المبحث الأول
حقيقة الروح القدس في الشرائع الألهية
الروح القدس من الحقائق الإيمانية الثابتة في الشرائع
الإلهية المنزلة على الأنبياء والرسل ، فكل أتباع الشرائع الإلهية يعتقدون وجوده
والإيمان به ، وبيـان ذلك فـيما يأتي :
المطلب الأول : حقيقة الروح القدس عند اليهود :
إن التوراة كتاب اليهود المقدس ذكرت الروح مضافة إلى القدس
وإلى الله وبدون إضافة ، فجاءت الروح بمعنى الوحي بالإلهام
، إذ جاء في سفر الخروج:
(( وملأته من روح الله بالحكمة والفهم والمعرفة وكل صنعة ))
، وجاء في سفر حزقيال : (( وحل عليّ روح
الرب وقال لي : قل هكذا قال
الرب ))
، وفيه أيضاً : ((
وأجعل روحي في داخلكم ، وأجعلكم تسلكون في فرائضي وتحفظون أحكامي وتعملون بها
))
.
وجاءت الروح بمعنى الثبات والنصرة التي يؤيد الله بها من يشاء من عباده المؤمنين ، إذ جاء في سفر التكوين عن يوسف عليه السلام : (( فقال فرعون لعبيده هل نجد مثل هذا رجلاً فيه روح الله ، ثم قال فرعون ليوسف بعدما أعلمك الله كل هذا، ليس بصير وحكيم مثلك)) ، وجاء في سفر المزامير على لسان داود عليه السلام : (( لا تطرحني من قدام وجهك ، وروح قدسك لا تنزعه مني )) ، وقـول النبي أشعياء : (( أين الذي جعل في وسطهم روح قدسه ، الذي سير ليمين موسى ذراع مجده )) .
وجاءت الروح بمعنى جبريل ـ عليه السلام ـ إذ جاء في سـفر أشعياء : (( ولكنهم تمردوا وأحزنوا روح قدسه ، فتحول لهم عدواً وهو حاربهم )) . وجاء عن داؤد عليه السلام : (( روح الرب تكلم بي، وكلمته على لساني )) ، وجاء في سفر دانيال : (( وسمعت صوت إنسان بين أولادي فنادى وقال يا جبرائيل فَهِّم هذا الرجل الرؤيا )) ، وفيه أيضاً : (( إذا بالرجل جبرائيل الذي رأيته في الرؤيا في الابتداء ... وقال يا دانيال إني خرجت الآن لأعلمك الفهم )) .
وجاء أن الروح تهب القوة والنشاط ، إذ جاء في سفر القضاة :
(( فحل عليه روح الرب فشقه كشق الجدي وليس في يده شىء))
، وفيه أيضاً :
(( وحل عليه روح الرب فنزل إلى أشقلون
وقتل منهم ثلاثين رجلاً وأخذ سلبهم ))
، وفيه أيضاً :
(( فكان عليه روح الرب وقضى لإسرائيل وخرج للحرب ))
.
كما جاءت الروح بمعنى الريح ، وبمعنى روح الإنسان ، وبمعنى الخلق والإحياء ، وبغير ذلك من المعاني .
والروح سواء أكانت مضافة إلى الله ، أم إلى القدس ، أم بدون إضافة ، فإن المعنى أنها صادرة عن الله تعالى ، كما تبين لنا ذلك من النصوص السابقة الدالة على معنى حقيقة الروح ، وأنها لا تعني سوى ذلك .
واليهود أهل التوراة يعرفون حقيقة معنى الروح ، ويعرفون أن الروح القدس هو الذي يأتي بالوحي إلى الأنبياء ، وأنه جبريل عليه السلام ، وأنه ينفذ أوامر الله، لا يأتي بشيء من عنده ، وما هو إلا عبد الله ورسوله ، وأحد خلقه من ملائكة الله المقربين ، ولكنهم مع كثرة نزوله بالعقاب عليهم لكثرة عصيانهم لله ، ومخالفة أمره ، كرهوا ملاك الله جبريل ، وكرهوا اسمه ، واعتبروه عدواً لهم ، ومحارباً لهم ، فقد ذكر سفر أشعياء هذه العداوة التي ملأت قلوبهم ، ونطقت بها أفواههم ، إذ جاء فيه : (( إحسانات الرب ، اذكر تسابيح الرب حسب كل ما كافأنا به الرب ، والخير العظيم لبيت إسرائيل الذي كافأهم به حسب مراحمه وحسب كثرة إحساناته ، وقد قال حقاً إنهم شعبي ، بنون لا يخونون ، فصار لهم مخلصاً ، في كل ضيقهم تضايق ، وملاك حضرته خلصهم ، بمحبته ورأفته هوفكَهم ، ورفعهم وحملهم كل الأيام القديمة ، ولكنهم تمردوا وأحزنوا روح قدسه ، فتحول لهم عدواً وهو حاربهم )) .
هذه العداوة من اليهود للروح القدس جبريل ـ عليه السلام ـ جعلتهم يكرهون ذكر اسمه ، لذلك فقد اهتم اليهود بسؤال الأنبياء عن الروح الذي يأتي بالوحي من السماء ، فإن كان جبريل قاطعوا النبي ولم يسمعوا له ، فقد ثبت في صحيح البخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه ، قال : سمع عبد الله ابن سلام بقدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو في أرضٍ يخترف ، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : إني سائلك عن ثلاث لا يعلمهن إلا نبي ، فما أول أشراط الساعة ؟ وما أول طعام أهل الجنة ؟ وما ينزع الولد إلى أبيه أو إلى أمه ؟ قال : أخبرني بهن جبريل آنفاً ، قال : جبريل ؟ قال : نعم ، قال : ذاك عدو اليهود من الملائكة ، فقرأ هذه الآية : (( من كان عدواً لجبريل فإنه نزله على قلبك )) ... الحديث .
وروى الإمام أحمد عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال : أقبلت يهود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : يا أبا القاسم إنا نسألك عن خمسة أشيـاء فإن أنبأتنا بهن عرفنا أنك نبي واتبعناك ، فأخذ عليهم ما أخذ إسرائيل على بنيه ، إذ قالوا : الله على نقول وكيل ، قال : هاتوا ـ الحديث ـ إلى أن قالوا : صدقت ، إنما بقيت واحدة ، وهي التي نبايعك إن أخبرتنا بها ، فإنه ليس من نبي إلا له ملك يأتيه بالخبر ، فأخبرنا من صاحبك ؟
قال :جبريل ـ عليــه السلام ـ قالوا : جبريل ذاك الذي ينزل بالحرب والقتال والعذاب عدونا، لو قلت : ميكائيل الذي ينزل بالرحمة والنبات والقطر لكان ، فأنزل الله عز وجل : (( قل من كان عدواً لجبريل فإنه نزله على قلبك )) إلى قوله : (( فإن الله عدوٌ للكافرين )) .
وساق ابن جرير بسنده نحواً من هذا الحديث ، ثم ذكر روايات أخرى جاء فيها زعم اليهود أن جبريل عدوهم ، وأنه يأتيهم بالشـدة وسفك الدماء ، والحـرب والقتال .
فتبين أن هؤلاء اليهود يعرفون حقيقة الروح القدس وأنه جبريل عليه السلام وهو المذكور في كتبهم المنزلة على أنبيائهم .
المطلب الثاني : حقيقة الروح القدس عند النصارى :
أما النصارى وهم أيضاً يعتقدون بقدسية كتب اليهود ، وهي جزء من كتابهم المقدس ويسمونه بالعهد القديم ، ويؤمنون به كإيمانهم بالعهد الجديد (الأناجيل والرسائل) وهو حجة عليهم فيـما ورد فيه عن حقيقة الروح القـدس ، فقد جـاء في الأناجيل والرسائل ما يصدق ما جاء في التوراة عن حقيقة الروح القدس ، فقد ذكرت تلك الكتب أن الروح القدس ـ عليه السلام ـ كان مع داود عليه السلام : (( لأن داود نفسه قال بالروح القدس قال الرب لربي )) ، وأن المسيح ـ عليه السلام ـ قال لهم عنه : (( فكيف يدعوه داود بالروح )) ، وأنه نزل بالوحي إلى الأنبياء والرسل ، إذ جاء في سفر أعمال الرسل : (( فانصرفوا وهم غير متفقين بعضهم مع بعض لما قال بولس كلمة واحدة إنه حسناً كلم الروح القدس آباءنا بأشعياء النبي ، قائلاً اذهب إلى هذا الشعب )) ، وجاء في رسالة بطرس الثانية : (( لم تأت نبوة قط بمشيئة إنسان ، بل تكلم أناس الله القديسون مسوقين من الروح القدس )) ، وذكر سفر أعمال الرسل عداوة اليهود للروح القدس جبريل ـ عليه السلام ـ إذ جاء فيه : (( يا قساة الرقاب وغير المختونين بالقلوب والآذان أنتم دائماً تقاومون روح القدس ، كما كان آباؤكم كذلك أنتم ، أي الأنبياء لم يضطهده آباؤكم )) ، ومن صفاته أنه روح الله الحي إذ جـاء في رسالة بولس الثانية إلى أهـل كورنثوس : (( جبرائيل روح الله الحي )) ، وفي الإنجيل أنه بشر زكريا بميلاد يوحنا عليهما السلام : (( فظهرله ملاك الرب واقفاً عن يمين مذبح البخور ، فلما رآه زكريا اضطرب ووقع عليه خوف ، فقال له الملاك : لا تخف يا زكـريا لأن طلبتك قد سمعت )) ، وأخبره في هذه البشارة أن امرأته ستلد له ابناً وتسميه يوحنا ، ويكون له فرحاً وابتهاجاً : (( لأنه يكون عظيماً أمام الرب ، وخمراً ومسكراً لا يشرب ، ومـن بطن أمه يمتلئ مـن الروح القدس )) ، كمـا أن مـريم أم المسيح وجدت حبلى من الروح القدس : (( و لما كانت مريم أمه مخطوبة ليوسف قبل أن يجتمعا وجدت حبلى من الروح القدس ))
كما نزل الروح القدس على المسيح عليه السلام ، واستمر معه بعد أن عمده يوحنا المعمدان في ماء الأردن : (( ولما اعتمد جميع الشعب اعتمد يسوع أيضاً ، وإذ كان يصلى انفتحت السماء ونزل عليه الروح القـدس بهيئـة جسمية مثل حمامة )) ، وقال يوحنا المعمدان : (( إني قد رأيت الروح نازلاً مثل حمامة من السماء فاستقر عليه ، وأنا لم أكن أعرفه ، لكن الذي أرسلني لأعمد بالماء ذاك قال لي الذي ترى الروح نازلاً ومستقراً عليه فهذا هو الذي يعمد بالروح القدس )) ، وجاء في الإنجيل : (( وفي تلك الأيام جاء يسوع ... واعتمد من يوحنا في الأردن ، وللوقت وهو صاعد من الماء رأى السموات قد انشقت والروح مثل حمامة نازلاً عليه ))
كما أن الروح القدس مؤيدٌ للمسيح في دعوته ومعجزاته : (( أما يسوع فرجع من الأردن ممتلئاً من الروح القدس، وكان يقتاد بالروح في الـبرية )) ، وجـاء أيـضاً : (( ورجع يسوع بقوة الروح إلى الجليل ..... وكان يعلم في مجامعهم )) ، وفي الإنجيل يقول المسيح عليه السلام : (( روح الرب عليّ لأنه مسحني لأبشر المساكين ، أرسلني لأشفي المنكسري القلوب )) ، ويتحدث سفر أعمال الرسل عن المعجزات التي أيد الله بها المسيح بواسطة الروح القدس ، إذ يقول : (( يسوع الذي من الناصرة كيف مسحه الله بالروح القدس والقوة الذي جال يصنع خيراً ويشفي جميع المتسلط عليهم إبليس لأن الله كان معه )) ، ففي هذين النصين نجد أن الروح القدس مرادفاً للفظ القوة ، أي أنه القوة التي أيد الله بها المسيح ـ عليه السلام ـ واستطاع بهذه القوة شفاء الأمراض ، وإجراء المعجزات ، بإذن الله تعالى ، وهي القوة التي أيد الله بها أنبياءه ورسله ، ومن شاء من عباده المؤمنين .
كما أخبر المسيح ـ عليه السلام ـ تلاميذه ورسله ، بأن الروح القدس سيلهمهم ويؤيدهم ، فقال : (( ولكن احذروا من الناس ، لأنهم سيسلمونكم إلى مجالس ، وفي مجامعهم يجلدونكم وتساقون أمام ولاة وملوك من أجلي، شهادة لهم وللأمم ، فمتى أسلموكم فلا تهتموا كيف أو بما تتكلمون ، لأنكم تعطون في تلك الساعة ما تتكلمون به ، لأن لستم أنتم المتكلمين ، بل روح أبيكم الذي يتكلم فيكم )) ، وقال عليه السلام : (( ومتى قدموكم إلى المجامع والرؤساء والسلاطين فلا تهتموا كيف أوبما تقولون ، لأن الروح القدس يعلمكم في تلك الساعة مايجب أن تقولوه )) .
وعند سؤال اليهود للمسيح ـ عليه السلام ـ عن الملاك الذي يؤيده الله به ، أخبرهم أنه الروح القدس ، فردوا على المسيح رداً قبيحاً ، وزعموا أنه روح نجس ، ومرة أخرى زعموا أن الروح القـدس (( بلعزبول )) يعني رئيس الشياطين، ففي الإنـجيل : (( أما الفريسيون فلما سمعوا ( أي عن شفاء المسيح للمجنون ) قالوا هذا لا يخرج الشياطين إلا ببلعزبول رئيس الشياطين ، فعلم يسوع أفكارهم ، وقـال لهم ... إن كنت أنا ببلعزبول أخرج الشياطين فأبناؤكم بمن يخرجون ، لذلك هم يكونون قضاتكم ، ولكن إن كنت أنا بروح الله أخـرج الشيطان فقـد أقبـل عليكم مـلكوت الله )) .
ثم حذرهم ـ عليه السلام ـ من القول على الروح القدس إنه روح نجس ، فقال : (( لذلك أقول لكم كل خطية وتجديف يغفر للناس وأما التجديف على الروح فلن يغفر للناس ، ومن قال كلمة على ابن الإنسان يغفر له ، وأما من قال على الروح القدس فلن يغفر له لا في هذا العالم ولا في الآتي )) . وقال أيضاً : (( الحق أقول لكم إن جميع الخطايا تغفر لبني البشر والتجاديف التي يجدفونها ، ولكن من جدف على الروح القدس فليس له مغفرة إلى الأبد ، بل هو مستوجب دينونة أبدية ، لأنهم قالوا إن معه روحاً نجساً )) .
كما أن يوحنا المعمدان أخبر اليهود أن الذي سيأتي من بعده يعمد بالروح القدس ، فقال : (( والآن قد وضعت الفأس على أصل الشجرة ، فكل شجرة لا تصنع ثمراً جيداً تقطع وتلقى في النار ، أنا أعمدكم بماء للتوبة ، ولكن الذي يأتي بعدي هو أقوى مني ، لذلك لست أهلاً أن أحل حذاءه ، هو سيعمدكم بالروح القدس ونار ، الذي رفشه في يده ، وسينقي بيدره ويجمع قمحه إلى المخزن ، وأما التبن ، فيحـرقه بنـار لا تطـفأ)) .
وهذا الخبر يحمل بشارة ، ويظهر أنها دلالة على نبوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ، إذ ورد الكثير من البشارات به في التوراة والإنجيل ، ولكن النصارى لما جعلوا المسيح ـ عليه السلام ـ محوراً لكل الأحداث ، قالوا إن يوحنا يتكلم هنا عن المسيح ، علماً بأن المسيح كان معاصراً ليوحنا ولم يأت بعده ، وكان بنفس السن بفارق ستة أشهر في الميلاد ، بدليل أن المسيح تعمد بالماء على يد يوحنا ، كما ورد في النصوص السابقة من أناجيل متى ولوقا ومرقس .
كما أن ( يوحنا) يحيى ـ عليه السلام ـ عرف العلامة على المسيح من نزول الروح القدس عليه مثل حمامة ، إذ قال : (( إني قد رأيت الروح نازلاً مثل حمامة من السماء فاستقر عليه ، وأنا لم أكن أعرفه ، لكن الذي أرسلني لأعمد بالماء ذاك قال لي الذي ترى الروح نازلاً ومستقراً عليه فهذا هو الذي يعمد بالروح القدس )) ، وهذا يدل على أنه أمين الوحي جبريل عليه السلام بدليل قوله : (( فلما اعتمد يسوع صعد للوقت من الماء ، وإذا السموات قد انفتحت له ، فرأى روح الله نازلاً مثل حمامة وآتياً عليه ، وصوت من السموات قائلاً هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت )) ، وهذا الصوت من السموات هو الوحي الذي جاء به جبريل ، وهو قوله : (( هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت)) ، والبنوة في هـذا النص وفي غيره مـن النصوص الإنجيلية لا يقصد بها البنوة التناسلية ، وإنما يقصد بها حنان الله ورعايته له وقـربه من الله ، بدليل أن الأناجيل تطلق على تلاميذ المسيح وكل الناس المؤمنين بالله بأنهم أبناء الله .
ونزول الروح القدس على المسيح -عليه السلام- على هيئة حمامة ، أو نزول غيره من الملائكة على أي هيئة كانت ، معلومة عند الأنبياء وأتباعهم ، فقد ذكر الله تعالى نزول الملائكة على إبراهيم عليه السلام على هيئة رجال ، قال تعالى : (( هل أتاك حديث ضيف إبراهيم المكرمين ، إذ دخلوا عليه فقالوا سلاماً قال سلام قوم منكرون ، فراغ إلى أهله فجاء بعجل سمين ، فقربه إليهم قال ألا تأكلون ، فأوجس منهم خيفة قالوا لا تخف وبشروه بغلام عليم ، فأقبلت امرأته في صرة فصكت وجهها وقالت عجوز عقيم ، قالوا كذلك قال ربك إنه هو الحكيم العليم ، قال فما خطبكم أيها المرسلون ، قالوا إنا أرسلنا إلى قـوم مجرمين لنرسل عليهم حجارة مـن طين مسومة عـند ربك للمسرفين )) .
وكذلك كان نزول الروح القدس جبريل عليه السلام ، على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ، كان ينزل بعض المرات على هيئته التي خلقه الله عليها ، وينزل في مرات أخرى على هيئة الصحابي الجليل دحية بن خليفة الكلبي .
وبهذا يتبين لنا من هذه النصوص حقيقة الروح القدس ، وأنه كان مع داود ـ عليه السلام ـ وأنه بشر زكريا ، ومريم ، وأن يحيى والمسيح ـ عليهما السلام ـ وكذلك تلاميذ المسيح ورسله كان يعضدهم الروح القدس ، ويحل عليهم ، ومنه يمتلئون ، ويؤيدهم بالنصر ، كما بينت تلك النصوص أن المسيح ـ عليه السلام ـ حذر اليهود من ألفاظ السوء التي يقولونها على الروح القدس ، وأن من يفعل ذلك فلن يغفر له لا في الدنيا ولا في الآخرة .
كما بينت تلك النصوص ، أن الروح القدس ورد ذكره بمعنى جبريل ـ عليه السلام ـ وبمعنى الوحي الإلهي ، وبمعنى النصر والتأييد للمؤمنين ، ويبدو أن هذا هو الاعتقاد الذي كان عليه النصارى في حياة المسيح وحواريوه والقرون الثلاثة الأولى لميلاده ، بدليل أن الشواهد من مصادرهم الدينية ـ الآنفة الذكر ـ لاتعني سوى ذلك ، لأن اعتقادهم ألهيته لم يتقرر إلا بعد رفع المسيح ـ عليه السلام ـ بأربعة قرون ، أي في مجمع القسطنطينية سـنة 381م ، كما سيــأتي بيانه .
المطلب الثالث : حقيقة الروح القدس عند المسلمين :
هذه الصــفات للروح القــدس ـ حسب المصادر الدينية السابقة ـ هي التي صدقها القرآن الكريم المنزل على خاتم المرسلين ، والمصدق لما بين يديه من الكتب السابقة ، والمهيمن عليها ، فقد جاء الروح في القرآن الكريم ، على عدة أوجه :
أحدها : الوحي الإلهي ، قال تعالى : (( ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده أن أنذروا أنه لا إله إلا أنا فاتقون )) ، وقال تعالى : (( وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ، ولكن جعلناه نوراً نهدي به من نشاء من عبادنا )) ، وقال تعالى : (( يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده لينذر يوم التلاق )) .
الثاني : القوة والثبات والنصرة التي يؤيد بها من يشاء من عباده المؤمنين ، قال تعالى: (( أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه )) .
الثالث : ويأتي الروح بمعنى جبريل ـ عليه السلام ـ قال تعالى : (( نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين )) ، وقال تعالى : (( قل من كان عدواً لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله )) ، وهو روح القدس ، قال تعالى : (( قل نزله روح القدس من ربك بالحق )) ، وقال تعالى : (( وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس )) ، وقال تعالى : (( إذ قال الله يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك إذ أيدتك بروح القدس تكلم الناس في المهد وكهلاً )) .
الرابع : الروح التي سأل عنها اليهود ، فأجيبوا بأنها من أمر الله ، قال تعالى : (( يسألونك عن الروح ، قل الروح من أمر ربي )) ، وقد قيل إنها الروح المذكورة في قوله تعالى : (( يوم يقوم الروح والملائكة صفاً لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صواباً )) ، وقـال تعـالى : (( تـنزل الملائكة والروح فيـها بإذن ربـهم من كل أمـر )) .
الخامس : المسيح بن مريم ، قال تعالى : (( إنما المسيح عيسى بن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه )) ، وقال تعالى : (( والتي أحصنت فرجها فنفخنا فيها من روحنا وجعلناها وابنها آية للعالمين )) ، وقال تعالى : (( ومريم ابنت عمران التي أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا وصدقت بكلمات ربها وكتبه وكانت من القانتين )) .
ووجه اختصاص إضافة روح عيسى ـ عليه السلام ـ إلى الله تعالى ، أنه لما كان الله تعالى خلقه بكلمته ، أي خلقه بالكلمة التي أرسل بها جبريل ـ عليه السلام ـ إلى مريم فنفخ فيها من روحه بإذن ربه عز وجل فكان عيسى بإذنه عز وجل ، وكانت تلك النفخة التي نفخها في جيب درعها ، فنزلت حتى ولجت فرجها بمنزلة لقاح الأب والأم ، والجميع مخلوق الله عز وجل ، ولهذا قيل لعيسى : إنه كلمة الله وروح منه ، لأنه لم يكن له أب تولد منه ، وإنما هو ناشئ عن الكلمة التي قال له بها كن فكان ، والروح التي أرسل بها جبريل ـ عليه السلام ـ قال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة : (( وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه )) ، هو كـقوله : (( كن فيكون )) .
قال ابن أبي حاتم :
(( وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه ))
قال : ليس الكلمة صارت عيسى ، ولكن بالكلمة صار عيسى )) . إنها الكلمة
التي جاء بها جبريل إلى مريم ، فنفخ فيها بإذن الله فكان عيسى ـ عليه السلام ـ قال
البخاري بسنده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :
(( من شهد أن لا إله إلا الله ، وحده لاشريك له ،
وأن محمداً عبده ورسوله ، وأن عيسى عبد الله ورسوله ، وكلمته ألقاها إلى مريم وروح
منه ، والجنة حق والنار حق ، أدخله الله الجنة على ماكان من العمل ))
، فقوله في الآية والحديث
(( وروح منه))
كقوله تعالى : (( وسخر لكم ما في السموت
وما في الأرض جميعاً منه)) ،
أي : من خلقه ومن عنده ، وليست من للتبعيض كما تقوله النصارى .. بل هي لابتداء
الغاية ، وقال مجاهد في قوله (( وروح منه
)) أي : رسول منه ، وقال غيره : ومحبة منه
، والأظهر الأول وهو أنه مخلوق من روح مخلوقة ، وأضيفت الروح إلى الله على وجه
التشريف ، كما أضيفت الناقة والبيت إلى الله في قوله:
(( هذه ناقة الله ))
، وفي قوله : (( وطهر بيتي للطائفين
)) ، وكما روي في الحديث الصحيح :
(( فأستأذن على ربي في داره ))
، أضافها إليه إضافة تشريف ، وهذا كله من قبيل واحد ونمط واحد .
ويقول الإمام القرافي ـ رحمه الله ـ في معنى الروح : إن الروح اسم للريح الذي بين الخافقين ، يقال لها ريح وروح لغتان ، وكذلك في الجمع رياح وأرواح ، واسم لجبريل عليه السلام ، وهو المسمى بروح القدس ، والروح اسم للنفس المقومة للجسم الحيواني ... إن معنى الروح المذكورة في القرآن الكريم في حق عيسى عليه السلام ، هو الروح الذي بمعنى النفس المقومة لبدن الإنسان ، ومعنى نفخ الله تعالى في عيسى ـ عليه السلام ـ مـن روحه ، أنه خلق روحاً نفخها فيه ، فـإن جميع أرواح الناس يصدق أنها روح الله ، وروح كل حيوان هي روح الله تعالى ، فإن الإضافة في لسان العرب تصدق حقيقة بأدنى الملابسة، كقول أحد حاملي الخشبة للآخر : طرفي مثل طرفك ، وشل طرفك : يريد طرف الخشبة ، فجعله طرفاً للحامل ، ويقول : طلع كوكب زيد ، إذا كان نجم عند طلوعه يسري بالليل ، ونسبة الكوكب إليه نسبة المقارنة فقـط، فكيف لا يضاف كل روح إلى الله تعالى وهو خالقها ومدبرها في جميع أحوالها ؟ وكذلك يقول بعض الفضلاء : لما سئل عن هذه الآية ، فقال : نفخ الله تعالى في عيسى عليه السلام روحاً من أرواحه ، أي : جميع أرواح الحيوان أرواحه ، وأما تخصيص عيسى عليه السلام بالذكر ، فللتنبيه على شرف عيسى عليه السلام ، وعلو منزلته ، بذكر الإضافة إليه ، كما قال تعالى : (( إن كنتم آمنتم بالله وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان )) ، و (( إن عبادي ليس لك عليهم سلطان )) ، مع أن الجميع عبيده ، وإنما التخصيص لبيان منزلة المخصص .
لكن النصارى مع هذه البينات الصريحة الواضحة عن حقيقة الروح القدس المذكورة في كتب الله السابقة واللاحقة ، يأبى عليهم ضلالهم وانحرافهم عن الحق إلا تحريف مثل هذه النصوص المحكمة ، وتأويلها على غير مراد الله عز وجل ، أحدثوا ذلك وأقروه في مجامعهم بعد عدة قرون من رفع المسيح ـ عليه السلام ـ فأولوا تلك النصوص وحرفوها ، وحرفوا الكثير من أحكام تلك الكتب لتوافق اعتقادهم ألوهية المسيح وألوهية الروح القدس ، فأحدثوا عقيدة التثليث الذي يتكون عندهم من الآب والابن والروح القدس ، وغير ذلك الكثير مما حرفوه وبدلوه ، وخالفوا فيه كتب الله المنزلة.