادًا، ولَم يُطالِب بغيرها طيلة عشرٍ من السنين، ومن أجْلها عُودِي وأُوذِي وحُورِب، كما عُودِي وأُوذي وحُورِب كلُّ مَن دعا إليها من جميع الرُّسل وأتْباعهم؛ وذلك لأنَّ قولها واعتقادَها يَستلزم الكفر الكامل بكل ما عبَد الناسُ من آلهةٍ دون الله - سبحانه - تلك الآلهة التي عرَفوها بعد فَقْدهم لهداية الله تعالى بموت الأنبياء، وانقراض أهل العلم العارفين بالله وشرائعه، يُضاف إلى ذلك أنَّ كلمة التوحيد "لا إله إلا الله" تَقضي - بل وتُوجب - المساواة بين الناس في الحقوق والواجبات، فلم يَبقَ بين الناس مَن يتميَّز عنهم ميزة يَستعلي بها، فيترفَّع ويتكبَّر، أو يَستعبد الناس، أو يَحكمهم بغير شرع ربِّهم - تبارَك وتعالى - كما جاء مضمون ذلك في كتاب رسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - إلى هرقل ملكِ الروم، ونصُّه بعد البسملة والدِّيباجة: ((يا أهل الكتاب، تعالَوا إلى كلمةٍ سواء بيننا وبينكم، ألاَّ نَعبد إلاَّ الله، ولا نُشرك به شيئًا، ولا يتَّخذ بعضُنا بعضًا أربابًا من دون الله))؛ كما أخرَجه الإمام البخاري - رحمه الله.

    ومن هنا، كانت الخصومات تَبلغ أشُدَّها بين الرُّسل وأُممهم؛ لِما تدلُّ عليه عبادة الله تعالى وحْده من الكفر بكلِّ معبودٍ سواه، وتَرْك عبادته والبَراءة منه؛ قال تعالى من سورة المجادلة: ﴿ لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ ﴾ [المجادلة: 22].

    كما أخبَر الله تعالى عن خليله إبراهيم والمؤمنين معه، وهو يدعونا إلى الاقتداءِ بهم في الوقوف ضد الشِّرك والمُشركين؛ حيث يقول تعالى: ﴿ قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ ﴾ [الممتحنة: 4].

    إنَّ مدلول كلمة "لا إله إلا الله" الإيمان بالله وحْده، بأن يُعبد ولا يُشرَك به شيء من خَلقه، والكفر بكلِّ طاغوت صارفٍ عن عبادة الله وطاعته، وطاعة رسوله؛ كما قال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ ﴾ [النحل: 36].

    والطاغوت: هو كلُّ مَن عُبِد من دون الله، أو صَرَف عن عبادته؛ من معبودٍ رَضِي لنفسه أن يُعبد مع الله، أو مَتبوعٍ، أو مُطاعٍ في غير طاعة الله تعالى وطاعة رسوله.


    أولاً: معنى توحيد الألوهيَّة:
    التوحيد في اللغة: مُشتق من وحَّد الشيء: إذا جعَله واحدًا، أو اعْتَقَده واحدًا، ونفَى عنه التعدُّد، فهو مصدر وحَّد يُوحِّد؛ أي: إفراد الشيء، أو اعتقاده واحدًا فردًا.

    ولا يتمُّ هذا التوحيد إلاَّ برُكنين: الإثبات والنَّفي؛ إذ النَّفي المَحض تعطيلٌ مَحض، والإثبات المَحض لا يَمنع المشاركة، فلو قِيل: زيدٌ قائم، فهو إثباتُ القيام لزيد، ولكن لا يدلُّ على انفراده به، ولو قيل: لَم يَقُم أحدٌ، فهذا نَفْي مَحض، أمَّا لو قيل: لَم يَقُم إلاَّ زيدٌ، فهذا توحيدٌ له بالقيام؛ لأنه اشتمَل على إثباتٍ ونفي.

    والألوهيَّة: نِسبة إلى الإله بمعنى المَأْلوه؛ أي: المعبود، ولكن هل فِعال تأتي بمعنى مفعول؟! أقول: نعم؛ مثل: فِراش بمعنى مَفروش، وبِناء بمعنى مَبنيّ،وكتاب بمعنى مكتوب، وغير ذلك كثير.

    وأمَّا توحيد الألوهيَّة، فقد اختَلَفت عبارات القوم في تحديد هذا النوع من أنواع التوحيد، ولا يَخفى ما بين عباراتهم من تقارُبٍ في المعنى، وإن بَدَت مختلفةً في بنائها اللفظي، غير أنه لَمَّا كان المُستحبُّ في الحدودِ أوْجزَها وأخْصرَها لفظًا، مع انضباط دَلالته على المُعرَّف، وكَشْفه التام عن ماهيَّته - كان التعريف المختار عندي أنَّ توحيد الألوهيَّة: هو اعتقاد انفراد الله تعالى بالعبادة، فإنَّ كلَّ التعريفات تَدور حول معنًى واحدٍ، وفي فلك واحدٍ، هو إفراد الله تعالى بالعبادة، ألاَّ تكون عبدًا لغير الله - عزَّ وجلَّ - لا تَعبد مَلَكًا، ولا نبيًّا، ولا وَلِيًّا، ولا شيخًا، ولا أبًا، ولا أُمًّا، ولا أعرافًا، أو تقاليدَ، أو أمثالاً شعبيَّةً، لا تَعبد إلاَّ الله تعالى وَحْده، فتُفرده - سبحانه - وحْده بالتعبُّد والتألُّه.

    فالمقصود إذًا بتوحيد الألوهيَّة: الاعتقاد الجازم بأنَّ الله - جلَّ وعلا - هو وحْده المُستحق للعبادة، واعتقاد انفراده بجميع أنواع العبادات الظاهرة والباطنة، والبراءة من كلِّ معبود دونه، فلا يُعبد إلاَّ الله، ولا يُتَوَكَّل إلاَّ عليه، ولا يُتَحاكَم إلاَّ إليه، ولا يُتَلَقَّى الهُدى إلاَّ منه، ولا يُتوَجَّه بالعمل إلاَّ إليه، وأن يكون الله وحْده أحبَّ إلى العبد من كلِّ ما سواه، وأخوفَ عنده من كلِّ ما سواه، وأرْجى له من كلِّ ما سواه، فيَعبده بمعاني الحب والخوف والرجاء، بما يحبُّه هو ويَرضاه، وهو ما شرَعه على لسان رسوله، لا بما يريده العبد ويَهواه، وتلخيص ذلك في كلمتين: إيَّاك أُريد بما تُريد؛ فالأُولى: توحيد وإخلاص، والثانية: اتِّباع للسُّنة وتحكيمٌ للأمر.

    وتوحيد الألوهيَّة مَبنيٌّ على إخلاص العمل كلِّه لله، والتوجُّه به إليه - سبحانه - دون غيره؛ سواء كان هذا العمل من أعمال القلوب، أو من أعمال الجوارح؛ مما يَستلزم التعلُّق بالربِّ تعالى؛ خوفًا ورجاءً، ورَهبة وطمعًا، وإسلام الوجه له، ووَقْف الحياة كلِّها - والمخلوق بأكمله - ابتغاءَ مَرضاة الله؛ ﴿ قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [الأنعام: 162].

    والقلوب فُطِرت على حبِّ الله تعالى، وتحتاج إلى التعبُّد إليه كما تحتاج إلى الطعام والشراب؛ أي: إنها تحتاج إلى الله تعالى إلَهًا، كما تَحتاج إليه ربًّا، تحتاج إلى أن تتوجَّه بالركوع والسجود والخوف والرجاء لله - تبارَك وتعالى - فلو وُجِّهت القلوبُ إلى حبِّ غير الله، تَشقى أعظمَ شقاءٍ في الدنيا والآخرة.

    قال تعالى: ﴿ قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ ﴾ [الأنعام: 162- 163].

    فالإنسان يعيش لله، ويموت لله، ليس لغيره، وليس للوطن، ليس لقطعة أرضٍ هي في الأصل مَربوبة لله تعالى، ولكن تكون حياتك ومَماتك لله وحْده، أمَّا ما قاله النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - عن حبِّه مَكَّةَ، فذلك أنها أحبُّ البلاد إلى الله تعالى؛ ولذلك فيَجب على المسلمين أن يحبُّوا مكَّةَ أكثرَ من بلادهم، وهذه فِطرة في المسلمين جميعًا.

    وإذًا فمعنى توحيد الألوهيَّة: إفراد الله تعالى بالعبادة، وهى مبنيَّة على أمرين عظيمَيْن؛ هما: المحبَّة والتعظيم، الناتج عنهما ﴿ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا ﴾ [الأنبياء: 90].

    فبالمحبَّة تكون الرغبة، وبالتعظيم تكون الرَّهبة والخوف؛ ولهذا كانت العبادة أوامرَ ونواهيَ، أوامرَ مبنيَّة على الرغبة والوصول إلى الآمر، ونواهيَ مبنيَّة على التعظيم والرَّهبة من هذا العظيم، فإذا أحْبَبتَ الله - عزَّ وجلَّ - رَغِبتَ فيما عنده، ورَغِبتَ في الوصول إليه، وطَلَبتَ الطريق المُوصِّل إليه، وقُمتَ بطاعته على الوجه الأكمل، وإذا عظَّمته خِفْتَ منه، فكلَّما هَمَمْتَ بمعصية، اسْتَشْعَرتَ عَظَمَة الخالق - جلَّ وعلا - فنَفَرتَ، وهذه من نعمة الله تعالى عليك، إذا هَمَمت بمعصية، وجَدت الله تعالى أمامَك، فهِبْتَ وخِفْتَ وتباعَدْتَ عن المعصية؛ لأنَّك تَعبد الله خوفًا وطمعًا، رَغبة ورَهبة، فما معنى العبادة؟

    تَبَيَّنَ لنا - من الكلام السابق عن توحيد الألوهيَّة - أنَّ المكلَّف لا يُحَقِّقه على وجهه الصحيح إلاَّ إذا أفرَد الله تعالى بالعبادات كلِّها، وتوجَّه بها إلى الله وحْده دون ما سواه؛ مما يَستلزم منَّا أن نتعرَّف على مفهوم العبادة وأنواعها وأركانها، وشروط صحَّتها، فأقول:
    يُؤخَذ مما ورَد في المعاجم اللغويَّة، أنَّ كلمة العبادة تَعني: الخضوع والتذلُّل، والطاعة والانقياد للغير، انقيادًا سَلِسًا، لا عصيان فيه، ولا مقاومةَ معه، فيقال: بعيرٌ مُعَبَّد؛ أي: مُنقاد سَلِسٌ، وطريق مُعَبَّد إذا كان مُذلَّلاً قد وَطِئَتْه الأقدام، وفي المعجم الوسيط مثلاً: العبادة: الخضوع للإله على وجْه التعظيم والشعائر الدينيَّة.

    والعبادة تَجمع أصلَيْن، وهما: غاية الحبِّ، وغاية الذلِّ والخضوع، والتعبُّد: هو التذلُّل والخضوع، فمَن أحْبَبْتَه ولَم تكن خاضعًا له، لَم تكن عابدًا له، ومَن خَضَعتَ له بلا محبَّةٍ، لَم تكن عابدًا له؛ حتى تكونَ مُحِبًّا خاضعًا.

    ولشيخ الإسلام ابن تيميَّة - رحمه الله تعالى - نَظرةٌ عميقة لمفهوم العبادة، حلَّلَ فيها المعاني التي يَشتمل عليها هذا المفهوم، مُبْرِزًا إلى جوار المعنى الأصلي في اللغة - وهو غاية الطاعة والخضوع - عنصرًا جديدًا له أهميَّة كبرى في الإسلام، ولا تتحقَّق العبادة إلاَّ به، وهو عنصر الحبِّ، ومِن ثمَّ فالعبادة تتضمَّن غاية الذُّلِّ لله، بغاية المحبَّة له، فمَن خضَع لإنسانٍ مع بُغضه له، لا يكون عابدًا له، ولو أحبَّ شيئًا ولَم يَخضع له، لَم يكن عابدًا له، كما قد يحبُّ ولدَه وصديقه؛ ولهذا لا يَكفي أحدُهما في عبادة الله تعالى، بل يجب أن يكون اللهُ أحبَّ إلى العبد من كلِّ شيءٍ، وأن يكون الله أعظمَ عنده من كلِّ شيءٍ، بل لا يستحقُّ المحبَّةَ والذُّل التامَّ إلاَّ اللهُ تعالى، وكلُّ ما أُحِبَّ لغير الله، فمحبَّته فاسدة، وما عُظِّمَ بغير أمر الله، كان تعظيمه باطلاً.

    أمَّا مفهوم العبادة اصطلاحًا، فتُطْلَق على أمرين، وهما: الفعل والمفعول، فتُطلَق على الفعل الذي هو التعبُّد، فيقال: عبَد الرجل ربَّه عبادةً وتَعبُّدًا، وإطلاقها على التعبُّد من باب إطلاق اسم المصدر على المصدر، ويُقصَد بها حينئذٍ التذلُّلُ لله - عزَّ وجلَّ - حبًّا وتعظيمًا، بفِعل أوامره واجتناب نواهيه، وكلُّ مَن ذلَّ لله تعالى، عزَّ به - سبحانه - ﴿ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ ﴾ [المنافقون: 8]، أو هي: غاية الحبِّ وغاية الذُّلِّ.

    كذلك تُطْلَق العبادة على المفعول؛ أي: المُتعَبَّد به، ومن أجمَع تعريفاتها بهذا الإطلاق، أنها: اسم جامعٌ لكلِّ ما يحبُّه الله ويَرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة، فالصلاة والزكاة، والصيام والحج، وصِدق الحديث، وأداء الأمانة، وبرُّ الوالدين، وصِلة الأرحام، والوفاء بالعهود، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والجهاد للكفَّار والمُنافقين، والإحسان إلى الجار واليتيم والمسكين، وابن السبيل والمَملوك من الآدَميِّين والبهائم، والدعاء والذِّكر والقراءة، وأمثال ذلك من العبادة، وكذلك حبُّ الله ورسوله، وخشية الله، والإنابة إليه، وإخلاصُ الدِّين له، والصبر لحُكمه، والشكر لنِعَمه، والرِّضا بقَضائه، والتوكُّل عليه، والرجاء لرحمته، والخوف من عذابه، وأمثال ذلك - هذا الشيء الذي تعبَّدنا الله تعالى به، يجب توحيدُه به، لا يُصرف لغيره، وهذا هو توحيد الألوهيَّة الذي هو الفارق بين المُوحِّدين والكافرين أو المُشركين، وعليه يقع الجزاء والثواب في الأُولى والآخرة، فمَن لَم يأتِ به، كان من المُشركين.

    شروط قَبول العبادة وأركانها:
    لا تكون العبادة صحيحة مقبولة، ومُحَقِّقة للمقصد منها، إلاَّ بثلاثة شروط: الإيمان، والإخلاص، والاتِّباع.

    فأوَّلها: الإيمان بالله وملائكته، وكُتبه ورُسله، واليوم الآخر، والقدر خيرِه وشرِّه؛ قال تعالى: ﴿ وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا ﴾ [الإسراء: 19].

    والثاني: الإخلاص؛ أي: أن تكون العبادة خالصةً لوجه الله تعالى دون رياءٍ ولا سُمعة، ولا يُقصد مِن فِعْلها إلاَّ التقرُّب إلى الله، وابتغاء مَرضاته؛ كما قال - سبحانه -: ﴿ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا ﴾ [الكهف: 110].
    وفي الصحيحين عنه - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((إنَّما الأعمال بالنيَّات، وإنما لكلِّ امرئ ما نوى)).

    والثالث: الاتِّباع؛ أي: أن تفعلَ العبادة على منهج النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - دون زيادة أو نُقصان، فلا يُعبَد الله إلاَّ بما شرَع، ووَفْقًا لِما جاء به الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - الذي قال كما في الصحيحين: ((مَن أحدَث في أمرنا هذا ما ليس منه، فهو رَدٌّ))، وفي رواية: ((مَن عَمِل عملاً ليس عليه أمرُنا، فهو رَدٌّ)).

    وكلُّ عبادة لَم يُحقِّق صاحبُها الشروطَ المذكورةَ، فهي مردودة عليه؛ لأنَّ جِماع الدين والإيمان أصلان: ألاَّ نَعبد إلاَّ الله، ولا نعبده إلاَّ بما شرَع، لا نعبده بالبِدَع؛ كما قال تعالى: ﴿ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا ﴾ [الكهف: 110]. وذلك تحقيق الشهادتين: شهادة أنْ لا إله إلا الله، وشهادة أنَّ محمدًا رسول الله؛ ففي الأولى: ألاَّ نعبد إلاَّ الله، وفي الثانية: أنَّ محمدًا هو رسوله المُبلِّغ عنه، فعلينا أن نُصَدِّق خبرَه، ونُطيع أمره، وقد بيَّن لنا ما نَعبد الله به، ونهانا عن مُحدثات الأمور، وأخبَرنا أنها ضلالة.

    أمَّا أركان العبادة التي تقوم عليها، فهي ثلاثة: المحبَّة، والخوف، والرجاء، والعبادة الحَقَّة هي التي يتقلَّب صاحبها بين حبِّ الله، والخوف منه، ورجائه والطَّمع في رحمته، والعابد دون حبٍّ وخوفٍ ورجاءٍ، إنما يؤدِّي حركات جوفاءَ لا معنى لها، والخوف دون رجاءٍ رُبَّما أدَّى إلى اليأس، والرجاء دون خوفٍ رُبَّما أدَّى إلى الجُرأة على المعاصي والأمْن من مَكر الله تعالى.

    فلا بدَّ للعبد أن يَجمع بين تلك الأركان الثلاثة كلِّها، فيَعبد الله حبًّا، ويَقرن إلى ذلك الخوف والرجاء؛ كما قال - سبحانه -: ﴿ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ ﴾ [الإسراء: 57].

    والسبب في ضرورة الجَمْع بين الحب والخوف والرجاء معًا، هو أنَّ القلب في سَيْره إلى الله تعالى بمنزلة الطائر؛ فالمحبَّة رأسه، والخوف والرجاء جَناحاه، فمتى سَلِم الرأس والجناحان، فالطَّير جيِّدُ الطيران، ومتى قُطِع الرأس، مات الطائر، ومتى فُقِد الجناحان، فهو عُرضة لكلِّ صائد وكاسرٍ، ولكنَّ السَّلف - رَحِمهم الله - اسْتَحَبُّوا أن يُقوَّى في الصحة جَناحُ الخوف على جناح الرجاء، وعند الخروج من الدنيا يُقَوَّى جناحُ الرجاء على جَناح الخوف، وبعضهم قال: يَنبغي للقلب أن يكونَ الغالب عليه الخوفَ، فإن غلَب عليه الرجاء، فَسَد، وبعضهم قال: أكملُ الأحوال اعتدالُ الرجاء والخوف، وغلبةُ المحبَّة، فالمحبَّة هي المركب، والرجاء حادٍ، والخوف سائقٌ، والله المُوصل بمَنِّه وكَرمه.

    وعلى كلِّ حالٍ، فتوحيد الألوهيَّة يَعني: توجُّه العبد بكلِّ عباداته وأفعاله الظاهرة والباطنة لله وحْده، والكفر بكلِّ ما يعبد من دونه من الطواغيت؛ أي: بُغضه وكُرهه مع اعتقاد بُطلان عبادته، وهذا هو معنى كلمة النجاة "لا إله إلا الله"، ولعلي أُفرد لها بحثًا مُستقلاًّ فيما بعدُ - إن شاء الله تعالى.

    ثانيًا: الأسماء التي أُطْلقت على هذا النوع من التوحيد:
    هناك عددٌ من الأسماء التي أُطْلِقت على هذا النوع من التوحيد؛ منها: تسميته بتوحيد الغاية، وأيضًا توحيد الألوهيَّة، ورُبَّما يُطْلَق عليه توحيد العبادة، وتوحيد القصْد والطَّلب، وتوحيد الشرع والقَدر، وتوحيد الإرادة.

    فأمَّا تسميته بتوحيد الغاية وتوحيد العبادة؛ فلقوله تعالى: ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾ [الذاريات: 56].

    فعبادة الله وحْده لا شريك له، هي الغاية التي خُلِق الناس من أجْلها، وهى أوَّل الدِّين وآخره، وظاهره وباطنه، وقد بيَّنت الآية العلَّة في خَلْق العباد بلام التعليل في قوله: ﴿ لِيَعْبُدُونِ ﴾؛ قال شيخ الإسلام: "هذه اللام ليستْ هي اللام التي يُسَمِّيها النحاة لامَ العاقبة والصيرورة، بل هي اللام المعروفة، وهي لام كي ولام التعليل، التي إذا حُذِفت انتصَب المصدر المجرور بها على المفعول له، وتسمَّى العلَّة الغائيَّة، وهى متقدِّمة في العلم، والإرادة متأخِّرة في الوجود والحصول، وهذه العِلَّة هي المراد المطلوب المقصود من الفعل، فمقتضى اللام في قوله: ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾ الإرادة الدينيَّة الشرعيَّة، وهذه قد يقعُ مرادُها وقد لا يقعُ، فهو العمل الذي خُلِق العباد له".

    فباعتبار إضافته إلى العابد يُسمَّى توحيد العبادة، ويُسمَّى أيضًا توحيد الألوهيَّة أو الإلهيَّة، وكلاهما صحيح؛ لأنه معنى قول العبد: "لا إله إلا الله"؛ إذ الإله هو: الْمَأْلُوه المعبود بجميع أنواع العبادة.

    قال شيخ الإسلام: "توحيد العبادة: هو تحقيق شهادة أنْ لا إله إلا الله، أن يَقصد الله بالعبادة ويُريده بذلك دون ما سواه، وهذا هو الإسلام؛ فإن الإسلام يتضمَّن أصلَيْن؛ أحدهما: الاستسلام لله، والثاني: أن يكون ذلك له سالِمًا، فلا يشركه أحدٌ في الإسلام له".

    فباعتبار إضافته إلى الله تعالى يُسَمَّى توحيد الألوهيَّة؛ لأنه مبنيٌّ على إخلاص التألُّه - وهو أشدُّ المحبَّة - لله.

    ويسمَّى توحيد القَصْد والطلب؛ لأنه يتعلَّق بنيَّة المسلم ومَطلبه في الحياة، وإنما سُمِّي بتوحيد الإرادة؛ لأنه مبنيٌّ على إرادة وجْه الله بالأعمال، وإخلاص القصْد المُستلزم إخلاصَ العبادة لله وحْده، وسُمِّي بتوحيد العمل؛ لأنه مبنيٌّ على إخلاص العمل لله وحْده؛ كما قال تعالى: ﴿ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ ﴾ [الزمر: 2].

    وفي الصحيح: ((إنَّما الأعمال بالنيَّات..))، ومِن ثمَّ فإن توحيد القصْد والطلب، يتعلَّق بالمطالب العالية والأوامر التكليفيَّة الشريفة، فأعلى الغايات هي الوصول إلى رضا الله تعالى والقُرب منه، وأقرب الطُّرق والوسائل إليه طريقةُ الهدى وتوحيد الطريق، فلا يُعدَل عنها إلى غيرها، وتوحيد المطلوب، وهو الحق - سبحانه - فلا يُعْدَل عنه إلى غيره.

    والهداية التامَّة تتضمَّن توحيد المطلوب، وتوحيدَ الطلب، وتوحيدَ الطريق المُوصِّلة، والانقطاعُ وتخلُّف الوصول إلى المطلوب، يقعُ من الشركة في هذه الأمور أو في بعضها، فالشركة في المطلوب تُنافي التوحيد والإخلاص، والشركة في الطلب تُنافي الصدق والعزيمة، والشركة في الطريق تُنافي اتِّباع الأمر، فالأوَّل يُوقِع في الشِّرك والرِّياء، والثاني يوقِع في المعصية والبطالة، والثالث يُوقِع في البدعة ومُفارقة السُّنة، فتأمَّلْه تَجِدْ أنَّ توحيد المطلوب يَعْصم من الشِّرك، وتوحيد الطلب يَعصم من المعصية، وتوحيد الطريق يَعصم من البدعة، والشيطان إنما يَنصب فخَّه بهذه الطرق الثلاثة.

    فالعبادة تتضمَّن الطلب والقصد، والإرادة والمحبَّة، وهذا لا يتعلَّق بمعدومٍ، فإنَّ القلب يَطلب موجودًا، فإذا لَم يَطلب ما فوق العالَم، طلَب ما هو فيه.

    وهذا النوع من التوحيد يُسَمَّى أيضًا: توحيد الإرادة، فالإرادة في الأصْل مِن رادَ يَرود، إذا سَعى في طلب الشيء، وهى قوَّة مُركَّبة في قلب الإنسان، جُعِلت اسمًا لشروع النفس إلى الشيء، مع الحُكم فيه بأنه يَنبغي أن يُفعَل أو لا يُفعَل، والإرادة قريبة من القصْد والنيَّة، والعزم على الفعل، وكلُّها من أعمال القلوب ومَنطقة الكسْب؛ ﴿ مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا * وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا ﴾ [الإسراء: 18 - 19].

    وقد سُمِّي هذا التوحيد توحيدَ الإرادة؛ لتوافُق الإرادات، فالعبد إذا حقَّقه توافَقَت إرادتُه مع الإرادة الشرعيَّة الدينيَّة، والإرادة الكونيَّة القدريَّة، فالمؤمن الذي كَمُل إيمانُه، تتوافَق فيه الإرادات، والكافر تتخلَّف فيه إرادة الله الشرعيَّة فقط، وهي إرادة بمعنى الأمر الشرعي الموجَّه إلى المُكلَّفين، وتلك الإرادة قد تتخلَّف، وقد يَعصيها الإنسان، أمَّا الإرادة الكونيَّة القدريَّة، فهي بمعنى الحُكم المُنتهِي، والقضاء المُبرَم، والتقدير الواقع بأنْ يُفْعَل أو لا يُفْعَل، فمتى قيل: أرادَ الله كذا على المعنى الكوني، فمعناه: قضاه وقَدره، وحَكَم فيه أنه واقعٌ، فهي بمعنى المشيئة.

    وكما سُمِّي هذا النوع بتوحيد الإرادة، فإنه يُسَمَّى كذلك توحيد الشرع والقدر؛ لأنَّ عقيدة السلف وسطٌ بين الجبريَّة والقدريَّة، فالمسلم يجب أن يُسلِّمَ لله في تدبيره الشرعي والكوني معًا، فيَعمل بشرعه ويُؤمن بقَدره، لا انفكاكَ لأحدهما عن الآخر، ومعنى ذلك أنَّ المسلم إذا وفَّقه الله إلى الطاعة والاجتهاد في أحكام العبوديَّة، وأدَّى توحيد الألوهيَّة، نَسَب الفضل في طاعته إلى ربِّه، وأنَّها كانتْ بمعونته وتوفيقه؛ لِمَا سبَق في حُكمه وقضائه وقَدره، ولا يَنسب الفضل إلى نفسه، أو يَمُنَّ به على ربِّه؛ ﴿ يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾ [الحجرات: 17].

    كما أنْ المُوحِّدَ إذا أحدَث ذنبًا ومعصية، عَلِم أنَّ أفعاله وإن كانتْ بمشيئة الله وحُكمه، وقضائه وقدره، إلاَّ أنَّ النسبةَ في العصيانِ مَردُّها إلى الإنسان، أو وَسواس الشيطان، فيَدعوه ذلك إلى التوبة وطلَبِ الغُفران، ويُقِرُّ لربِّه بذنبه، وأنَّ معصيته بسبب تقصيره وخطئه، وأنه مُستحق للعقاب بحُكمه وعدله، وأنَّ ربَّه مُنَزَّه عن ظُلم أحدٍ من العالمين، فإن أدخَل عبدًا الجنة، فبفَضله ورحمته، وإن عذَّبه، فبِعَدله وحِكمته.

    قال ابن القيِّم: "وها هنا أمرٌ يجب التنبيه عليه، وهو أنَّ الجنة إنما تُدخَل برحمة الله، وليس عملُ العبد مستقلاًّ بدخولها، وإن كان سببًا؛ ولهذا أثبَت الله دخولها بالأعمال في قوله تعالى: ﴿ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ [الزخرف: 72]، ونفَى الرسول- صلَّى الله عليه وسلَّم - دخولَها بالأعمال بقوله عند البخاري: ((لن يدخلَ أحدٌ منكم الجنة بعمله))، ولا تَنافي بين الأمرين".

    فمَن نفى القَدر وزعَم مُنافاته للشرع، فقد عطَّل الله عن عِلْمه وقُدرته، وجعَل العبد مستقلاًّ بأفعاله، خالقًا لها كما قالت المعتزلة؛ حيث أثْبَتوا خالقًا مع الله، لا يَنحصر في واحد أو اثنين كما قالت النصارى، ولكن جعَلوا آلهةً أخرى بعدد البشر، ومَن أثبَت القدر مُحتجًّا به على الشرْع، مُحَاربًا له به، نافيًا عن العبد قُدرته التي منَحها الله إيَّاها، ونفى أمرَ الله ونَهْيه، فقد نفى الحكمة عن أفعال ربِّه، ونسَب إليه الظُّلم والعَبَث - تعالَى الله عن ذلك عُلوًّا كبيرًا.

    ومِن ثمَّ، فإنَّ المؤمنين المُوَحِّدين يُثبتون القدرَ خيرَه وشرَّه، ويَنقادون للشرع أمرِه ونَهْيه؛ إذ الإيمان بالقدر مُرتبطٌ بامتثال الشرع، وامتثال الشرع مُرتبط بالإيمان بالقدر، وانفكاك أحدهما من الآخر مُحالٌ، فإن الإقرار بالقَدر مع الاحتجاج به على الشرع ومُحاربته به، مخاصمةٌ لله تعالى في أمره وشرعه، ووَعْده ووعيده، وثوابه وعقابه، وطَعْنٌ في حِكمته وعدْله، وانتقادٌ عليه في إرسال الرُّسل وإنزال الكُتب، وخَلْق الجنة لأوليائه المُصَدِّقين بها، وخَلْق النار لأعدائه المُكذِّبين، ونسبةٌ لأحْكم الحاكمين - الحكيم في خَلْقه وشَرْعه، والعدل في قوله وفِعله وحُكمه - إلى العَبَث والظُّلم في ذلك كله.

    وكذلك الانقياد للشرع مع نفْي القدر، وإخراج أعمال العباد عن قُدرة الباري، وجَعْلهم مُستقلِّين بها، مُستغنين عنه - طَعْنٌ في ربوبيَّة المعبود ومَلكوته، ونِسبته إلى العَجْز، ووَصْفه بما لا يَستحق - تعالى ربُّنا وتقدَّس، وتنزَّه وجلَّ وعلا عمَّا يقول الظالمون الجاحدون عُلوًّا كبيرًا - بل الإيمان بالقدر خيرِه وشرِّه، هو نظام التوحيد، كما أنَّ الإتيان بالأسباب التي تُوصِّل إلى خيره وتَحجز عن شرِّه، والاستعانة بالله عليها، هو نظام الشرع، ولا يَنتظم أمرُ الدين ولا يَستقيم، إلاَّ لِمَن آمَن بالقَدر، وامتثَل الشرع.

    كما سمَّاه بعض العلماء بالتوحيد الإرادي الطلبي، أو التوحيد العملي، وجَعَله قسيمًا للنوعين الآخَرين من التوحيد؛ أي: توحيد الربوبيَّة، وتوحيد الأسماء والصفات، واللذان يُطلق عليهما: التوحيد العلمي، أو الاعتقادي الخبري.

    فهذه أغلبُ الأسماء والمُصطلحات التي تُطْلَق على توحيد الألوهيَّة في الكتب التي تَعرض له، وعلى ألْسِنة مَن يتناولونه بالشَّرح والبيان.
    كَتَبه : محمود العشري من كتاب عقيدة المؤمن لأبو بكر الجزائري
    التعديل الأخير تم بواسطة الشهاب الثاقب. ; 05-05-2022 الساعة 08:15 PM
    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

    هل الله يُعذب نفسه لنفسههل الله يفتدى بنفسه لنفسههل الله هو الوالد وفى نفس الوقت المولوديعنى ولد نفسه سُبحان الله تعالى عما يقولون ويصفون

    راجع الموضوع التالي


  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Nov 2011
    المشاركات
    1,892
    الدين
    الإسلام
    الجنس
    ذكر
    آخر نشاط
    23-05-2024
    على الساعة
    09:12 PM

    افتراضي

    بسم الله الرحمن الرحيم
    و به نستعين




    بيان الشرك :
    الشرك ضد التوحيد ، فإذا كان معنى التوحيد : إفراد الله تعالى بالعبادة . فالشرك هو صرف شيء من العبادة لغير الله ، والشرك أعظم الذنوب ؛ لأن الله سبحانه أخبر أنه لا يغفر لمن لم يتب منه مع أنه كتب على نفسه الرحمة ، أما غيره من الذنوب فهو تحت المشيئة ، إن شاء الله عذب صاحبه وإن شاء غفر له ، كما قال تعالى : إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ .
    والشرك يحبط جميع الأعمال ، كما قال تعالى : وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ، وقال تعالى : وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ .
    والشرك هبوط وسقوط من أوج العز والكرامة إلى حضيض السفول والقلق وعدم الاستقرار والرذيلة ، قال تعالى : وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ .
    (الجزء رقم : 20، الصفحة رقم: 197)

    وقد حرم الله الجنة على المشرك وحكم عليه بالخلود في النار كما قال تعالى : إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ .
    والشرك أعظم الظلم كما قال تعالى : إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ؛ لأنه تنقص لرب العالمين ، وتسوية لغيره به سبحانه .
    والشرك ضلال مبين ولذلك يعترف المشركون بضلالهم فيقولون : تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (97) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ .
    وإذا كان الشرك في هذا المستوى من القبح والخطورة فهذا مما يوجب شدة الحذر من الوقوع فيه ، ويوجب على المسلم أن يعرفه ليتجنبه ، ويوجب على المسلمين مقاومته والقضاء عليه ، وقد كانت مهمة الرسل عليهم الصلاة والسلام في الدرجة الأولى مقاومة الشرك والنهي عنه والتحذير منه وجهاد المشرك باليد واللسان - كما قال تعالى :
    (الجزء رقم : 20، الصفحة رقم: 198)
    وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ .
    وكل رسول يقول لقومه : اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ ؛ لأن الشرك هو أعظم الفساد الذي تصاب به الأمم وهو يناقض الخلق والأمر ، ولا فائدة في جميع الأعمال مع وجود الشرك ، وهذا يؤكد على جميع أتباع الرسل من الدعاة والمصلحين أن تتجه دعواتهم وإصلاحهم إلى مكافحة الشرك وإصلاح العقائد أولا وقبل كل شيء - أما أن تتجه دعواتهم وإصلاحهم إلى أمور جانبية ، ويتركون الشرك يعج في عقائد المسلمين بما يمارس حول الأضرحة وبين أرباب الطرق الصوفية المنحرفة فهذا انحراف بالدعوة عن منهجها الصحيح الذي رسمه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ورسمه الأنبياء عليهم الصلاة والسلام من قبله ولن تأتي هذه الدعوات بنتيجة ولا فائدة ؛ لأنها بدأت من حيث النهاية .
    منقول بتصرف _ مجلة البحوث الإسلاميةتصفح برقم المجلد > العدد العشرون - الإصدار : من ذو القعدة إلى صفر لسنة 1407هـ 1408هـ > البحوث > بيان التوحيد والتحذير من الشرك > بيان الشرك
    التعديل الأخير تم بواسطة الشهاب الثاقب. ; 19-01-2018 الساعة 12:37 AM
    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

    هل الله يُعذب نفسه لنفسههل الله يفتدى بنفسه لنفسههل الله هو الوالد وفى نفس الوقت المولوديعنى ولد نفسه سُبحان الله تعالى عما يقولون ويصفون

    راجع الموضوع التالي


  3. #3
    تاريخ التسجيل
    Nov 2011
    المشاركات
    1,892
    الدين
    الإسلام
    الجنس
    ذكر
    آخر نشاط
    23-05-2024
    على الساعة
    09:12 PM

    افتراضي

    بسم الله الرحمن الرحيم
    و به نستعين





    حدوث الشرك في العالم وسببه :
    كان الناس بعد آدم عليه السلام على الدين الصحيح إلى أن حدث الشرك في قوم نوح بسبب غلوهم في الصالحين لما ماتوا فصوروا صورهم بإيحاء من الشيطان ونصبوها على مجالسهم ليتذكروا بها أحوالهم فينشطوا على العبادة بزعمهم فلما هلك هذا الجيل الذي نصب تلك الصور زين الشيطان للجيل الذي جاء من بعدهم عبادة تلك الصور فعبدوها . ومن ذلك الحين حدث الشرك في الأرض فبعث الله نبيه نوحا عليه الصلاة والسلام يدعو قومه إلى التوحيد وينهاهم عن هذا الشرك الذي وقعوا فيه فأصروا على شركهم : وَقَالُوا لاَ تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلاَ تَذَرُنَّ وَدًّا وَلاَ سُوَاعًا وَلاَ يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا
    (الجزء رقم : 20، الصفحة رقم: 199)
    وتلك أسماء الصالحين الذين غلوا فيهم وصوروا صورهم وأبوا أن يتركوا عبادتهم ، وأَيِس نوح عليه السلام في هدايتهم بعد محاولة طويلة معهم كما قال الله ألف سنة إلا خمسين عاما : وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ .
    عند ذلك دعا عليهم فأهلكهم الله بالطوفان وأنجى نوحا ومن آمن معه في الفلك . ثم تتابعت الرسل من بعد نوح تدعو إلى التوحيد وتنهى عن الشرك ، إلى أن جاء عهد إبراهيم خليل الله وقد بلغ الشرك والطغيان والجبروت من الطواغيت مبلغا عظيما فقاوم الشرك والمشركين بالحجة والبرهان وحطم الأصنام بيده ولقي في سبيل ذلك أشد أنواع الأذى وأقسى أنواع التعذيب الذي سلمه الله منه حين ألقوه في النار فجعلها الله بقدرته ورحمته بردا وسلاما ، وجعل العاقبة الحميدة له وجعل في ذريته النبوة والكتاب وبقيت النبوة وكلمة التوحيد في ذريته كما قال تعالى : وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ ، وقال تعالى : وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ خصوصا العرب بني إسماعيل .
    فإن التوحيد لم يزل فيهم وهم على ملة إبراهيم وإسماعيل إلى أن ظهر فيهم عمرو بن لحي الخزاعي فغير فيهم دين إبراهيم ودعاهم إلى عبادة الأصنام فأجابوه ، والسبب في ذلك أنه ذهب إلى الشام فوجد أهلها يعبدون الأصنام فقلدهم في ذلك وجلب معه الأصنام إلى العرب ، وقيل :
    (الجزء رقم : 20، الصفحة رقم: 200)
    إن الشيطان أتاه وأرشده إلى الأصنام التي كان الطوفان قد دفنها في الأرض بعد قوم نوح وأمره بأخذها ودعوة العرب إلى عبادتها ففعل . ومن ثم انتشر الشرك في العرب ، وكانت لهم أصنام مشهورة كاللات والعزى ومناة ، وكان لقريش أصنام حول الكعبة وفي جوفها . ومن أعظم أصنامهم هبل الذي يعتزون ويقسمون به - إلى أن بعث الله نبينا محمدا خاتم النبيين فدعا إلى التوحيد ونهى عن الشرك وجاهد المشركين باليد واللسان حتى نصره الله عليهم وهدم أوثانهم وحطم أصنامهم وأعاد الحنيفية ملة إبراهيم صافية نقية وترك أمته على البيضاء ليلها كنهارها وأكمل الله به الدين وأتم به النعمة ، وواصل صحابته الكرام ، وخلفاؤه العظام مسيرة الدعوة في مشارق الأرض ومغاربها وفتحوا البلاد شرقا وغربا ونشروا فيها التوحيد وقضوا على مظاهر الشرك والوثنية حتى تحقق قول الله عز وجل : هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ .
    نفس المصدر السابق
    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

    هل الله يُعذب نفسه لنفسههل الله يفتدى بنفسه لنفسههل الله هو الوالد وفى نفس الوقت المولوديعنى ولد نفسه سُبحان الله تعالى عما يقولون ويصفون

    راجع الموضوع التالي


  4. #4
    تاريخ التسجيل
    Nov 2011
    المشاركات
    1,892
    الدين
    الإسلام
    الجنس
    ذكر
    آخر نشاط
    23-05-2024
    على الساعة
    09:12 PM

    افتراضي

    بسم الله الرحمن الرحيم
    و به نستعين




    ظهور الشرك في هذه الأمة :
    لقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم أمته من الشرك غاية التحذير وسد كل الطرق الموصلة إليه ، وحمى حمى التوحيد ومن ذلك :
    (1) أنه نهى عن الغلو في مدحه بما قد يفضي إلى عبادته من دون الله كما حصل للنصارى في حق عيسى ابن مريم ، قال صلى الله عليه وسلم : لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم ، إنما أنا عبد فقولوا : عبد الله ورسو له .
    (2) نهى عن الغلو في تعظيم قبور الصالحين بالبناء عليها وإسراجها
    (الجزء رقم : 20، الصفحة رقم: 201)
    وتجصيصها والكتابة عليها ؛ لأن هذا يفضي إلى عبادتها وطلب قضاء الحوائج من الموتى .
    (3) نهى عن الصلاة عند القبور سواء بني عليها مساجد أم لا ؛ لأن ذلك وسيلة لعبادتها ولو على المدى الطويل .
    (4) نهى عن الصلاة عند طلوع الشمس وعند غروبها لما في ذلك من التشبه - بالذين يعبدونها ويسجدون لها في هذين الوقتين .
    والمسلم مطلوب منه مخالفة المشركين في عقائدهم وعبادتهم وعاداتهم الخاصة بهم .
    (5) نهى عن السفر إلى أي مكان من الأمكنة بقصد التقرب إلى الله فيه بالعبادة غير المساجد الثلاثة ( المسجد الحرام ، والمسجد النبوي ، والمسجد الأقصى ) .
    (6) نهى عن الوفاء بالنذر بالذبح لله في مكان يذبح فيه لغير الله أو يقام فيه عيد من أعياد الجاهلية إبعادا عن التشبه بهم في تعظيم المكان والوثن .
    (7) نهى عن الألفاظ التي فيها التسوية بين الله وبين المخلوق ، كقول : (ما شاء الله وما شئت) و (لولا الله وأنت) كل هذا صيانة للتوحيد وسدا لمنافذ الشرك وإبعادا للأمة عن أن تقع فيما وقعت فيه الأمم قبلها من فساد العقائد وقد سار صدر هذه الأمة على موجب تلك الوصايا النبوية وحافظوا على عقائدهم ، وصانوها عن كل مناقض ومنقص .
    ولما انتهى وقت القرون المفضلة وامتد الزمن بالناس وجهل أغلبهم آثار الرسالة تسرب إليهم كثير من البدع والخرافات والعوائد الجاهلية في عقائدهم ووقع الكثير فيما حذر منه الرسول صلى الله عليه وسلم من
    (الجزء رقم : 20، الصفحة رقم: 202)
    الشرك بالله وفتح المنافذ والطرق الموصلة إليه ، فبنيت المساجد على القبور ، واتجه إليها الكثير بأنواع العبادة كالطواف بها والذبح لها والتوجه إليها بالرغبة والرهبة والدعاء والاستغاثة وأنواع من الشرك الأكبر الذي يسمونه توسلا وطلبا لشفاعتهم كما قال إخوانهم من قبل : مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ . وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا .
    قال الإمام العلامة ابن القيم رحمه الله :
    ومن جمع بين سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في القبور وما أمر به ونهى عنه وما كان عليه أصحابه وبين ما عليه أكثر الناس اليوم رأى أحدهما مضادا للآخر مناقضا له بحيث لا يجتمعان أبدا .
    فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصلاة إلى القبور ، وهؤلاء يصلون عندها وإليها ، ونهى عن اتخاذها مساجد ، وهؤلاء يبنون عليها المساجد ويسمونها مشاهد مضاهاة لبيوت الله .
    ونهى عن إيقاد السرج عليها ، وهؤلاء يوقفون الوقوف على إيقاد القناديل عليها . ونهى عن أن تتخذ عيدا ، وهؤلاء يتخذونها أعيادا ومناسك ويجتمعون لها كاجتماعهم للعيد أو أكثر ، . . .
    وأمر بتسويتها كما روى مسلم في صحيحه عن أبي الهياج الأسدي قال : قال لي علي : ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم : ألا تدع صورة إلا طمستها ولا قبرا مشرفا إلا سويته ، وهؤلاء يبالغون في مخالفة الحديث ويرفعونها عن الأرض كالبيت
    (الجزء رقم : 20، الصفحة رقم: 203)
    ويعقدون عليها القباب ، ونهى عن تجصيص القبر والبناء عليه ، كما روى مسلم عن جابر رضي الله عنه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن تجصيص القبر وأن يقعد عليه وأن يبنى عليه ، ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الكتابة عليها ، كما روى أبو داود عن جابر أيضا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يجصص القبر أو يكتب عليه أو يزاد عليه وهؤلاء يزيدون عليه الآجُرّ والجص والأحجار .
    قال إبراهيم النخعي : كانوا يكرهون الآجر على قبورهم ، والمقصود أن هؤلاء المعظمين للقبور المتخذيها أعيادا الموقدين عليها السرج ، الذين يبنون عليها المساجد والقباب منافون لما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم محادون لما جاء به ، وأعظم ذلك اتخاذها مساجد وإيقاد السرج عليها ، وهو من الكبائر . . . انتهى كلام ابن القيم رحمه الله . . . . وهو يصف ما حدث في وقته وقد زاد الأمر على ما وصفه بأضعاف وغلوا في الموتى فعبدوهم من دون الله وكذلك ارتكبوا ما نهى عنه صلى الله عليه وسلم من الغلو في مدحه وإطرائه مضاهاة للنصارى في مدح عيسى ابن مريم حتى رفعوه فوق منزلته حتى وقعوا في الشرك الأكبر ، وأظهر لهم الشيطان هذا الغلو في قالب تعظيمه ومحبته وأن عدم الغلو فيه تنقيص له وحط من قدره .
    وكذلك غلوا في الصالحين كما غلا فيهم قوم نوح من قبل حتى اعتقدوا فيهم شيئا من خصائص الإلهية من جلب النفع ودفع الضر مما لا يقدر عليه إلا الله تعالى ، فهتفوا بأسمائهم عند الشدائد والكربات ، واستغاثوا بهم في كشف الملمات وطافوا بقبورهم كما يطاف بالكعبة وذبحوا القرابين عند قبورهم وصرفوا لهم النذور . قال الإمام العلامة ابن القيم : وقد أدخل الشيطان الشرك على قوم نوح من باب الغلو في الصالحين ، وقد وقع في هذه الأمة مثل ما وقع لقوم نوح لما أظهر
    (الجزء رقم : 20، الصفحة رقم: 204)
    الشيطان لكثير من المفتونين الغلو والبدع في قالب تعظيم الصالحين ومحبتهم ليوقعهم فيما هو أعظم من ذلك من عبادتهم لهم من دون الله - فما زال يوحي إلى عباد القبور ويلقي إليهم أن البناء والعكوف عليها من محبة أهل القبور من الأنبياء والصالحين وأن الدعاء عندها مستجاب ثم ينقلهم من هذه المرتبة إلى الدعاء بها والإقسام على الله بها ، فإذا تقرر ذلك عندهم نقلهم منه إلى دعاء المقبور وعبادته وسؤاله الشفاعة من دون الله واتخاذ قبره وثنا تعلق عليه القناديل والستور ويطاف به ويستلم ويقبل ويحج إليه ويذبح عنده ، فإذا تقرر ذلك عندهم نقلهم منه إلى دعاء الناس إلى عبادته واتخاذه عيدا ومنسكا ورأوا أن ذلك أنفع لهم في دنياهم وأخراهم . . . .
    فإذا تقرر ذلك عندهم نقلهم منه إلى أن من نهى عن ذلك فقد تنقص أهل هذه الرتب العالية وحطهم عن منزلتهم وزعم أنه لا حرمة لهم ولا قدر ، وقد سرى ذلك في نفوس كثير من الجهال والطَّغَام وكثير ممن ينتسب إلى العلم والدين حتى عادوا أهل التوحيد ورموهم بالعظائم ونفروا الناس عنهم . . . انتهى كلامه رحمه الله وهو يصور الداء وأسبابه . ولا علاج لهذا الداء القاتل والوباء الفتاك إلا ببذل الأسباب الشافية والواقية والتي تتلخص في نظري فيما يأتي :
    (1) الرجوع إلى الكتاب والسنة وكتب السلف الصالح لفهم العقيدة الصحيحة ومعرفة ما يضادها أو ينقصها من الشرك والبدع والخرافات ونبذ الكتب المخالفة للكتاب والسنة من كتب الصوفية والقبورية والمخرفين .
    (2) تدريس كتب العقائد الصحيحة في المراحل الدراسية وتكثيف منهاجها والتركيز عليها في النجاح والرسوب واختيار المدرسين
    (الجزء رقم : 20، الصفحة رقم: 205)
    المتخصصين في فهم عقيدة السلف وتفهيمها للطلاب ، وأن تكون هناك دروس في المساجد لتفهيم العقيدة لعامة الناس ، ومن لا تسمح له ظروفه بمتابعة الدراسة المنهجية .
    (3) اهتمام الدعاة بتصحيح العقائد والدعوة إلى التوحيد والتحذير من الشرك وإنكار ما يقع من الشرك حول الأضرحة في محاضراتهم ومؤلفاتهم وبيان العقيدة الصحيحة ، واجتماع كلمتهم على ذلك بدلا من اختلافهم في مناهج الدعوة اختلافا شتتهم وحير الجهال فيمن يتبعون منهم .
    وأفرح أعداء الإسلام بعدم نجاح دعوتهم ، وقد قال الله تعالى : وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا .
    (4) إزالة مظاهر الشرك من بلاد الإسلام بهدم الأضرحة ومنع بناء المساجد على القبور ومقاومة المخرفين ، والمبتدعة ، ورد شبهاتهم وكشف تزييفهم حتى يرتدعوا عن غيهم ويسلم الناس من شرهم .
    (5) نشر كتب السلف الصالح وإيصالها إلى أيدي القراء بسهولة وتوفيرها في المكتبات العامة للمراجعة .
    (6) توعية الشباب والدارسين بتعريفهم بالكتاب والمؤلفين المستقيمين والمؤلفات المفيدة في العقيدة وتعريفهم بالكتاب والمؤلفين المنحرفين والمؤلفات الفاسدة والمخلة في العقيدة .
    نفس المصدر السابق _ صالح بن فوزان الفوزان
    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

    هل الله يُعذب نفسه لنفسههل الله يفتدى بنفسه لنفسههل الله هو الوالد وفى نفس الوقت المولوديعنى ولد نفسه سُبحان الله تعالى عما يقولون ويصفون

    راجع الموضوع التالي


  5. #5
    تاريخ التسجيل
    Nov 2011
    المشاركات
    1,892
    الدين
    الإسلام
    الجنس
    ذكر
    آخر نشاط
    23-05-2024
    على الساعة
    09:12 PM

    افتراضي

    بسم الله الرحمن الرحيم
    و به نستعين

















    [باب ما جاء أن سبب كفر بني آدم وتركهم دينهم هو الغلو في الصالحين]
    " باب ما جاء أن سبب كفر بني آدم وتركهم دينهم هو الغلو في الصالحين " وقول الله تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ} [النساء: 171] [النساء 171] .
    وفي الصحيح عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: في قول الله تعالى: {وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} [نوح: 23] [نوح: 23] .
    قال: هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم: أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصابا، وسموها بأسمائهم، ففعلوا، فلم تعبد، حتى إذا هلك أولئك ونسي العلم عبدت (1) .
    وقال ابن القيم: قال غير واحد من السلف: لما ماتوا عكفوا على قبورهم، ثم صوروا تماثيلهم، ثم طال عليهم الأمد، فعبدوهم (2) .
    وعن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم إنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله» أخرجاه. (3) .
    ـــــــــــــــــــــــــــــ
    [التمهيد لشرح كتاب التوحيد]
    . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
    _________
    (1) أخرجه البخاري (4920) .
    (2) إغاثة اللهفان. ط دار ابن زيدون 552 - 223.
    (3) أخرجه البخاري (3445) (6830) ومسلم (1691) .

    (1/234)

    وقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إياكم والغلو فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو» (1) ولمسلم: عن ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «هلك المتنطعون ". قالها ثلاثا» (2) .
    فيه مسائل: الأولى: أن من فهم هذا الباب وبابين بعده؛ تبين له غربة الإسلام، ورأى من قدرة الله وتقليبه للقلوب العجب.
    الثانية: معرفة أول شرك حدث في الأرض أنه بشبهة الصالحين.
    الثالثة: أول شيء غير به دين الأنبياء، وما سبب ذلك، مع معرفة أن الله أرسلهم.
    الرابعة: قبول البدع، مع كون الشرائع والفطر تردها.
    الخامسة: أن سبب ذلك كله: مزج الحق بالباطل، فالأول محبة الصالحين. والثاني: فعل أناس من أهل العلم شيئا، أرادوا به خيرا، فظن من بعدهم أنهم أرادوا به غيره.
    السادسة: تفسير الآية التي في سورة نوح.
    السابعة: جبلة الآدمي في كون الحق ينقص في قلبه والباطل يزيد.
    الثامنة: فيه شاهد لما نقل عن السلف، أن البدع سبب الكفر.
    التاسعة: معرفة الشيطان بما تؤول إليه البدعة، ولو حسن قصد الفاعل.
    العاشرة: معرفة القاعدة الكلية، وهي النهي عن الغلو ومعرفة ما يؤول إليه.
    ـــــــــــــــــــــــــــــ
    [التمهيد لشرح كتاب التوحيد]
    . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
    _________
    (1) أخرجه أحمد 1 / 215، 347 وابن ماجه (3064) .
    (2) أخرجه مسلم (2670) .

    (1/235)

    الحادية عشرة: مضرة العكوف على القبر لأجل عمل صالح.
    الثانية عشرة: معرفة النهي عن التماثيل، والحكمة في إزالتها.
    الثالثة عشرة: معرفة شأن هذه القصة، وشدة الحاجة إليها مع الغفلة عنها.
    الرابعة عشرة: وهي أعجب وأعجب: قراءتهم إياها في كتب التفسير والحديث، ومعرفتهم بمعنى الكلام، وكون الله حال بينهم وبين قلوبهم، حتى اعتقدوا أن فعل قوم نوح أفضل العبادات؛ فاعتقدوا أن ما نهى الله ورسوله عنه، فهو الكفر المبيح للدم والمال.
    الخامسة عشرة: التصريح بأنهم لم يريدوا إلا الشفاعة.
    السادسة عشرة: ظنهم أن العلماء الذين صوروا الصور، أرادوا ذلك.
    السابعة عشرة: البيان العظيم في قوله: «لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم» فصلوات الله وسلامه على من بلغ البلاغ المبين.
    الثامنة عشرة: نصيحته إيانا بهلاك المتنطعين.
    التاسعة عشرة: التصريح بأنها لم تعبد حتى نسي العلم؛ ففيها بيان معرفة قدر وجوده، ومضرة فقده.
    العشرون: أن سبب فقد العلم: موت العلماء.
    ـــــــــــــــــــــــــــــ
    [التمهيد لشرح كتاب التوحيد]
    . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

    (1/236)

    . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
    ـــــــــــــــــــــــــــــ
    [التمهيد لشرح كتاب التوحيد]
    جوازه ظاهرة؟ مع أن الرسل جميعا بعثوا، ليعبد الله وحده دون ما سواه، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ} [النحل: 36] [النحل: 36] ، فما سبب الغواية؟ وما سبب الشرك؟ فإذا كانت قضية التوحيد من أوضح الواضحات، والأبواب السالفة دالة بظهور ووضوح على وجوب إحقاق عبادة الله وحده، وعلى إبطال عبادة كل من سوى الله - جل جلاله وتقدست أسماؤه - فما سبب وقوع الشرك إذا؟ وكيف وقعت فيه الأمم؟ وللأجوبة على هذه الأسئلة أورد الشيخ - رحمه الله - هذا الباب وما بعده؛ ليبين أن سبب الشرك، وسبب الكفر هو: الغلو الذي نهى الله - جل وعلا - عنه، ونهى عنه رسوله صلى الله عليه وسلم، سواء في هذه الأمة أو في الأمم السابقة، فأحد أسباب وقوع الكفر والشرك هو: الغلو في الصالحين، بل هو سببهما الأعظم.
    قال هنا: " باب ما جاء أن سبب كفر بني آدم وتركهم دينهم هو الغلو في الصالحين " هذا ذكر للأسباب، بعد ذكر الأصول والعقائد.
    " هو الغلو في الصالحين ": الغلو: مأخوذ من غلا الشيء: يغلو، غلوا: إذا جاوز به حده، وقد جاء في الحديث «أن النبي صلى الله عليه وسلم لما رمى الجمرات بحصيات، قال: " بمثل هذه فارموا وإياكم والغلو» (1) يعني: لا تجاوزوا الحد
    _________
    (1) رواه أحمد في المسند (1 / 215 - 347) والنسائي (5 / 268) ابن ماجه (3064) وصححه الذهبي والنووي وابن تيمية في الاقتضاء ص106.

    (1/237)

    . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
    ـــــــــــــــــــــــــــــ
    [التمهيد لشرح كتاب التوحيد]
    حتى في حجم تلك الحصاة، ومقدارها؛ ولذلك أرشدهم إلى الحجم الذي ينبغي أن تكون عليه بقوله: «بمثل هذه فارموا» فإذا جاوز في المثلية، بأن رمى بكبيرة: فإنه قد غلا، يعني: جاوز الحد الذي حد له في ذلك، فالغلو - إذا - هو: مجاوزة الحد.
    والمقصود بـ " الغلو في الصالحين " الذي هو سبب كفر بني آدم، وتركهم، دينهم الذي أمروا به: أنهم تجاوزوا الحد الواجب في تعظيمهم حتى آل بهم الأمر إلى الشرك.
    وقوله: " الصالحون ": يشمل كل من قام به هذا الوصف، من الأنبياء، والرسل، والأولياء، من أي أمة كانوا.
    وأصل كلمة (الصالحين) أنها جمع (الصالح) . والصالح: هو اسم من قام به الصلاح، والصلاح في الكتاب والسنة تارة يكون بمعنى نفي الفساد أي: ما يقابل الفساد، وتارة يكون بمعنى ما يقابل السيئات، فيقال صالح بمعنى ليس بذي فساد، ويقال أيضا صالح بمعنى: ليس بسيئ.
    والصالحون هنا المراد بهم.: أهل الصلاح يعني: أهل الطاعة والإخلاص لله - جل وعلا - الذين اجتنبوا الفساد واجتنبوا السيئات، وهم الذين اشتركوا في فعل الطاعات وترك المحرمات، أو كانوا من السابقين بالخيرات، فاسم الصالح يقع شرعا على المقتصد، وعلى السابق بالخيرات؛ فالمقتصد صالح، والسابق بالخيرات، صالح وكل درجات عند اله جل وعلا.
    " والغلو في الصالحين " يعني: مجاوزة الحد فيهم، لكن ما الحد الذي أذن به الشرع في حق الصالحين، حتى نعلم متى يكون تعظيمهم مجاوزة للحد المعلوم؟ الجواب: أنهم إذا كانوا من الرسل: فبالأخذ بشرائعهم، واتباعهم،

    (1/238)

    . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
    ـــــــــــــــــــــــــــــ
    [التمهيد لشرح كتاب التوحيد]
    والاقتداء بهم، مع المحبة، والاحترام، والموالاة، والنصرة، وغير ذلك من المعاني الداخلة في الحد المأذون به في حقهم. أما الغلو فيهم مجاوزة ذلك الحد، وهو بحر لا ساحل له، فمما حصل من الغلو فيهم أنهم جعلت فيهم خصائص الإلهية كما ادعاه في حق نبينا صلى الله عليه وسلم أنه يعلم سر اللوح والقلم، وأنه من جوده الدنيا وضرتها كما قاله البوصيري في قصيدته المشهورة، المسماة بـ (البردة) :
    فإن من جودك الدنيا وضرتها ... ومن علومك علم اللوح والقلم
    ومن المعلوم: أن هذا لا يليق إلا بالله، فهذا من الغلو المنهي عنه، وكذلك قوله في النبي عليه الصلاة والسلام، غاليا فيه أعظم الغلو:
    لو ناسبت قدره آياته عظما ... أحيا اسمه حين يدعى دارس الرمم
    يقول: إن النبي عليه الصلاة والسلام لم يعط آية تناسب قدره، قال الشراح: حتى القرآن لا يناسب قدر النبي صلى الله عليه وسلم والعياذ بالله. يقولون: والقرآن المتلو بخلاف غير المتلو عند الأشاعرة؛ لأنهم يفرقون بين هذا وهذا.
    فهذا البوصيري يغلو ويقول: لو ناسبت قدره - يعني النبي عليه الصلاة والسلام - آياته عظما - يعني في العظمة - أحيا اسمه حين يدعى دارس الرمم، فالذي يناسب قدره، عند البوصيري أنه إذا ذكر اسمه على ميت قد درس، وذهب رميمه في الأرض، وذهبت عظامه أن تتجمع هذه العظام وتحيى، لأجل ذكر اسم النبي صلى الله عليه وسلم عليه، وهذا من أنواع الغلو الذي يحصل من الذين يعبدون غير الله - جل وعلا - ويتوجهون إلى الأنبياء والرسل، ويجعلون في حقهم من خصائص الألوهية ما لا إذن لهم به، بل هو من الشرك الأكبر

    (1/239)

    . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
    ـــــــــــــــــــــــــــــ
    [التمهيد لشرح كتاب التوحيد]
    بالله جل وعلا، ومن سوء الظن بالله، ومن تشبيه المخلوق بالخالق، وهذا كفر والعياذ بالله.
    فالحد المأذون به شرعا في حقهم مطلوب، وهذه هي الحالة الأولى. والغلو مذموم شرعا، ومنهي عنه، وهذه هي الحالة الثانية، ويقابلها: الجفاء، في حقهم وهي الحالة الثالثة. وهذا الجفاء له صور منها: عدم موالاتهم، وبخسهم حقهم، وترك محبتهم، فالحاصل: أن كل تقصير في حقهم يعد جفاء، وكل زيادة فيه يعد غلو.
    قوله: " وقول الله عز وجل: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} [النساء: 171] مناسبته للباب ظاهرة، وهي: أنه تعالى نهى أهل الكتاب عن الغلو، فقال: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} [النساء: 171] [النساء: 171] ، ووجه الاستدلال من الآية أنه قال: {لَا تَغْلُوا} [النساء: 171] و (تغلو) فعل جاء في سياق النهي فهو يعم جميع أنواع الغو في الدين، أي: لا تغلو بأي نوع من أنواع الغلو في الدين، أي لا تغلو بأي نوع من أنواع الغلو في الدين؛ فنهوا عن أي نوع من أنواع الغلو. فيدخل في هذا عموم الغلو في الصالحين وغيرهم.
    والمتأمل لحال أهل الكتاب، ولما قص الله - جل وعلا - من أخبارهم: يجد أنهم قد غلوا في صالحيهم، كغلو النصارى - مثلا - في عيسى - عليه السلام - وفي أمه وفي حوارييه، وكغلو اليهود - أيضا - في عزير، وفي أصحاب موسى، وفي أحبارهم، وفي رهبانهم وهكذا. فحصل الغلو في أهل الكتاب بأن جعلوا للرسل والأنبياء خصائص الألوهية من جهة التوجه لهم، وقد قال الله

    (1/240)

    . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
    ـــــــــــــــــــــــــــــ
    [التمهيد لشرح كتاب التوحيد]
    جل وعلا: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ - لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ} [المائدة: 72 - 73] [المائدة: 72 - 73] ، وفي آخر سورة المائدة أيضا قال الله جل وعلا: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ} [المائدة: 116] يعني: تنزيها وتعظيما لك أن أقول لهم ذلك؛ لأن ذلك من الشرك، فكيف أقول لهم ذلك؟ ! {قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ - مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ} [المائدة: 116 - 117] [المائدة: 116 - 117] ، وهذا كله في التوحيد. فالحاصل: أن الغلو وقع من أتباع الرسل، وأتباع الأنبياء في الأنبياء والرسل، وغلوا - أيضا - في الصالحين من أتباعهم، وجعلوا لهم بعض خصائص الإلهية، وجعلوا لهم الشفاعة، وزعموا أن لهم نصيبا من الملك، أو أنهم يدبرون الأمور، أو أنهم يصرفون شيئا من الملكوت، وهذا كما يعتقده بعض الصوفية: أن للكون أقطابا أربعة يدبرون أمر هذا العالم،

    (1/241)

    . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
    ـــــــــــــــــــــــــــــ
    [التمهيد لشرح كتاب التوحيد]
    وربما قالوا: الربع الفلاني، المسؤول عنه: القطب الفلاني، والربع الفلاني، المسؤول عنه: القطب الفلاني، وهكذا. فجعل هؤلاء المتصوفة لأقطابهم المزعومين نصيبا من الملك والربوبية، وجعلوا لهم - أيضا - نصيبا من الإلهية؛ فتقربوا إليهم بأنواع القربات: من الذبح، والاستغاثة، والتذلل، والخضوع، والمحبة، والتوكل، والرغب، والرهب، وخوف السر، وغيرها من أنواع العبادات القلبية والعملية.
    قوله: " وفي الصحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما، في قول الله تعالى: {وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا - وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا} [نوح: 23 - 24] [نوح 23 - 24] .
    قال: هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم. . . . ": هذه القصة، أو هذا الأثر عن ابن عباس - رضي الله عنهما - محمول على الرفع؛ لأن هذا خبر غيبي لا يستقى إلا من مشكاة النبوة. و (ود، وسواع، ويغوث، ويعوق، ونسرا) هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح.
    ونوح - عليه السلام - هو أول رسول بعثه الله بعبادة الله وحده دون من سواه، وبالدعوة إلى التوحيد، لما وقع في قومه. لكن كيف دخل الشرك في قوم نوح؟ الجواب: أن القرآن ذكر أصلين في الحالين، من أصول الشرك وذكر غيرهما أيضا: الأصل الأول: شرك قوم نوح، والأصل الثاني: شرك قوم إبراهيم.

    (1/242)

    . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
    ـــــــــــــــــــــــــــــ
    [التمهيد لشرح كتاب التوحيد]
    وأما شرك قوم نوح فكان بالغلو في الصالحين، وأرواحهم؛ فجاءهم الشيطان من جهة روح ذلك العبد الصالح، وأثر تلك الروح، وأن من تعلق به فإنه يشفع له، ثم ساقهم من ذلك التعظيم إلى أن صوروا لهم صورا، ونصبوا لهم أنصابا، وأوثانا، وأصناما حتى إذا طال عليهم الأمد عبدوهم.
    الأصل الثاني: شرك قوم إبراهيم، وذلك شرك في التأثير، يعني: من جهة النظر في الكواكب ومن يؤثر ويحرك، فهذا شرك في الربوبية، وما تبعه من الشرك في الألوهية؛ لأنهم جعلوا لتلك الكواكب أصناما، وجعلوا لها صورا، وجعلوها أوثانا، فعبدوها من دون الله - جل وعلا - وتوجهوا إليها. فسبب وقوع الشرك في قوم نوح هو الغلو في الصالحين، كما قال ابن عباس هنا في بيان أصل وقوع هذا الشرك: " فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصابا، وسموها بأسمائهم، ففعلوا، ولم تعبد، حتى إذا هلك أولئك، ونسي العلم عبدت.
    وقال ابن القيم: قال غير واحد من السلف: " لما ماتوا عكفوا على قبورهم ثم صوروا تماثيلهم ثم طال عليهم الأمد فعبدوهم ": الشاهد من هذا: أن أولئك توجهوا إلى الصور - صور الصالحين - وكانوا أهل علم يعلمون أنهم إذا اتخذوا هذه الصور فإنهم لن يعبدوها. لكن كانت تلك الصور للصالحين والمعظمين وسيلة وطريقا وسببا لأن عبدت في المستقبل، لما نسي العلم. ومن حرص الشيطان المريد على إضلال العبيد: أنه ربما أتى إلى الصورة المتعلق بها، فأوهم الناظر إليها، أو المخاطب لها. أنها تتحدث

    (1/243)

    . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
    ـــــــــــــــــــــــــــــ
    [التمهيد لشرح كتاب التوحيد]
    وتتكلم، أو يسمع منها كلاما، أو نحو ذلك من الأشياء، وأصناف التصرفات التي تجعل القلوب تتعلق بتلك الروحانيات كما يقال، أو تلك الأرواح فيغري أولئك بهم، وهذا هو الحاصل عند عباد القبور، والعاكفين عليها؛ يأتي أحدهم، ويقول: ذهبت إلى القبر الفلاني، فكلمني أبي، ويكون ذلك شيطانا نطق على لسان أبيه، وربما تصور بصورة أبيه فخرج له في ظلام ونحوه، فيحدثه أبوه بصوته الذي يعرفه، أو يحدثه العالم، أو الوالي بصوته الذي يعرفه منه، فتقع الفتنة، وهذا من قبيل الشيطان؛ ولهذا قال ابن عباس هنا كلمة تبين السبب في ذلك؛ فقال: " أوحى الشيطان إلى قومهم " والوحي: إلقاء في خفاء، والشيطان لا يتحدث علنا، ولكن يوحي، يعني: يلقي في خفاء، فالوحي هو إلقاء الخبر في خفاء، فألقى الشيطان في روعهم وأنفسهم ذلك الأمر: فكان سببا للشرك بالله - جل وعلا - ولم يكونوا في أول الأمر يعبدونها، لكنهم لما صوروا صور أولئك الصالحين، ونصبوا لهم الأنصاب: كان ذلك سببا ووسيلة إلى عبادتهم، لكن أولئك الذين جعلوها وسائل، كان عندهم من العلم ما حجزهم عن عبادة الصالحين، لكن لما نسي العلم عبدت.
    وهذا الفعل الذي فعلوه بإيحاء الشيطان هو من الغلو في أولئك الصالحين. وهذا وجه الشاهد، وهو أنهم لما ماتوا عكفوا على قبورهم، أو صوروا صورهم، أو نصبوا الأنصاب في أماكنهم ليتذكروهم، وليكون ذلك أنشط لهم في العبادة أو العلم، ولكن هذه الأفعال التي فعلوها، كانت سببا من أسباب عبادة أولئك الصالحين، الذين غلوا في حبهم. وهذا هو مراد الشيخ - رحمه الله - من إيراد هذا الأثر.

    (1/244)

    . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
    ـــــــــــــــــــــــــــــ
    [التمهيد لشرح كتاب التوحيد]
    " وعن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد، فقولوا عبد الله ورسوله» (1) هذا الحديث فيه: النهي عن إطرائه عليه الصلاة والسلام، والإطراء هو: مجاوزة الحد - أيضا - في المدح، أما الغلو فهو يعم أمور كثيرة؛ فقد يكون في المدح، وقد يكون في الذم، وقد يكون في الفهم، وقد يكون في العلم، وقد يكون في العمل، أما الإطراء فهو: الغلو في المدح، والثناء والوصف. والنبي عليه الصلاة والسلام نهى عن إطرائه كإطراء النصارى ابن مريم، فقال: «إنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله» .
    وقد ظن بعض الناس أن (الكاف) في قوله «كما أطرت النصارى ابن مريم» أنها كاف المثلية؛ يعني: لا تطروني بمثل ما أطرت النصارى ابن مريم، ويقول هذا الظان: إن النصارى أطرت ابن مريم في شيء وحد، وهو أن قالوا: هو ابن الله جل وعلا، فيكون النهي عن أن تجعل له صلى الله عليه وسلم رتبة النبوة فقط، فإذا كان كذلك فما عداه جائز. وهذا هو فهم الخرافيين لهذا النهي؛ كما قال قائلهم البوصيري في هذا المقام:
    دع ما ادعته النصارى في نبيهم ... واحكم بما شئت فيه واحتكم
    أو كما قال، يعني: لا تقل: إنه ولد لله، أو إنه ابن لله، فهذا هو القدر المنهي عنه فقط، ولك أن تقول فيه بعد ذلك ما شئت غير ملوم وغير مثرب عليك.
    الوجه الثاني وهو الفهم الصحيح، وهو الذي يدل عليه السياق: أن (الكاف) هنا هي كاف القياس، والمعنى: لا تطروني إطراء، كما أطرت النصارى ابن مريم.
    _________
    (1) أخرجه البخاري (3445) والدارمي (2787) وأحمد (3029) وتقدم الحديث.

    (1/245)

    . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
    ـــــــــــــــــــــــــــــ
    [التمهيد لشرح كتاب التوحيد]
    وكاف القياس هي كاف التمثيل الناقص، وحقيقتها: أن يكون هناك شبه بين ما بعدها وما قبلها في أصل الفعل، فنهى صلى الله عليه وسلم في قوله: «لا تطروني كما أطرت» عن أن يطري عليه الصلاة والسلام كما حصل أن النصارى أطرت ابن مريم فهو تمثيل للحدث بالحدث، لا تمثيل أو نهي عن نوع الإطراء، فمعنى قوله: «لا تطروني كما أطرت» هو نهي عن إطرائه عليه الصلاة والسلام؛ لأجل أن النصارى أطرت ابن مريم، فقادهم ذلك إلى الكفر، والشرك بالله، وادعاء أنه ولد لله جل وعلا ولهذا قال: «إنما أنا عبد فقولوا: عبد الله ورسوله» .
    فالكاف هنا ليست كاف التمثيل الكامل؛ بأن يكون ما بعدها مماثلا لما قبلها من كل وجه، وإنما هي كاف التمثيل الذي يكون ما بعده مشتركا مع ما قبله في المعنى، وهي القياسية التي تجمعها العلة؛ ولهذا قال العلماء كما هو معلوم: هذا كهذا، فيقولون مثلا: نبيذ غير التمر والعنب، كنبيذ التمر والعنب، مساواة بين هذا وهذا، لوجود أصل المعنى بينهما، وهنا نهي عن الإطراء، لأجل وجود أصل الإطراء، في الاشتراك بين إطراء النصارى وما سببه من الشرك، وإطراء ما لو أطري النبي صلى الله عليه وسلم وما سيسببه من الشرك.
    وكثير من طوائف هذه الأمة خالفوا أمر النبي صلى الله عليه وسلم في النهي عن إطرائه حتى جاوزوا الحد في ذلك، فزعم زاعمهم أن له من الملك نصيبا، ولا حول ولا قوة إلا بالله. مع أنه صلى الله عليه وسلم أرشدهم إلى ما ينبغي أن يكون عليه الأمر بقوله: «إنما أنا عبد فقولوا: عبد الله ورسوله» وهذا هو الكمال في حقه عليه الصلاة والسلام: أن يكون عبدا رسولا، فهذا أشرف مقاماته عليه الصلاة والسلام.

    (1/246)

    . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
    ـــــــــــــــــــــــــــــ
    [التمهيد لشرح كتاب التوحيد]
    قوله: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إياكم والغلو فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو» : هذا نهي عن الغلو بأنواعه، وأن من قبلنا إنما أهلكهم الغلو؛ أهلكهم من جهة الدين، وأهلكهم - أيضا - من جهة الدنيا، فالغلو سبب لكل شر، والاقتصاد سبب في كل فلاح وخير، والغلو منهي عنه بجميع صوره، في الأقوال والأعمال يعني: في جميع أقوال القلب وأعماله، وكذلك أقوال اللسان وأعمال الجوارح، فالغلو سبب لهلاك العبد في دينه ودنياه.
    قوله: " ولمسلم: عن ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «هلك المتنطعون» يعني: هلك الذين تنطعوا فيما يأتون به في أفعالهم، أو أقوالهم، وهم الذين جاوزوا الحد في ذلك، وابتغوا علم شيء أو تكلفوا شيئا، لم يأذن به الله؛ فزادوا عما أذن لهم، وابتغوا علم شيء أو تكلفوا شيئا، لم يأذن به الله؛ فزادوا عما أذن لهم، فأتوا بأشياء، لم يؤذن لهم فيها. والتنطع، والإطراء، والغلو، متقاربة المعنى يجمعها مجاوزة الحد المشروع، والغلو يشمل الإطراء، ويشمل التنطع؛ فكل تنطع، وكل إطراء: غلو، والغلو اسم جامع لهذه جميعا، فالشيخ - رحمه الله - في هذا الباب - بين أن سبب كفر بني آدم، وسبب تركهم دينهم: هو الغلو في الصالحين، بأن جاوزوا الحد فيهم، كما جاوز قوم نوح الحد في صالحيهم، فعكفوا على قبورهم، وألهوها، فصارت آلهة، والنصارى غلت في رسولهم عيسى عليه السلام، وفي الحواريين، وفي البطارقة، حتى جعلوهم آلهة مع الله - جل وعلا - يستغيثون بهم، ويؤلهونهم، ويسألونهم ويعبدونهم، وكذلك وقع الغلو في هذه الأمة من الذين جعلوا للنبي عليه الصلاة والسلام نصيبا من

    (1/247)

    . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
    ـــــــــــــــــــــــــــــ
    [التمهيد لشرح كتاب التوحيد]
    خصائص الألوهية، وهذا هو عين ما نهى عنه عليه الصلاة والسلام بقوله: «لا تطروني كما أطرت النصارى المسيح بن مريم، إنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله» .

    في هذا الباب مع الأبواب بعده بيان أن النبي صلى الله عليه وسلم كان حريصا على هذه الأمة، وأنه كان بالمؤمنين رؤوفا رحيما، ومن تمام حرصه على الأمة أن حذرهم كل وسيلة تصل بهم إلى الشرك، وسد جميع الذرائع الموصلة إلى ذلك، وغلظ في ذلك، وشدد فيه، وأبدى وأعاد، حتى إنه بين ذلك؛ خشية أن يفوت تأكيده، وهو يعاني سكرات الموت عليه الصلاة والسلام.
    فهذه الأبواب في بيان وسائل الشرك الأكبر، وما ينبغي سده ومنعه من الذرائع الموصلة إليه؛ رعاية وحماية للتوحيد؛ لأن النبي - عليه الصلاة والسلام - غلظ على من يفعلون شيئا من تلك الوسائل، أو الذرائع الموصلة إلى الشرك.
    وهذا الباب في بيان أحد الوسائل الموصلة إلى الشرك، والذرائع التي يجب منعها.
    قوله - رحمه الله: " باب ما جاء من التغليظ فيمن عبد الله عند قبر رجل صالح ". صورة ذلك: أن يأتي آت إلى قبر رجل صالح، يعلم صلاحه - كأن يكون من الأنبياء والمرسلين، أو أن يكون من صالحي هذه الأمة، أو صالحي أمة غير هذه الأمة - فيتحرى ذلك المكان؛ كي يعبد الله وحده دون ما سواه؛ رجاء بركة هذه البقعة.
    وقد راج هذا الأمر عند الكثيرين من الناس، والدهماء، حيث اعتقدوا أن ما حول قبور الأنبياء والصالحين من الأمكنة والبقاع مبارك، وأن العبادة عندها ليست كالعبادة عند غيرها. والنبي عليه الصلاة والسلام غلظ في ذلك
    (1/248)
    التمهيد لشرح كتاب التوحيد
    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

    هل الله يُعذب نفسه لنفسههل الله يفتدى بنفسه لنفسههل الله هو الوالد وفى نفس الوقت المولوديعنى ولد نفسه سُبحان الله تعالى عما يقولون ويصفون

    راجع الموضوع التالي


  6. #6
    تاريخ التسجيل
    Nov 2011
    المشاركات
    1,892
    الدين
    الإسلام
    الجنس
    ذكر
    آخر نشاط
    23-05-2024
    على الساعة
    09:12 PM

    افتراضي

    بسم الله الرحمن الرحيم
    و به نستعين



















    [باب من الشرك النذر لغير الله تعالى]
    " باب من الشرك النذر لغير الله تعالى " وقول الله تعالى: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا} [الإنسان: 7] [الإنسان: 7] وقوله: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} [البقرة: 270] [البقرة: 270] .
    وفي الصحيح عن عائشة رضي الله عنها قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه» (1) .
    فيه مسائل:
    الأولى: وجوب الوفاء بالنذر.
    الثانية: إذا ثبت كونه عبادة لله، فصرفه إلى غيره شرك.
    الثالثة: أن نذر المعصية لا يجوز الوفاء به.
    ـــــــــــــــــــــــــــــ
    [التمهيد لشرح كتاب التوحيد]
    . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
    _________
    (1) أخرجه البخاري (6696) و (6700) .

    (1/157)

    . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
    ـــــــــــــــــــــــــــــ
    [التمهيد لشرح كتاب التوحيد]
    ولا شك أن النذر لغير الله شرك أكبر بالله - جل وعلا -، ووجه كونه شركا بالله - جل وعلا -: أن النذر هو: إلزام المكلف نفسه بعبادة لله - جل وعلا - إما مطلقا، وإما بقيد، فهذه حقيقة النذر.
    ومما يدل أيضا على أن النذر عبادة: أن الله - جل وعلا - مدح الذين يوفون بالنذر فقال: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا} [الإنسان: 7] [الإنسان: 7] ومدحه لهم يدل على أن الوفاء بالنذر أمر محبوب لله - عز وجل -، ولا يكون محبوبا إلا وهو مشروع، وذلك يقتضي أنه عبادة من العبادات، بل إن الوفاء بالنذر واجب؛ لأنه إلزام بطاعة، وقد قال: صلى الله عليه وسلم: «من نذر أن يطيع الله فليطعه» .
    ومما يدل أيضا على كون النذر عبادة قوله: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ} [البقرة: 270] [البقرة: 270] ووجه الدلالة: محبة الله - جل وعلا - لذلك الذي حصل منهم تعظيما له - سبحانه وتعالى - بالنذر.
    وإذا كان كذلك: فإنه عبادة من العبادات، فمن صرفه لغير الله - جل وعلا - كان مشركا بالله - جل وعلا -.
    وها هنا سؤال معروف قد يَرِدُ في هذا المقام، وهو أن النذر مكروه قد كرهه النبي صلى الله عليه وسلم، وسئل عنه فقال: «إنه لا يأتي بخير» (1) فكيف يكون عبادة وقد كرهه عليه الصلاة والسلام؟؟!
    _________
    (1) أخرجه البخاري (6693) ومسلم (1639) (4) .

    (1/158)

    . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
    ـــــــــــــــــــــــــــــ
    [التمهيد لشرح كتاب التوحيد]
    والجواب: أن النذر قسمان: نذر مطلق، ونذر مقيد، والنذر المطلق هو: أن يلزم العبد نفسه بعبادة لله - جل وعلا -، هكذا بلا قيد، كأن يقول مثلا: لله علي نذر أن أصلي ركعتين، وليس هذا النذر في مقابلة شيء يحدث له في المستقبل، أو شيء حدث له، فيلزم نفسه بعبادة: كصلاة، أو صيام، أو نحو ذلك، فهذا هو النذر المطلق وهو: إلزام العبد نفسه بطاعة لله - جل وعلا - أو بعبادة وليس هذا النذر هو الذي كرهه عليه الصلاة والسلام، بل النذر المكروه هو القسم الثاني: وهو النذر المقيد، وهو الذي قال فيه الرسول صلى الله عليه وسلم: «إنما يُستخرج به من البخيل» (1) . وحقيقته: أن يلزم العبد نفسه بطاعة لله - جل وعلا - مقابل شيء يحدثه الله - جل وعلا - له، ويقدره، ويقضيه له، كأن يقول مثلا: إن شفى الله مريضي فلله علي نذر: أن أتصدق بكذا وكذا، أو إن نجحت فسأصلي ليلة، أو إن عُيِّنت في هذه الوظيفة فسأصوم أسبوعا، ونحو ذلك، فهذا كأنه يشترط بهذا النذر على الله - جل وعلا - فيقول: يا رب إن أعطيتني كذا وكذا: صمتُ لك، وإن أنجحتني صليتُ، أو تصدقتُ، وإن شفيتَ مريضي فعلتُ كذا وكذا، يعني: مقابلةً للفعل بالفعل. وهذا هو الذي وصفه النبي عليه الصلاة والسلام بقوله: «إنما يُستخرج به من البخيل» لأن البخيل هو الذي لا يعمل العبادة حتى يقاضى عليها، فصار بما أعطاه الله من النعمة أو بما دفع عنه من النقمة كأنه في حِس ذلك الناذر قد أعطي الأجر، وأعطى ثمن تلك العبادة.
    _________
    (1) أخرجه مسلم (1639) (2) .

    (1/159)

    . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
    ـــــــــــــــــــــــــــــ
    [التمهيد لشرح كتاب التوحيد]
    وهذا المعنى الخاطئ يستحضره كثير من العوام الذين يستعملون النذور، فإنهم يظنون أن حاجتهم لا تحصل إلا بالنذر، وقد قال شيخ الإسلام - رحمه الله - وغيره من أهل العلم: إن من ظن أنه لا تحصل حاجاته إلا بالنذر، فإن اعتقاده هذا مُحرَّم؛ لأنه ظن أن الله لا يعطي إلا بمقابل، وهذا سوء ظن بالله - جل وعلا - وسوء اعتقاد فيه - سبحانه وتعالى -، بل هو المتفضل المنعم على خلقه.
    فإذا تبين لك ذلك فاعلم أن النذر المطلق لا يدخل في الكراهة، لكن إذا أطلقنا القول بأن: النذر عبادة، فهل يدخل في هذا الإطلاق النذر المقيد؟ والجواب: أن النذر المقيد له جهتان: الأولى: وفاؤه بالنذر الذي ألزم نفسه به فإنه يكون بذلك قد تعبد الله عبادة من هذه الجهة فيما يظهر.
    الجهة الثانية: جهة الكراهة المتعلقة بهذا النذر المقيد، وهي إنما جاءت لصفة الاعتقاد لا لصفة أصل العبادة، فإنه في النذر المقيد إذا قال: إن كان كذا وكذا فلله علي نذر كذا وكذا، كانت الكراهة راجعة إلى ذلك التقييد، لا إلى أصل النذر، دل على ذلك: التعليل؛ حيث قال: " فإنما يُستخرج به من البخيل ".
    فلا إشكال إذًا. فالنذر عبادة من العبادات العظيمة.
    وهنا قاعدة في أنواع الاستدلال على أن الاستدلال نوعان:
    النوع الأول: استدلال عام، يعني: أن كل دليل من الكتاب أو السنة فيه إفراد الله بالعبادة: يكون دليلا على أن كل عبادة لا تصلح إلا لله، فيكون الاستدلال بهذا النوع من الأدلة، على تحريم النذر لغير الله، وأنه شرك

    (1/160)

    . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
    ـــــــــــــــــــــــــــــ
    [التمهيد لشرح كتاب التوحيد]
    كالآتي: دل الدليل على وجوب صرف العبادة لله وحده، وعلى أنه لا يجوز صرف العبادة لغير الله - جل وعلا - وأن من صرفها لغير الله - جل وعلا - فقد أشرك، والنذر عبادة من العبادات، فمن نذر لغير الله: فقد أشرك.
    والنوع الثاني من الاستدلال: هو أن تستدل على المسائل بأدلة خاصة وردت فيها، كأن تستدل على تحريم الذبح لغير الله بأدلة خاصة وردت في ذلك، وكأن تستدل على وجوب الاستغاثة بالله وحده دون ما سواه بأدلة خاصة وردت بذلك، وكذا في الاستعاذة ونحو ذلك.
    فالدليل على وجوب إفراد الله بجميع أنواع العبادة تفصيلا وإجمالا، وعلى أن صرفها لغير الله شرك أكبر، يستقيم بهذين النوعين من الاستدلال: استدلال عام بكل آية أو حديث فيهما الأمر بإفراد الله بالعبادة، والنهي عن الشرك فتدخل هذه الصورة فيها؛ لأنها عبادة، بجامع تعريف العبادة.
    والثاني: أن تستدل على المسألة بخصوص ما ورد فيها من الأدلة؛ ولهذا قال الشيخ - رحمه الله - هنا: " باب من الشرك النذر لغير الله " واستدل على ذلك بخصوص أدلة وردت في النذر. وأما الآيات التي قدمها في أول الكتاب، كقوله - جل وعلا: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [الإسراء: 23] [الإسراء: 23] وكقوله: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] [الذاريات: 56] وكقوله: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} [النساء: 36] [الأنعام: 151] وكقوله: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} [الأنعام: 151] فهذه أدلة تصلح لأن يستدل بها على أن صرف النذر لغير الله شرك؛ فتقول: النذر لغير

    (1/161)

    . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
    ـــــــــــــــــــــــــــــ
    [التمهيد لشرح كتاب التوحيد]
    الله عبادة، والله - جل وعلا - نهى أن تصرف العبادة لغيره، وأن من صرف العبادة لغير الله فهو مشرك، فتقول: النذر عبادة؛ لأنه داخل في حد العبادة؛ لأن الله - جل وعلا - يرضاه، ومدح الموفين به.
    فالدليل الخاص إذًا هو: أن تستدل بخصوص ما جاء في الكتاب والسنة من الأدلة على النذر؛ ولهذا أورد الشيخ هنا الدليل التفصيلي، وفي أول الكتاب أتى بالأدلة العامة على كل مسائل العبادة، وهذا من الفقه الدقيق في التصنيف. ومن الفقه في الأدلة الشرعية: أن المستدل على مسائل التوحيد ينبغي له أن يراعي التنويع؛ لأن تنويع الاستدلال، وإيراد الأدلة من عدة وجوه من شأنه أن يضعف حجة الخصوم الذين يدعون الناس لعبادة غير الله وللشرك به - جل وعلا -، فإذا أوردت على الخصم مرة دليلا خاصا، وتارة دليلا عاما، ونوعت في ذلك، فإن هذا مما يضيق به المخاصم، ويقطع حجته، أما إذ لم تورد إلا دليلا واحدا فربما أوله لك، أو ناقشك فيه، فيحصل عند المستدل ضعف عند المواجهة، أما إذا انتبه لمقاصد أهل العلم، وحفظ الأدلة: فإنه يقوى على مجادلة الخصوم، والله - جل وعلا - وعد عباده بالنصر وكما في قوله: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} [غافر: 51] [الزمر: 51] وقد قال الشيخ - رحمه الله - في " كشف الشبهات ": والعامي من الموحدين يغلب الألف من علماء المشركين، وهذا صحيح؛ فإن عند العوام الذين علموا مسائل التوحيد، وأخذوها عن أهلها، عندهم من الحجج، ووضوح البينات في ذلك ما ليس عند بعض المتعلمين.

    (1/162)

    . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
    ـــــــــــــــــــــــــــــ
    [التمهيد لشرح كتاب التوحيد]
    وقول الله تعالى: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ} [الإنسان: 7] [الإنسان: 7] وجه الاستدلال به على كون النذر عبادة ظاهر: وهو أن الله - جل وعلا - مدح الموفين بالنذر، ومدحه للموفين بالنذر يقتضي أن الوفاء بالنذر محبوب له - جل وعلا -، وأنه مشروع، وما كان كذلك فهو من أنواع العبادات، فيكون صرفه لغير الله - جل وعلا - شركا أكبر.
    وكذلك قوله {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ} [البقرة: 270] [البقرة: 270] فإن الله عظم النذر بقوله: {فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ} [البقرة: 270] وعظم أهله، وهذا يدل على أن الوفاء به عبادة محبوبة لله - جل وعلا -.
    قوله: وفي الصحيح عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه» : وجه الدلالة من هذا الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم أوجب الوفاء بالنذر فقال: «من نذر أن يطيع الله فليطعه» وهذا فيه إيجاب الوفاء بالنذر المطلق الذي يكون طاعة، كأن يقول: لله على أن أصلي كذا وكذا، فهذا يجب عليه أن يوفي بنذره، وكذا إن كان النذر مقيدا، كأن يقول: إن شفى الله مريضي فلله علي أن أتصدق بمائة ريال، فهذا يجب عليه أن يوفي بنذره لله - جل وعلا -، وإيجاب ذلك يدل على أنه عبادة محبوبة؛ لأن الواجب من أنواع العبادات، وأن ما كان وسيلة إليه فإنه أيضا عبادة؛ لأن الوسيلة للوفاء بالنذر هي النذر، فلولا النذر لم يأت الوفاء، فأُوجب الوفاء؛ لأجل أن المكلف هو الذي ألزم نفسه بهذه العبادة.

    (1/163)

    . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
    ـــــــــــــــــــــــــــــ
    [التمهيد لشرح كتاب التوحيد]
    وأما المنع من الوفاء بنذر المعصية، الذي دل عليه قوله:. «ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه» ؛ فلأن إيجاب المكلف على نفسه معصية الله - جل وعلا - فيه معارضة لنهي الله - جل وعلا - عن العصيان، وإذا نذر العبد العصيان، فإن النذر - كما هو معلوم في الفقه - قد انعقد، ويجب عليه ألا يفي بفعل تلك المعصية، لكن يجب عليه أن يكفر عن ذلك كفارة يمين، ومحل ذلك باب النذر في كتب الفقه.
    فالمقصود من هذا: أن استدلال الشيخ - رحمه الله - بالشق الأول، وهو قوله: «من نذر أن يطيع الله فليطعه» ظاهر في الدلالة على أن النذر عبادة، وكذلك في قوله: «ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه» حيث أوجب عليه كفارة يمين، فهذا يدل على أن أصله منعقد، انعقد لكونه عبادة، وإذا كان عبادة فصرفها لغير الله شرك أكبر به - جل وعلا -.
    فالنذر لله - جل وعلا - عبادة عظيمة - كما ذكرنا - والنذر لغير الله - جل وعلا - أيضا عبادة، فإذا توجه الناذر لغير الله بالنذر فقد عبده، وإذا توجه الناذر لله - جل وعلا - بالنذر فقد عبد الله - جل وعلا -.
    فالنذر - على أية حال كان - لله، أو لغير الله، هو عبادة، ثم إن كان لله فهو عبادة لله - جل وعلا - وإن كان لغير الله فهو عبادة لذلك الغير، والله أعلم.

    هذا الباب عنونه الإمام - رحمه الله - بقوله " باب من الشرك الاستعاذة بغير الله تعالى " وهذا الباب مع الذي قبله والأبواب التي سلفت أيضا: كلها في بيان المقصد من هذا الكتاب، وبيان الغرض من تأليفه، وأن التوحيد إنما يُعرف بضده، فمن طلب التوحيد فليطلب ضده لأنه - أعني التوحيد - يجمع بين الإثبات والنفي، فيجمع بين الإيمان بالله، وبين الكفر بالطاغوت، فمن جمع بين هذين الأمرين فإنه يكون قد عرف التوحيد؛ ولهذا فصل الشيخ - رحمه الله - أفراد توحيد العبادة، وفصل أفراد الشرك؛ فبين أصناف الشرك الأصغر: القولي والعملي، وبين أصناف الشرك الأكبر: العملي والاعتقادي، فذكر الذبح لغير الله، وذكر النذر لغير الله، والذبح والنذر: عبادتان عظيمتان.
    فعبادة الذبح فعلية عملية، وعبادة النذر عبادة قولية إنشاءً، وعملية وفاءً، فالشرك الأكبر الذي يكون من جهة العمل، أنواع، وقد ذكر منها - على سبيل التمثيل - الذبح لغير الله، كما أنه ذكر النذر لغير الله، مثالا على أنواع الشرك الأكبر الحاصل من جهة القول، وكل من الذبح والنذر يصاحبهما اعتقاد تعظيم المخلوق، كتعظيم الله - عز وجل - وهذا شرك، قال تعالى: {يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} [البقرة: 165] [البقرة: 165] وقال: {تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ - إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 97 - 98] [الشعراء: 97 - 98] ثم عطف على ذلك: " باب من الشرك الاستعاذة بغير
    (1/164)
    التمهيد لشرح كتاب التوحيد
    التعديل الأخير تم بواسطة الشهاب الثاقب. ; 19-01-2018 الساعة 12:19 AM
    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

    هل الله يُعذب نفسه لنفسههل الله يفتدى بنفسه لنفسههل الله هو الوالد وفى نفس الوقت المولوديعنى ولد نفسه سُبحان الله تعالى عما يقولون ويصفون

    راجع الموضوع التالي


  7. #7
    تاريخ التسجيل
    Nov 2011
    المشاركات
    1,892
    الدين
    الإسلام
    الجنس
    ذكر
    آخر نشاط
    23-05-2024
    على الساعة
    09:12 PM

    افتراضي

    بسم الله الرحمن الرحيم
    و به نستعين


    {جَاءَ ثَلَاثَةُ رَهْطٍ إلى بُيُوتِ أزْوَاجِ النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، يَسْأَلُونَ عن عِبَادَةِ النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فَلَمَّا أُخْبِرُوا كَأنَّهُمْ تَقَالُّوهَا، فَقالوا: وأَيْنَ نَحْنُ مِنَ النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؟ قدْ غُفِرَ له ما تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِهِ وما تَأَخَّرَ، قالَ أحَدُهُمْ: أمَّا أنَا فإنِّي أُصَلِّي اللَّيْلَ أبَدًا، وقالَ آخَرُ: أنَا أصُومُ الدَّهْرَ ولَا أُفْطِرُ، وقالَ آخَرُ: أنَا أعْتَزِلُ النِّسَاءَ فلا أتَزَوَّجُ أبَدًا، فَجَاءَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إليهِم، فَقالَ: أنْتُمُ الَّذِينَ قُلتُمْ كَذَا وكَذَا، أما واللَّهِ إنِّي لَأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وأَتْقَاكُمْ له، لَكِنِّي أصُومُ وأُفْطِرُ، وأُصَلِّي وأَرْقُدُ، وأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فمَن رَغِبَ عن سُنَّتي فليسَ مِنِّي.}
    الراوي : أنس بن مالك | المحدث : البخاري | المصدر : صحيح البخاري
    الصفحة أو الرقم: 5063 | خلاصة حكم المحدث : [صحيح]

    موضوع ذو صلة

    حكم الصلاة في مسجد به ضريح و الرد على شبهات الصوفية ومن نحى نحوهم
    الصوفية الوجه الآخر
    الشهادتين...فضلهما، معناهما، شروطهما، نواقضهما (ابن جبرين)
    التعديل الأخير تم بواسطة الشهاب الثاقب. ; 05-05-2022 الساعة 08:54 PM
    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

    هل الله يُعذب نفسه لنفسههل الله يفتدى بنفسه لنفسههل الله هو الوالد وفى نفس الوقت المولوديعنى ولد نفسه سُبحان الله تعالى عما يقولون ويصفون

    راجع الموضوع التالي


رسالة التوحيد

معلومات الموضوع

الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع

الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)

المواضيع المتشابهه

  1. الشيخ عبدالرشيد صوفي (حتى اذا جاء احدهم الموت قال ربي ارجعون)
    بواسطة محمد عادل امين في المنتدى المنتدى الإسلامي
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 31-03-2017, 08:18 PM
  2. المصحف المرتل: عبد الرشيد صوفي (رواية حفص عن عاصم)
    بواسطة فريد عبد العليم في المنتدى المنتدى الإسلامي العام
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 08-05-2010, 02:00 AM
  3. العضو الناقل فادي طلع صوفي يا ناس
    بواسطة kholio5 في المنتدى مشروع كشف تدليس مواقع النصارى
    مشاركات: 20
    آخر مشاركة: 15-09-2007, 05:43 AM

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

المفضلات

المفضلات

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •  

رسالة التوحيد

رسالة التوحيد