دروس في أعلام السيرة النبوية الشريفة
الدرس الثاني
3ـ شرحبيل بن سعد (ت123ﻫ) : وهو أحد العلماء الذين لهم شأن في تاريخ سيرة الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولد في أواخر عهد عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أو أوائل عهد عثمان رضي الله تعالى عنه ، ولقي جماعة كبيرة من الصحابة بالمدينة ، وأخذ عنهم الحديث خاصة، منهم : زيد بن ثابت، وأبو هريرة، وأبو سعيد الخدري، وغيرهم، وكان يكثر من التردد على زيد بن ثابت فيقيم عنده في الأسواف. [ابن سعد ، الطبقات 5/228 . ابن حجر ، تهذيب التهذيب 4/321].
وأشاد ابن سعد بمنزلته العلمية ، فقال : ( كان شيخًا قديمًا ... وله أحاديث ). [ابن سعد ، الطبقات 5/228].
أما عن أهميته في المغازي فيُروى عن سفيان ابن عيينة قوله في شرحبيل بأنه : ( لم يكن أحد أعلم بالمغازي والبدريين منه ).[ ابن حجر ، تهذيب التهذيب 4/321 .] .
غير أن بعض المؤرخين والمحدثين وقف منه موقف المتحفظ ؛ ذلك أن بعضهم قال عنه :
( يجعل لمن لا سابقة له ، له سابقة ). [ ابن حجر ، تهذيب التهذيب 10/361 .] .
لكن موسى بن عقبة دافع عنه أشد دفاع، ويذكر ابن حجر ذلك بقوله : فسمع بذلك موسى بن عقبة فقال : وإنَّ الناس قد اجترؤوا على هذا ؟!...[ ابن حجر، تهذيب التهذيب10/362 .].
وقد أخذ عنه ابن سعد خبرًا عن هجرة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، من قباء إلى المدينة ، دون أن يذكر لهذه الفقرة أيَّ إسناد.[ابن سعد ، الطبقات 1/160].
4ـ عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم (ت135 ﻫ) : أحد مشاهير الجيل الثاني من التابعين ، وهو أحد علماء الحديث ، وقد وجَّه عناية خاصة إلى المغازي ، وفي هذا دلالة واضحة على شدة ارتباط علم الحديث بالسيرة ( المغازي ) .
ولد عبد الله بن أبي بكر من أسرة مدنيَّة عريقة من الأنصار، ونشأ بالمدينة، وتعلم على كبار علمائها، منهم والده أبو بكر بن محمد، الذي كان من المحدثين، فشجَّع ابنه على دراسة الحديث، كما أخذ عن خالة أبيه ؛ عمرة بنت عبد الرحمن، وعن أنس، وسالم بن عبد الله بن عمر، ... وعروة بن الزبير، والزهري، وأبي الزناد وهم من أقرانه [ابن حجر ، تهذيب التهذيب 5/164-165 . السخاوي ، التحفة اللطيفة 2/302 .] . وروى عنه الزهري أيضًا ، وابن أخيه عبد الملك بن محمد ، وهشام بن عروة ، وفليح بن سليمان ، وابن إسحاق ، والسفيانان ، وابن لهيعة ، وابن علية ، وغيرهم [ابن حجر ، تهذيب التهذيب 5/164-165 . السخاوي ، التحفة اللطيفة 2/302 .].
كان عبد الله بن أبي بكر من مشاهير المحدثين في المدينة ، وقد وَثَّقَه كثير من العلماء والمحدثين ، فوصفه الإمام مالك بقوله : ( كان كثير الحديث ، وكان رجل صِدْق) [ابن حجر ، تهذيب التهذيب 5/165 .].
وقال ابن سعد : ( كان كثير الحديث عالمًا ... ) [الذهبي ، تراجم رجال ، ص 25 ].
وكذلك وثقه ابن معين ، وأبو حاتم ، والنسائي [ابن حجر ، تهذيب التهذيب 5/165 .]،.
توفي عبد الله في المدينة سنة 135 ﻫ ، ويقال سنة 130 ﻫ ، والأول أرجح . [الذهبي ، تراجم رجال ، ص 25 .]
ومن خلال المقتبسات الكثيرة - التي نقلت عن عبد الله بن أبي بكر - في كتب السيرة والتاريخ ، يمكن للباحث أن يتصور مدى الأثر الكبير الذي تركه عبد الله فيما يتعلق بالمغازي بخاصة ، وبتاريخ حياة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وتاريخ صدر الإسلام عامة ، وكان من بين الروايات التي نقلت عنه : عند ابن إسحاق ، والواقدي ، وابن سعد ، والطبري .
إذ يرد في سيرة ابن هشام السند الآتي :( قال ابن إسحاق : حدثني عبد الله بن أبي بكر عن عمرة بنت عبد الرحمن بن سعد بن زرارة ، عن عائشة قالت : وذكر خبر الفيل ) [ابن هشام، السيرة ، 1/75 .].
ويتكرر السند نفسه عند الحديث عن خبر الإفك [الطبري ، تاريخ 2/611 .].
ويورد الطبري أيضًا خبر غزوات النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حديثًا مباشرًا ، نقله ابن إسحاق عن عبد الله بن أبي بكر وقد جاء كما يلي : ( ... عن محمد بن إسحاق عن عبد الله بن أبي بكر ، قال : كان جميع ما غزا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بنفسه ستًا وعشرين غزوة ، أول غزوة غزاها : ( ودان ) ، وهي غزوة الأبواء ، ثم غزوة ( بواط ) إلى ناحية ( رضوى) ، ثم غزوة العشيرة ، ثم أتى على ذكر الغزوات جميعًا .
ويورد خبر السرايا والبعوث كالآتي : ( ابن حميد قال : حدثنا سلمة قال : حدثني محمد بن إسحاق عن عبد الله بن أبي بكر قال : كانت سرايا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبعوثه - فيما بين أن قدم المدينة وبين أن قبضه الله - خمسًا وثلاثين سرية وبعثًا ... [الطبري ، تاريخ 3/154-156 . قارن : ابن هشام ، السيرة 2/609 ، ويذكر أنها (38) غزوة .].
وفي هذا دليل على مراعاة الترتيب الزمني في الحوادث ، ومنها الغزوات والسرايا والبعوث في عهد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ولم يقنع عبد الله بجمع الأخبار التي وصل إليها ، فحاول أيضًا في هذا الزمن المبكر أن يبتكر الترتيب السنوي للحوادث ، فجمع قائمة بغزوات النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مرتبة ترتيبًا سنويًا ، استعاره ابن إسحاق لكتابه .
وإلى جانب اهتمامه بالرواية التاريخية فقد حفظ عبد الله بعض المدونات النبوية التاريخية ، مثل الوثيقة التي أعطاها النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جدَّه الأكبر عمرو بن حزم ليأخذها معه حين بعثه إلى أهل ( نجران ) ليفقههم في الدين [ابن هشام ، السيرة 2/594].
وقد جاء عند ابن هشام والطبري ذكر إرسال ( عمرو بن حزم ) إليهم - كما أشرنا سابقًا - وأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( كتب له كتابًا ؛ عَهِدَ إليه فيه عَهْده ، وأمره فيه بأمره : بسم الله الرحمن الرحيم ، هذا بيان من الله ورسوله{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ }المائدة1، عهد من محمد النبي رسول الله ( لعمرو بن حزم ) ، بعثه إلى اليمن ... ) [ ابن هشام ، السيرة 2/594-595 . الطبري ، تاريخ 3/128 . مع فرق بسيط في بعض الألفاظ .] ، والكتاب ( الرسالة ) التي كتبها النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى ملوك حمير، وقد جاءت هي وكتاب ( عمرو بن حزم ) بالسند نفسه:( حدثني محمد بن إسحاق ، عن عبد الله بن أبي بكر قال : قدم على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كتاب ملوك حمير مَقْدَمه من تبوك ... فكتب إليهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( من محمد رسول الله إلى الحارث بن عبد كلال ...) [الطبري ، تاريخ 3/120 .]. وعرف عنه أنه روى بعض الشعر ، لا سيما ما رواه عن حسان بن ثابت شاعر الرسول.
وخلاصة القول فإن عبد الله بن أبي بكر كان من السابقين إلى الاهتمام بالمغازي ، وقد راعى فيها - كما أشرنا - الترتيب الزمني ، وهذا ما يجعله من أوائل الذين وضعوا المنهج الحَولِيّ في التاريخ الإسلامي ، عند مطلع القرن الثاني قد عُنِي - فضلاً عن ذلك - بالأخبار ، إلى جانب الروايات الشفهية الكثيرة التي نقلت عنه ، وبحكم علاقته الجيدة بابن إسحاق ؛ فقد اعتمد عليه الأخير في نقل الأخبار وأكثر من الرواية عنه .[ ينظر : شاكر مصطفى ، التاريخ العربي والمؤرخين ... ، ط2 ، دار العلم للملايين ، بيروت 1979 ، ص 156 .].
5ـ عاصم بن عمر بن قتادة (ت120 ﻫ وقيل 129 ﻫ) : هو عاصم بن عمر بن قتادة بن النعمان بن زيد بن عامر ، من بني ظفر من الأوس ، أبو عمر المدني، من أسرة مدنية عريقة من الأنصار ، كانت من السابقين للإسلام ، وكان جده ممن شارك في معركة بدر إلى جانب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فهو من طلائع المسلمين في المدينة ، وكان والده عمرو بن قتادة من رواة الحديث ، ولم يتقلد منصبًا رسميًا ، ولم يكن من الموسرين [ابن هشام ، السيرة 1/687 .].
ولم نقف على سنة ولادة عاصم بن عمر ، الذي نشأ في المدينة وأخذ عن مشاهير علمائها من الصحابة مثل : جابر بن عبد الله ، ومحمود بن لبيد ، وجدته رُمَيثــَة ولها صحبة ، وأنس والحسن بن محمد بن الحنفية وعلي بن الحسن وغيرهم.
وروى عنه من مشاهير العلماء : زيد بن أسلم ، ومن كتاب السيرة والمؤرخين محمد بن إسحاق ، وأبو الأسود يتيم عروة ، ويعقوب بن أبي سلمة الماجشون وغيرهم، وقد وفد على الخليفة عمر بن عبد العزيز بدمشق، وكان قد احتاج إلى المال، فطلب منه أن يجلس في مسجد دمشق فيحدث الناس بالمغازي ومناقب الصحابة، ففعل. [ابن حجر ، تهذيب التهذيب 5/53-54 . الذهبي ، تراجم رجال ، ص 22 .] .
ويظهر أن سبب اختيار الخليفة عمر بن عبد العزيز عاصمًا لهذه المهمة ؛ هو كونه من أهل العلم بالمغازي ، فقد وصفه ابن سعد بذلك ، وقال : (كان راوية للعلم ، وله عِلم بالمغازي والسيرة ... ) [ابن حجر ، تهذيب التهذيب 5/54-55 . الذهبي ، تراجم رجال ، ص 22 .].
ولم يمكث عاصم في دمشق طويلاً ، فقد عاد إلى المدينة ؛ يحدث الناس ما يقرب من عشرين عامًا.
وثَّقَهُ كثير من العلماء ، قال ابن سعد : (كان ثقة كثير الحديث عالمًا ، وذكره ابن حبان البستي في الثقات ، وقال البزاز : ثقة مشهور ، ووثقه أبو زرعة وابن معين ... ) [ابن حجر ، تهذيب التهذيب 5/54 . الذهبي ، تراجم رجال ، ص 22 .].
روى ابن إسحاق عن عاصم بن عمر بن قتادة الكثير من الروايات المتعلقة بالسيرة النبوية ، فمن العهد المكي ؛ نذكر خبرًا عن إنذار يهود برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وقصة إسلام سلمان رضي الله تعالى عنه، وخبرًا عن عرض النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نفسَه على العرب في المواسم، وقصته مع سويد بن صامت، وإسلام الأنصار في العقبة الأولى، وخبرًا عن بيعة العقبة الثانية، وكلام العباس بن عبد المطلب رضي الله تعالى عنه فيها، وغير ذلك.
وتسلسل هذه الأخبار عند ابن هشام على النحو الآتي : السيرة 1/211 ، 214 ، 425 ، 428 ، 434 ، 507 ، 524-525 ، 584 ، 606 ، 625 ، 627 ، 643 . .
وكذلك نقل عنه ابن إسحاق روايات وأخبارًا تتعلق بالعهد النبوي من السيرة النبوية ، مثل : خبرٍ عن نقابة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لبني النجار، وأخبار تتعلق بأمر المنافقين في المدينة، وروايات تتعلق بمعركة بدر الكبرى، وخبر عن نقض بني قينقاع للعهد مع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأخبار تتعلق بغزوة أحد ، وقائمة بمن استشهد فيها من المسلمين، ومقتل خبيب بن عدي، وأخبار عن غزوة الخندق، وعن غزوة بني قريظة ، وما يتعلق بغزوة بني لحيان ، وأخبار عن غزوة حنين ، ولقاء هوازن ، وعن غزوة تبوك ، وغير ذلك.
و تسلسل هذه الروايات عند ابن هشام على النحو الآتي : السيرة 1/507 ، 524-525 ، 584 ، 606 ، 625 ، 627 ، 643 ، 2/47 ، 60 ، 67 ، 82 ، 122 ، 172-173 ، 214 ، 223 ، 227 ، 240 ، 283 ، 292 ، 442 ، 443 ، 445 ، 498 ، 516 . .
وكذلك أخذ الواقدي عن عاصم بن عمر بن قتادة الكثيرَ من الأخبار المتعلقة بالمغازي النبوية.
[ينظر : الواقدي ، المغازي ، الصفحات على سبيل المقارنة : 49 ، 55 ، 59 ، 75 ، 125 ، 148 ، 158 ، 251 ، 447 ، 515 ، 541 ، 733 ، 1025 ، 1029 ، وغيرها .] .
ويُلاحظ على منهج عاصم في السيرة : أنه لا يهتم كثيرًا بالسند في رواياته ، مع أنه أَسْنَدَ عن جماعة ممن تأخرت وفاتهم من الصحابة ، وأن معظم مصادر رواته هم من الأنصار، أمثال : محمود بن لبيد، وأنس بن مالك، وعبد الله بن كعب بن مالك ، وعبد الرحمن بن جابر بن عبد الله ، وغيرهم. [ينظر لذلك ما أورده ابن هشام ، السيرة 1/214 ، 219 ، 2/87 ، 280 ، 281 ، 242 ، 498 ، 522 ، 526 ، وغيرها .].
وأنه يورد في بعض الأحيان أشعارًا يُضمِّنها رواياته.[عن هذه المقاطع الشعرية ينظر : ابن هشام ، السيرة 2/280 ، 503 ، 514 .].
ويُلاحظ - أيضًا - أن جلَّ اهتمام عاصم بن عمر بأخبار الأنصار؛ محاولاً إبراز موقفهم المشرف، والأعمال البطولية التي قدموها للرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في المعارك، واستشارته لهم ، وحبَّ الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للأنصار، والتوصيةَ بهم خيرًا في آخر خطبة له قبل مماته ، فهو إذًا يهتم بتاريخ الجماعات ، لا الأفراد.